مقالات مختارة

خلفيات استسلام كوشيب لـ"الجنائية الدولية"

ياسر محجوب الحسين
1300x600
1300x600

بدون مقدمات وعلى حين غرّة، استسلم أو سلم علي كوشيب نفسه الثلاثاء الماضي للمحكمة الجنائية الدولية بلاهاي، وهو المتهم بجرائم حرب في دارفور مع آخرين. أسئلة واستفسارات كثيرة تزدحم بحثا عن إجابات وتفسيرات للخطوة المفاجئة التي أقدم عليها كوشيب؛ فهل اقتنع الرجل أخيرا بعدالة المحكمة الجنائية الدولية؟ أم هرول مستجيرا بالنار من الرمضاء؟ هل خشي الرجل على نفسه من الاغتيال أم من محاكمة غير عادلة داخل وطنه؟ هل أراد الرجل أن يضع حدا لحالة الهروب والمطاردة التي وجد نفسه فيها في خضم مخاض وتغيير سياسي في وطنه السودان، ليس من السهل التكهن بمآلاته؟ ولماذا حدث الاستسلام أو التسليم طواعية في دولة أفريقيا الوسطى المجاورة للسودان من الناحية الجنوبية الغربية؟

كوشيب (65 عاما) يعد من كبار قادة ما عرف بمليشيا الجنجويد، أحد أطراف الصراع القبلي في إقليم دارفور. وقاتلت قواته أحيانا كثيرة إلى جانب القوات الحكومية ضد المتمردين في الإقليم، ورغم ذلك اعتقلته سلطات الخرطوم وهو ينتمي إلى قبيلة التعايشة إحدى قبائل دارفور، واتهمته المحكمة الجنائية في 2007 بارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين في دارفور خلال عامي 2003 و2004.

وفي حين أن الرجل أعلن أنه سلّم نفسه طوعا في جمهورية أفريقيا الوسطى ومن ثمّ نقله إلى المحكمة الجنائية في لاهاي، قالت المدعية العامة للمحكمة فاتو بنسودا إن كوشيب استسلم معتبرة ذلك إنجازا بارزا.

وقيل إن كوشيب كان قد انتقل أو تسلل من السودان إلى أفريقيا الوسطى، حيث يسهل التسلل إليها عبر الحدود، في شباط/فبراير الماضي؛ خوفا من القبض عليه من قبل السلطات في الخرطوم التي أصدرت في حقه أمر قبض كانون الأول/ديسمبر الماضي، وربما التنكيل به ومحاكمته بشكل غير عادل، في ظل أجواء غير مستقرة تتصاعد فيها مشاعر الانتقام بعد سقوط نظام الرئيس البشير في نيسان/أبريل 2019. كما أن وجوده في دارفور متنقلا بين مدنها وبواديها فيه خطر على حياته من بعض أطراف الصراع، التي تسعى للانتقام منه حيث أفادت أسرته أنه تعرض للاغتيال 3 مرات.

وعليه، فمن المنطقي أن يكون كوشيب قد وصل لقناعة بأن تسليم نفسه طواعية ربما أفضل الخيارات المتاحة. وقد غرد أحد المسؤولين الأمريكيين السابقين والمهتم بشؤون السودان كاميرون هدسون في حسابه بتويتر، ساخرا من مستوى حياة الرفاهية التي سيعيشها كوشيب في زنزانته في مقر المحكمة بلاهاي، وقد نشر صورة للزنزانة التي تحوي جهازي تلفزيون وحاسوب.


لكن من ناحية أخرى، يبدو الأمر أكبر بكثير من مجرد استجابة كوشيب لمخاوف شخصية على حياته؛ فالمسرحية تبدو غطاء أو وسيلة لتحقيق هدف استراتيجي أكبر تقف من ورائه قوى دولية غرضها تفكيك السودان وتمزيق كيانه، وهذا يعزز فرضية وجود صفقة ما، ليقوم كوشيب بدور شاهد الملك غير المعلن، فيحصل على البراءة ويتم اتخاذ إفاداته مسوغا لجر المسيطرين على مفاصل القوة العسكرية حاليا، ومنهم الجنرال عبد الفتاح البرهان ورفقاؤه العسكريون، ومن ثم يسهل الانقضاض على المنظومة العسكرية وتفكيكها، فهي الضامن الوحيد لوحدة الدولة السودانية وسلامتها.

صحيح أن تسليم الرئيس السابق عمر البشير ورفاقه للمحكمة يعتبر هدفا وفاتورة قديمة واجبة السداد، إلا أن الهدف الأهم القادة الحاليون؛ فهم من يستطيع الوقوف ضد مخطط تفكيك السودان وليس البشير ونظامه، الذي لم يعد فاعلا في الحفاظ على الدولة السودانية.

وسبق للمحكمة أن حققت واستمعت ثم برأت بحر إدريس أبو قردة وزير الصحة السابق في حكومة البشير، الذي جاء مشاركا بعد اتفاقية الدوحة 2011 وكان قد سلم نفسه من قبل للمحكمة الجنائية في 2007. واتهم أبو قردة بجرائم حرب وكان زعيما للجبهة المتحدة للمقاومة، إحدى حركات التمرد في دارفور. ولاحقا قالت المحكمة إن "الأدلة غير كافية لإثبات ضلوعه كشريك أو كشريك غير مباشر في الجرائم التي نسبها إليه الادعاء".

ولعل كلا من كوشيب وأبو قردة لا يخدمان الغرض السياسي للمحكمة كأداة سياسية في يد القوى الهادفة لتفكيك السودان، إذ إن كليهما من دارفور والمطلوب متهمون من ووسط وشمال السودان، يمثلون العروبة لتكريس الانقسام على أساس إثني وتحميلهم وزر الاصطراع القبلي في دارفور، الذي في أساسه صراع بين مكونات دارفور؛ بين القبائل الزراعية والرعوية. فمواصفات المتهم المطلوب يجب أن تكرس الصورة النمطية المصنوعة بعناية للعربي، الذي يضطهد الآخر الأفريقي الزنجي ويشن عليه حرب إبادة جماعية. أما إدريس أبو قردة وعلي كوشيب، فلا يمثلان المواصفات المطلوبة إطلاقا، لكنهما يبقيان على نار طبخة الجنائية متقدة وتشغيل كادرها المتبطل، حتى حين الحصول إلى الصيد الثمين.

ومن المفارقات المدهشة في عالم اليوم، أن مجلس الأمن الدولي كان قد أحال في 2005، الحالة في دارفور إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، بموجب القرار 1593 الذي تولت واشنطن كبره. لكن اليوم يصف وزير العدل الأمريكي المحكمة الجنائية بأنها محكمة ذات أجندة "سياسية" وليس غرضها تكريس العدالة، بينما يقول وزير الخارجية: "لن نقف مكتوفي الأيدي بينما يتعرض مواطنونا للتهديد من محكمة صورية". وذلك على خلفية أمر تنفيذي أصدره الرئيس دونالد ترامب بإصدار عقوبات بحق كل من يثبت تعاونه مع المحكمة الجنائية في أي تحقيق يخص القوات الأمريكية، واتهامها بارتكاب جرائم حرب في أفغانستان.

 

(الشرق القطرية)

0
التعليقات (0)