آراء ثقافية

أنتوني هوبكنز والأوسكار والدراما الرمضانية!

هوبكنز فيلم الأب الأوسكار - تويتر
هوبكنز فيلم الأب الأوسكار - تويتر

حين تنتهي من مشاهدة فيلم الأب (The Father)، على الأرجح سوف تجتاحك رغبة قوية في البكاء. من الغريب أننا لن نستطيع تحديد السبب بدقة؛ فقد يبكينا هذا المشهد أو ذاك، وقد نتعاطف مع الأب المصاب بالخرف، كما قد نتأثر بابنته الممزقة بين رعايته والمضي في حياتها، لكن الأرجح أن البكاء سببه الحالة العاطفية والعقلية التي يضعنا فيها الفيلم، فهو يحقق إنجازا يحلم به أي مبدع: القدرة على تحريرنا من دائرة ذاتنا الضيقة وإطلاقنا إلى عوالم أخرى أشد تعقيدا وأثقل بمعرفةٍ ومشاعر وخبرات إنسانية، لم نكن لنعايشها لولا قراءة تلك الرواية المدهشة، أو مشاهدة ذلك الفيلم البديع.

 

فما أكثر ما سمعنا عن مسنين يصابون بالخرف والتدهور العقلي، لكننا سوف نعيش التجربة عبر فيلم الأب، وسنشعر بما يشعر به العجوز المسكين، ونفكر كما يفكر، ويا لها من تجربة!

يعالج الفيلم قصة عجوز مصاب بمتلازمة "dementia" (أي الخرف)، وتجتهد ابنته في رعايته. ومع تدهور حالته تنشأ مواقف معقدة ومشحونة بانفعالات قاسية، لكن صانعي الفيلم اختاروا زاوية فريدة لإدخالنا في خضم التجربة؛ اختاروا عرض الأحداث من منظور أنتوني، بطل الفيلم الذي يؤديه أنتوني هوبكنز الفائز بأوسكار أفضل ممثل لسنة 2021.

 

وصرح مخرج الفيلم وأحد كاتبيْه بأنه كتب الفيلم مفترضا أن هوبكنز هو من سيمثله، ولو كان هوبكنز قد رفض السيناريو، لأخرج الفيلم في فرنسا (الفيلم إنتاج بريطاني-فرنسي).

هكذا عُرِضتْ علينا الأحداث كما يراها ويفهمها إنسان مصاب بالخرف، أي مشوشة، متداخلة، لا تخلو من الاضطراب الذي يصفه لنا الطب. لذا فلا بد من الإشادة بدقة صناع المسلسل في تحري الأعراض الحقيقية وعرضها دون إثقال الفيلم بمحتوى طبي عسير الفهم.

مثلا، في مشهد قصير، يبرع هوبكنز، كعادته، في التعبير عن ارتباك وحيرة حين ينسى كيفية ارتداء سترته، على النحو الذي تقرره العلوم الطبية، مثلما يبرع في التعبير عن التشوش والخلط، حين يرى وجه ابنته الأخرى المتوفاة في محيا نساء عديدات ممن يتولين رعايته. كما تختلط عليه هويته الشخصية، فيزعم أنه راقص بينما هو مهندس.

ثمة جدية في التعاطي مع كافة التفاصيل. حتى الشقة التي كان العجوز يعيش فيها قبل تدهور حالته تتشابه مع شقة ابنته التي انتقل إليها لتباشر رعايته، بحيث نرتبك نحن أيضا: أيهما شقته وأيهما شقة ابنته؟

 

وفي هذا الصدد اعتمد السيناريو على تقنيات مختلفة، منها أن ينهض العجوز من سريره، يخرج من غرفته، ثم يفتح باب غرفة أخرى وحين يدخلها يكتشف أنه في مكان آخر ناء، ليعيش مشهدا قديما ارتبط به عاطفيا (مثل مشهد وفاة ابنته الأخرى في المستشفى بعد حادث سير). مشاهدة الفيلم تسحبنا إلى أرض الشيخوخة، وتتركنا نقاسي حياة أنتوني.

كما نرى الحدث الواحد من زوايا متنوعة، لكنها تبدو دائرية، أي تعود بنا للنقطة ذاتها. يلتحق بابنته وزوجها على مائدة العشاء فيستمع إلى شكوى الزوج منه، وحين يطلب مزيدا من الطعام وينهض لإحضاره ثم يعود، يسمع الشكوى ذاتها.. هكذا لا نعرف أي الأحداث وقع قبل غيره؛ بل نجد كرة من خيوط الذكريات والرؤى المشتبكة التي لا نستطيع ترتيبها، مع أنها تبث فينا نوعا من الحزن الذي تقشعر له الأبدان.

