مذكرات عاكف

صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (22)

محمد مهدي عاكف - جيتي
محمد مهدي عاكف - جيتي

نريد مرشدا جديدا

 

حدثت حادثة طريفة جدا. فقد قيل إن الأستاذ الهضيبي حدثت له جلطة في المخ، ومن حماسي وخوفي على الإخوان، خصوصا مع الصراعات الموجودة في الداخل والخارج، أمسكت بورقة وقلم وكتبت للأستاذ الهضيبي، وقلت له: إن الأعمار بيد الله، ولا أحد يعلم الذي سيحدث في المستقبل، فأقترح على فضيلتكم أن تختار هيئة تأسيسية مكونة من 25 فردا، بعضهم من السجن وبعضهم من الخارج، لقيادة الجماعة في غيبة فضيلتك، وكان هذا حوالي عام 1963 أو 1964م، فأرسل لي كلمتين ونصف فقط: "قولوا لعاكف لماذا أنت مستعجل؟".

في سجن قنا

في أيار/ مايو 1964م نقلونا إلى سجن قنا وقسمونا: التأبيدة في جانب، وأصحاب الخمسة عشر عاما في جانب آخر. وكنا هناك حوالي 36 أخا، إلى أن انضم إلينا عام 1968م ما يقرب من 70 أو 80 أخا، من قضية سنة 1965 الذين نشأت فيهم بذور فكر التكفير، وبذلنا جهدا كبيرا معهم لمدة ثلاث سنوات، حتى استطعنا أن نعيدهم إلى حظيرة الإخوان ومفاهيم الإسلام الصحيحة.

لقد أرسل لنا المرشد العام نسخة من كتاب "دعاة لا قضاة"، وتدارسناه جيدا، لكنني انتقلت لسجن الليمان، فلم يكن الموضوع قد اشتدت جذوته.

وكنا نعاني، كالعادة في بداية ذهابنا إلى أي سجن، من صعوبات كثيرة، ونمر بأيام شداد ومحن. وكانت الزنازين مغلقة، لكننا تمكنا من التواصل مع المساجين، حتى أصبح لنا مكانتنا، وأصبحنا بالتدرج نخرج لنمارس الرياضة.

من الطرائف

ومن الحوادث الطريفة التي أذكرها في سجن قنا، أنه كان هناك شخص من بورسعيد قد حضر في قضية مخدرات، وكان السجانون يضايقونه كثيرا ويضيقون عليه، وإذا جاءه طعام من زيارة يأكلونه منه، وإذا همّ بأكل طعام السجن يأكلونه منه أيضا.. فأحضر بعض الشباشب وقام بتقطيعها أجزاء صغيرة، ثم طبخها بالطماطم حتى صار كأنه طبق من اللحم الظريف، فقام السجانون بأكله وهم يتساءلون: لماذا هذا اللحم جامد كدا؟

بسيوني جمعة

أحضروا لنا في قنا شخصا يدعى بسيوني جمعة، كان يبيع جريدة "الوقائع المصرية" نهارا، وفي المساء كان يمسك البطارية في سينما سان جيمس، وكانت ملكا لشخص يهودي. وفي إحدى المرات ذهب أمين عثمان باشا للسينما ومعه كلبه، فأمسك بسيوني جمعة بالكلب ليداعبه، فقام أمين عثمان باشا بترقيته من الدرجة الثامنة إلى الدرجة السابعة، وعندما جاء عبد الناصر عام 1956 وطرد اليهود، أراد ذلك اليهودي مالك السينما أن يفوت على عبد الناصر فرصة الاستيلاء عليها، فكتب المكتب والسينما لبسيوني جمعة. وكان بسيوني هذا قد نبغ في أعمال السينما والاستيراد والتصدير بخبرته مع ذلك اليهودي، فاستطاع في وقت وجيز، من عام 1956 حتى 1961، أن يكسب ثلاثة ملايين جنيه، فقام عبد الناصر بتأميمه ووضعه في السجن، ثم أفرج عنه بعد الاستيلاء على أمواله، فأحضر بسيوني جمعة سائقه وطاهيه وقام بعمل شركة لكل منهما. وفي عام 1965، أصبح عنده 5 ملايين جنيه، فأممه عبد الناصر مرة أخرى ووضعه في السجن. ولكنه قام بتوزيع رشى كثيرة، فيقال إنه رشاهم جميعا حتى رشى كلب السجن الحربي، وكان يخصص راتبا شهريا لحمزة البسيوني. ويبدو أن المسألة "فاحت رائحتها"، فأحيل إلى المحاكمة في قضية عرفت بقضية الرشوة الكبرى. ومن خوفهم منه، وضعوه في سجن قنا وعينوا له ضابطا ينام معه. وبالطبع، في المحاكمة صدر الحكم ببراءته؛ لأنه دفع لهم جميعا.

