كتاب عربي 21

مِحْنَة الحِكْمة.. عن المستشار طارق البشري

شريف أيمن
1300x600
1300x600
"أبغض الأمور إليّ أن أتحدث عن نفسي، وأروع اللحظات عندي أن أهتم بموضوع ينسيني نفسي ويخرجني من نطاق النظر إليها أو الاهتمام بها أو الحديث عنها. ولا زلت أذكر عبارة لأحد الفلاسفة قرأتها في صباي البعيد، وهي "وجودي أن أغيب عن وجودي"، بمعنى أن أغيب عن ذاتي".

هذه الكلمات سَطَّرَها أستاذنا ومعلمنا ورائدنا المستشار طارق البشري، كتَبَها، وسمعناها منه، ورأيناها واقعا وفعلا دون تكلّف أو ادعاء. وهذه الحالة النفسية السويّة لا تُنْبِئ عن مجرد صلاحها، بل تُنبئ عن بصيرة نافذة واطِّلاع على سٍيَر الخلق، والأهم من ذلك الاعتبار منها. والاعتبارُ من أجَلِّ مزايا النفس، وأشدِّها عونا في المسير إلى خالق الكون جَلَّ وعلا.

طاف الأستاذ بين القانون والفقه والتاريخ، ولم يطرق بابا منهم إلا وخرج منه ممسكا بأصوله وفروعه، عالما فذا وناقدا خبيرا، ولولا خصومة المستبدين لكان له شأن آخر في مناصب الدولة للإصلاح القانوني والإداري. وقد رضيَ الأستاذ بنصح المنصوحين، وإرشاد السائرين، فأصبح معلما في زمن التبس فيه كل شيء وانطمست أنوار الهداية عن الخلق.
طاف الأستاذ بين القانون والفقه والتاريخ، ولم يطرق بابا منهم إلا وخرج منه ممسكا بأصوله وفروعه، عالما فذا وناقدا خبيرا، ولولا خصومة المستبدين لكان له شأن آخر في مناصب الدولة للإصلاح القانوني والإداري

هذا الثراء وإن كان يحمل طابعا ذاتيا في نفْس الأستاذ، من جهة أنه كان يبحث ويرتوي بالمعرفة، فإنه في ذات الوقت له امتداد في أصوله الطيبة. فوالده الأستاذ عبد الفتاح البشري كان رئيسا لمحكمة الاستئناف، وجدّه شيخ الأزهر الشريف الشيخ سليم البشري، وقد خاض الشيخ معركة مع الخديوي لأجل الحفاظ على استقلال الأزهر، فأُقصي من منصبه بعد أربع سنوات من توليه المشيخة، ثم عاد إليها بعد سنوات بشروطه التي اشترطها.

وقصة ذلك - كما في موقع دار الإفتاء المصرية - أن الشيخ "اختار أحد العلماء، وهو الشيخ أحمد المنصوري، شيخا لأحد أروقة الأزهر ولم يكن الحاكم راضيا عن هذا، فأوعز إلى الإمام بالعدول عن تعيينه، فأبى الشيخ الإمام الرجوع عن اختياره وقال: "إن كان الأمر لكم في الأزهر دوني فاعزلوه، وإن كان الأمر لي دونكم فهذا الذي اخترته ولن أحيد عنه". فانتهزها الدساسون وأوغروا صدر الحاكم عليه فأرسل إليه من يقول له: "إن تشبثك برأيك قد يضرك في منصبك"، فقال الشيخ الإمام: "إن رأيي لي، ومنصبي لهم، ولن أُضحي لهم ما يدوم في سبيل ما يزول". وقدَّم استقالته، فقُبلت في اليوم الثاني من ذي الحجة سنة 1320هـ (1903م)، وعُيِّن بدلا منه الشيخ علي بن محمد الببلاوي، ثم عُيِّن بعده الشيخ الشربيني، ثم أُعِيدَ الشيخ حسونة النواوي، ثم صدر الأمر بإعادة الإمام البشري مرة ثانية سنة 1327هـ إلى عمله، وظلَّ فيه حتى لقي ربه".

