تقارير

أكاديمي سوداني: هذه علاقتي بفلسطين وقصة لاءات الخرطوم

حسن مكي: علاقتي بفلسطين بدأت أيام حكم عبد الناصر في مصر  (الأناضول)
حسن مكي: علاقتي بفلسطين بدأت أيام حكم عبد الناصر في مصر (الأناضول)

تنشر "عربي21" في قسم "فلسطين الأرض والهوية"، توثيقا أسبوعيا لفلسطين كما تبدو فكرة ومفهوما في أذهان المثقفين والسياسيين والنشطاء الحقوقيين في العالم؛ على اعتبار أن هذه الكتابات هي جزء من وثائق التاريخ الفلسطيني الحديث والمعاصر.

اليوم ننشر رأي الكاتب والباحث السوداني البروفيسور حسن مكي في القضية الفلسطينية، وهو واحد من أبرز مؤرخي الحركة الإسلامية في السودان وفي أفريقيا.  
 

 

هكذا بدأت علاقتي بفلسطين 

 

قال الباحث الإسلامي البارز والأكاديمي السوداني المرموق حسن مكي؛ إن ارتباطه بقضية فلسطين بدأ مبكرا، وهو ما يزال تمليذا في المرحلة الدراسية الوسطى، وأنه رغم انتمائه المبكر للحركة الإسلامية السودانية، فإنه بكى عندما سمع بوفاة جمال عبد الناصر؛ لأن عبد الناصر مثّل لديه (الشخصية الإسلامية الهرم)، ويذكره بالقضية الفلسطينية.

يقول مكي، وهو شخصية سودانية بارزة في مجال التفكير الإسلامي والأبحاث المختصة بانتشار الإسلام في أفريقيا: "مع أنني انتميت للحركة الإسلامية منذ أن كنت في المرحلة المتوسطة، إلا أنني مازلت أذكر أنه حينما توفي جمال عبد الناصر 1970 وسمعت الخبر وكان معي الشهيد عبد الإله خوجلي في منزل الأسرة في منطقة الحصاحيصا (وسط السودان)، وجدت نفسي أبكي. كنت أسمع دائما إذاعة صوت العرب ولا تفوتني خطبة لعبد الناصر، رغم أنني لم أكن من المعجبين بالسينما أو الغناء المصري، وإن كنت معجبا بعبد الناصر".

لماذا يا ترى؟

يجيب مكي، في حديثه لـ "عربي21": "كنت معجبا به؛ لأن عبد الناصر مفتاح للشخصية الإسلامية الهرم، بمعنى أنه يذكرني بصلاح الدين الأيوبي والقادة العرب العظام، ويذكرني بمجد العرب في الأندلس، ويذكرني بيبرس الذي صد التتار عن مصر، ويذكرني بالسلطان غليون؛ لأنه كان يتكلم بشموخ، قد يكون شموخا ليس نابعا عن قوة حقيقية على الأرض، ولكنه نابع عن إرادة، حتى كنت أعتقد أن الإسلاميين كان ينبغي أن يتصالحوا مع الناصرية، وأن أكبر كوارث الفترة العربية هو الصراع الناصري ـ الإسلامي الذي امتد إلى يومنا هذا".

ويضيف مكي؛ "إن مفتاح شخصية عبد الناصر هو حصار الفالوجة أي قضية فلسطين؛ لأن عبد الناصر وتنظيم الضباط الأحرار وتنظيم الحركة الإسلامية، كله استمد وجوده وقوته من خلال أن فلسطين أرض عربية، ويجب أن تعود إلى العرب، وأنه ليس من المعقول أن يتم تجريد العربي من مزرعته ومن ورشته ومن حديقته ومن بيته ومن وراثات قلبه وضميره، ثم تعطي لفلاشي قادم من إثيوبيا لا يعرف حتى اللغة العبرية، أو أن تعطي لروسي قادم من روسيا باعتباره أنه يهودي أو من شرق أوروبا أو غيره".

وحول رؤيته العاطفية والذاتية للقضية الفلسطينية، يقول مكي: "كنت ولازلت أرى ذلك ظلما كبيرا، وأن هذا استهانة".

أما عن علاقاته بالقادة الفلسطينيين وتجاربه مع بعضهم، يروي مكي: "أصبحت لي صداقات ممتدة مع القيادات الفلسطينة بعضها لقاءات سطحية مثل مع الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات أو غيره، ولكن بعضها عميق ومتجذر مع بعض قيادات فتح، وبعض قادة حماس، ومع بعض قادة الجهاد الإسلامي".

وللبروفسور مكي قصة مع قائد حركة الجهاد الإسلامي الراحل فتحي الشقاقي: "أتذكر عندما سافرت مع فتحي الشقاقي إلى مالطا، طلب مني أن أبيت في غرفته فقبلت ذلك طائعا، فبات هو في غرفتي وبت أنا في غرفته، ومعروف أن فتحي الشقاقي مات في مالطا، وكنت أتوقع أن أقتل في ذلك اليوم، ولكن كنت أعتقد بأنها ضريبة ميسورة".