وذات مرة جاء أحمد صالح داود (وكان وقتها مديرا لأمن الدولة، وهو الذي نقلني من مجلس الثورة وأنا لا أتحرك وعلى وشك الموت عام 1954) لزيارة بسيوني جمعة هذا، وكنت أستعد لطابور الرياضة مرتديا زي الرياضة، وكنت أضع صافرة في رقبتي عند خروجي لألعب رياضة مع الإخوان، فقابلني أحمد صالح داود عند باب العنبر أثناء دخوله لزيارة بسيوني جمعة، فذهل عندما رآني على تلك الحال من الصمود والقوة وقال لي: ما شاء الله صحة ونشاط! فقلت له: امسك الخشب يا أحمد بك. ثم قلت له: ومالك قد سمنت وامتلأت، فقال لي: يا عاكف ألا تحب أن تصبح وزيرا مثل أصحابك (وهو يقصد عبد العزيز كامل وكمال أبو المجد)، فقلت له: إنني لا أخاف من كرباجكم حتى أصبح وزيرا، فذهل وقال لي: طيب طيب.. ومضى وتركني.

ظل الحال كذلك فترة قصيرة، ولم نكد نشم أنفاسنا حتى فوجئنا بهم يحضرون إلينا مأمورا سيئ السمعة والخلق، وكان معروفا بشدته وقسوته مع المسجونين الجنائيين. لقد كان ذلك الرجل يضرب بالنار في العنبر.

حبس انفرادي ثلاث سنوات

وضعوا اثني عشر فردا في السجن الانفرادي، وكنت منهم، وكان صلاح شادي بجانبي لمدة ثلاث سنوات (من سنة 1965- 1967م)، لا نرى شمسا ولا قمرا، بلا خطابات من الأهل، منعزلين تماما عن الخارج، ممنوعة عنا الزيارة، وليس بالزنزانة إلا البرش والبطانية والقروانة. ثلاث سنوات كاملة، ولكن كان يكفينا القرآن الذي كان خير صحبة لنا. وكنت على الرغم من هذه القسوة، ألعب رياضة في الزنزانة.

نور وسط الظلام

كان المسجونون لديهم رجولة نادرة، فكان يأتيني خبز وطعام من نوافذ الدور الأرضي من المسجوين، فلا أنسى قنا، ولا رجولة أهلها التي خففت عنا قسوة مأمور السجن.

وكان وكيل السجن أيضا، واسمه السيد البدوي، رجلا صالحا، على عكس المأمور. وقد قلت له ذات مرة : يا سيد بك.. إخوانك ليس لديهم ملابس! فما كان منه إلا أن حضر بالليل (حوالي الثانية عشرة أو الواحدة)، ودخل عندي الزنزانة وهو يرتدي ست فانلات فوق بعضها ويخلعها كلها عندي في الزنزانة.. أليست هذه منتهى الرجولة؟

اعتذر لعبد الناصر!

لم ينقطع عني ذلك الحبس الانفرادي خلال السنوات الثلاث إلا في أثناء محاكمة 1965، حيث أخذوا حوالي سبعة أو ثمانية سجناء من قنا، وقاموا بترحيلنا إلى ليمان طرة.. فكنت والأستاذ عمر التلمساني، والأستاذ محمد سليم، والأستاذ عبد المنعم سليم، والأستاذ محمد العدوي، والشيخ شريت، حسبما أذكر. وكانوا يأخذون الإخوان ويهينونهم ويعذبونهم في أمن الدولة ثم يعودون، ما عدا أنا، فقد ظللت ثلاثة أشهر لم يأخذوني، ولا أدري لماذا، ثم فوجئت بهم يطلبوني، فقال لي الإخوان: هدئ نفسك، فقلت لهم: أنا عارف أنها علقة وثلاث سنوات، وأنا باقي لي تسع سنين أو عشرة.

ذهبنا إلى مكتب مدير السجن، فوجدت فؤاد علام ورئيسا له يدعى زكريا، واللواء عبد الله عمارة. وكان مدير ليمان طرة يدعى سمير حسنين، وكان تلميذي في فؤاد الأول الثانوية، وكان وجيها وألدغ.. وقد عرفته، وقلت له: هل تعمل في النيابة؟ فقال لي: لا بل في أمن الدولة، فقلت له: مرحبا! وظلوا يتحدثون معي حوالي ثلاث ساعات، والحمد لله كنت ثابتا وأخذت حقي، وكل ما كنت أريد قوله قلته، وتحديتهم في كل شيء؛ لدرجة أن فؤاد علام كان يقول لي: يا عاكف.. عبد الناصر يريد منك ورقة فقط، ليس من الضروري أن تكون تأييدا، ولكن على الأقل اعتذار. فقلت له: فؤاد بك، ظننت أنك أحضرت لي اعتذارا من عبد الناصر لا لتأخذ مني اعتذارا لعبد الناصر!

وعندما سمع عمارة هذا الكلام خرج مسرعا، ولم يستطع سماعه، فقال لي فؤاد علام: والله أفتح لك البوابة العمومية (يعني يفرج عني وأخرج من السجن). فقلت له: لا أنت ولا عبد الناصر يستطيع أن يفتح لي البوابة العمومية، والذي يستطيع أن يفتح البوابة العمومية هي السياسة العالمية وليس أنتم. وبعد ثلاث ساعات قمت دون أن يعتدي عليَّ أحد أو يقول لي كلمة واحدة، وبعدها رحَّلوني إلى قنا؛ حيث عدت إلى الحبس الانفرادي حتى نكسة 1967.

 

اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (21)

اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (20)

التعليقات (0)