هذا هو الأصل الذي خرج منه النبت الطيب، وهذه الجملة هي التي اقتفى أستاذنا أثرها وعاش بها: "إن رأيي لي، ومنصبي لهم، ولن أُضحي لهم ما يدوم في سبيل ما يزول"، ومنها لقي العَنَت أثناء حكم الرئيس الراحل مبارك، فقد اتصل به سكرتير المعلومات في مكتب الرئيس الأسبق ليطلب منه تعيين أحد الأشخاص في مجلس الدولة، ولم يكن الرجل مناسبا لهذا المنصب، فلم يرضَ القاضي الجليل أن يخالف ضميره والأمانة التي في عنقه، ولم يقبل أن يعين الرجل الذي أتى مصحوبا بتوصية من رئيس الجمهورية، فكان جزاؤه أن تم حرمانه من منصب رئيس مجلس الدولة حين استحق أن يكون رئيسا له.

هذا على الصعيد المهني، أما على الصعيد الفكري فحدّث ولا حرج، فهو الرجل الذي تمتلئ صفحاته بالحكمة والأمانة في نقل الأحداث، وهو الذي يقف حائلا بين التطرف في الفكر والسلوك، ويقف حائلا بين التطرف في مفاهيم الوطنية، أو الانتماء الديني، ويغرف من أَبْحُر الحكمة وهو يتحدث عن الجماعة الوطنية، ويفرّق بين دوائر الانتماء المختلفة ويجمع بينها في مهارة فائقة وبصيرة متقدة "يؤتي الحكمة من يشاء ومن يُؤتَ الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا".
هو الرجل الذي تمتلئ صفحاته بالحكمة والأمانة في نقل الأحداث، وهو الذي يقف حائلا بين التطرف في الفكر والسلوك، ويقف حائلا بين التطرف في مفاهيم الوطنية، أو الانتماء الديني،

أذكر أن أول ما قرأت للأستاذ كان كتاب "الحوار الإسلامي العلماني"، وأسرتني جزالة الألفاظ وحُسن نَظْم العبارات، والأهم أنني تأدبت كثيرا في فهم العلاقة مع المختلف من أبناء الوطن، وعدم الاهتمام بالخنادق وقصف المدافع، كما ذَكَرَ الأستاذ. وانتقلت تصوراتي على يديه ويد الأساتذة الكرام من جيله (د. العوا، ود. عمارة، والشيخ القرضاوي وغيرهم من أساتذة الفكر)، فأصبح بعض أبناء جيلي يعيشون من أجل إحياء وتشكيل "تيار أساسي للأمة" يختلف في إطار "الجماعة الوطنية"، ولا يرفض "الأصالة" ولا يعترض على "المعاصرة"، بل يجمع بينهما بما يتناسب مع ثقافتنا وما "ينهضم في سياقها".

وأذكر كذلك أنه لما قامت ثورة يناير أصبح بيته قِبْلَة لأبناء الثورة، ولم يبخل بوقته أو جهده وقد قارب وقتها الثمانين من عمره، وأصبح ضيفا دائما للباحثين عن إخماد الفتنة التي أدت بنا إلى ما أدت، وقد وقف ناصحا ومحذرا، لكن طمع الساسة أعماهم عن نُصح الحكيم، فوصلنا إلى ما وصلنا إليه.

في هذه الأثناء يعاني الحكيم من المرض، وإن كان مثلي يتحرَّج أن يكتب عن صاحب المقام العالي في الأخلاق والكرم والعلم، إلا أنه حق الأستاذ الكبير والعظيم على التلميذ. نسأل الله أن يتم عليه الشفاء والعافية، وأن يبقيه بيننا ناصحا ومعلما وملهما، وأن يخرج من محنة مرضه أصحَّ مما كان.

twitter.com/Sharifayman86
التعليقات (0)