 

لم تعد رصيدا للأمة


ولكن من الناحية العقلية ـ يقول مكي ـ: أصبحت أرى أن القضية الفلسطينة ما عادت رصيدا للأمة العربية، وإنما أصبحت تشكل عبئا، وأن الجميع أصبح يتحلل من هذا العبء، فمن الناحية النظرية هنالك قضية رمزية ومن الناحية العملية لا يمكن لجيل واحد أن يتحمل أعباء هذه القضية. لذلك؛ أنا أتفهم التحلل من عبء القضية الفلسطينة، وأن تسعى كل دولة للتحلل وإيجاد روابط مع النظام الدولي؛ لأن الدخول في النظام الدولي الآن أصبح ثمنه التحلل من القضية الفلسطينة؛ لذلك أتفهم ذلك ولا أرمي نظاما أو شخصا بالخيانة أو غيره إذا ما أراد أن يتحلل من هذا العبء الصعب؛ لأن في قوله تعالى: "فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ"، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم في ظرف من الظروف قبل بعهد الحديبية؛ لأن التحلل مطلوب حينما يقوم على مطلوبات عقلية وفكرية.

 

فأنت لا تندفع فقط إلى الحرب لمقولات. وفي فترة من الفترات طلب النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة أن يكفوا أيديهم وجاء في القرآن الكريم: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلً)، وهذه رؤيتي لهذه المسألة.

بالنسبة لي كسوداني، فإنني أرى بأنه ليس كل سوداني صاحب رأي؛ "لأن البطون الجائعة لا تعرف المعاني العالية"، مضيفا: "وربما كان هناك سودانيون لم يعرفوا بالقضية الفلسطينية مثل قبائل الأنواك الأدوك اأانقسنا القمز، ولكن لو قصدنا الجماعة الوطنية السياسية السودانية، فتكوينهم النفسي والفكري كان مقاربا باعتبار المجموعة السودانية التي كانت مع شوقي الأسد من أمثال علي طالب الله (أحد مؤسسي جماعة الإخوان المسلمين في السودان)، قدموا تحرير فلسطين على تحرير السودان، رغم أن الأولى كان تحرير السودان، لكنهم ذهبوا إلى حرب فلسطين منذ عام 1947، وهذا يشير إلى أن مسألة فلسطين مرتبطة بالرؤية القرآنية أو ما نفهمه نحن من الرؤية القرآنية".

 

عندما يتحدث القرآن الكريم: (وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا) وقوله تعالى: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا)، كأنما نعتقد بأنها مرتان الأولى مع صر والمرة الثانية مع موشي ديان، لأن الآية بعد ذلك، قوله تعالى: (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) أي متى ما عدتم يا بني إسرائيل للعلو والفساد عدنا للانتصار عليكم، وأن القرآن يتحدث عن دورات للصراع الإسرائيلي ـ الإسلامي، وأن هذا الصراع مركوز من أقدار الله، وأيضا الرؤية التوراتية هكذا والرؤية المسيحية هكذا.

 

عاصمة اللاءات الثلاث

 

فسواء كانت هذه الرؤية صحية أو غير صحيحة، لكن الإنسان تحركه الأوهام والتقاليد أكثر مما تحركه الحقائق، لذلك؛ السودان انعقدت له عقدة مؤتمر اللاءات الثلاث في الخرطوم (لا تفاوض ولا صلح ولا اعتراف بإسرائيل)، وارتفعت أسهم الجماعة السياسية السودانية؛ لأن الخرطوم ما كان عندها شيء تقدمه، وبعض الدول ما كانت تعترف بالخرطوم عاصمة عربية، فساهم المؤتمر في أن تصبح عاصمة العروبة وتنطلق منها اللاءات الثلاث، وأصبحت من مكونات الجماعة السياسية الوطنية، لكن هذه العقد؛ بعضهم تحلل منها، وبعضهم مرتكزة في عقلهم الباطني والظاهري.

وفي رؤيته العقدية للقضية الفلسطينية يقول مكي: "أنا لا أفهم معنى فلسطين هي الأرض المقدسة بالنسبة لي، وهي سوريا الكبرى، كل الشام وقوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم حينما أسري به، ترك المسجد الأقصى في يد الرومان، وحينما توفي لم يخرج الإسلام من مثلث الحجاز، وبعض الصحابة الموجودين في الحبشة، وهذه هي كل الرقعة الفكرية الروحية حينما انتقل الرسول (ص) إلى الرفيق الأعلى. 

ولكن بعد وفاته بتسع سنوات، تم فتح فلسطين؛ لأن (خليفته) أبو بكر الصديق قال: أنفذوا جيش أسامة امتثالا لأمر النبي، في إشارة إلى أنها المعركة التاريخية والأرض التاريخية للثقافة الإسلامية، وفي سنة 22 هجرية بعد 12 سنة من وفاة النبي (ص)، كانت مصر كلها جزءا من الدولة الإسلامية، رغم أنها ذروة الحضارة البيزنطية أو الدولة الرومانية، وكسبها المسلمون حربا وليس صلحا كما يعتقد البعض. لذلك؛ هذه المنطقة كلها مقدسة وموحدة، لكن الآن قامت على هذه المنطقة الدولة القومية الوطنية وفقا لصلح فينا 1787 القائمة على التراب والعرق، وليس على مرتكزات الثقافة الإسلامية، ومن ثم لا يمكن بأدوات الدولة العلمانية الوطنية أن نستعيد من التاريخ مطلوبات الدولة الروحية.


التعليقات (0)