 

ثمة رجل يريد فهم ما يجري حوله؛ يريد الخروج من المتاهة التي التفت على عنقه مثل أفعى، وكلما حاول التملص منها أحكمت خنقه.

وإذا كان الإبداع رديفا للمعالجة الذكية لا المباشرة، الهادئة لا الزاعقة، فقد استحق الفيلم جائزة الأوسكار بحق، فهو مليء بالاستعارات الذكية، غير المباشرة. منها افتقاد أنتوني لساعة يده منذ المشاهد الأولى، بحيث يمكن أن نرصد عبر علاقته بساعة يده مدى تدهور وضعه الصحي. ففي البداية يتهم المرأة التي ترعاه بسرقتها، ثم تجدها ابنته في مخبئه الخاص (وهذا كله من الأعراض الطبية المعروفة).

 

كما أنه يظل يبحث عنها طوال الوقت ليعرف الوقت دون سبب واضح، وكأن صراعه مع الوقت هو مرتكز الفيلم. يمر الوقت، الذي هو دقائق وثوانٍ، وبمروره نهرم وندخل غابة الخرف والنسيان والضياع.. تلك الدقات السريعة المتلاحقة، التي تبدو تافهة هي التي تقتلنا.


من الاستعارات التي كادت تبكيني، ولا يمكن وصفها إلا بمشاهدتها، لقطة خروج ابنته من مقابلة طبيبته وقد أخبرتها بتدهور حالته بينما ينتظر هو في قاعة الاستقبال.

 

من منظور ابنته، ظهر أنتوني خلال شق بين عمودين في القاعة، بما يوحي بانغلاق الحيز المكاني عليه كما القبر، وهو بعيد ضئيل، ذو نظرة يستحيل وصفها إلا بأنها نظرة رجل يرى طبيبته تنبئ ابنته بقرب نهايته مع أنه لا يسمع حديثهما من مقعده.

 

تحاول ابنته الابتسام له فتعجز في حين تنساب أغنية أوبرالية حزينة على نحو استثنائي، امتدت للمشاهد التالية، حيث تتأمل الابنة "كرافتات" أبيها القديمة في خزانة ملابسه، ويطل شلال الذكريات من نظراتها هامسا دون زعيق ولا عويل.

ثمة براعة في معالجة معظم التفاصيل. تظهر صناديق كرتونية معبأة في مشهد خاطف، ثم نكتشف أن الابنة سافرت إلى فرنسا وتركت أباها في دار لرعاية العجائز، وهو القرار الذي ظللنا نبحث عن حقيقته طوال الفيلم، فالعجوز يذكره ككابوس، ثم ينساه، ثم يتخيله على نحو مشوش، وحين نظن ويظن أنه نجا منه، يفاجأ أنه عالق في خضمه، بعد فشل ابنته في إيجاد راعية له، ثم اضطرارها للسفر بعد طلاقها من زوجها السابق بسبب إهاناته المؤلمة للعجوز. 

على نحو لا واع، يرى أنتوني في أزواج ابنته أعداء مباشرين، اثنان منهما اعتديا عليه اعتداء مهينا. لكننا، رغم قوة الانفعال الذي نعايشه، لا نكاد ندري أيهما وقع فعلا وأيهما تخيله، الأرجح أن الزوج السابق هو الذي اقترف ذلك، لكن المصاب بالخرف يرى الأمور ويتخيلها على نحو خاص للغاية، فيصبح له عالم خاص لا يمكننا فهمه.

بالطبع أضاف هوبكنز لمسات بسيطة بقدر ما هي عبقرية. فحين سأله زوج ابنته بوقاحة عن موعد خلاصهما منه، لم يفعل شيئا سوى أن رفع كفه التي يستند بها إلى الأريكة على نحو يوحي بفزع شديد. وحين نهض لإحضار الطعام من المطبخ مصرا على ألا تنهض ابنته عن المائدة، ربّت بخفة على كتفها تربيتة توحي بامتنانه لكل ما تقدمه ابنته.. لقطات سريعة لا تكاد تبلغ الثانية الواحدة، لكنها ذات حمولة انفعالية جارفة.

 

قد يكون العيب الوحيد في الفيلم، في تقديري، هو مشاهدته في موسم الدراما الرمضاني في مصر، حيث الشارب الغليظ للفنان نمبر وان، والملامح المصطنعة والتشنجات الحادة التي يظن الممثلون أنها دليل التفرد و"العملقة" الفنية!

وبفوز هوبكنز بجائزة الأوسكار لأفضل ممثل عن دوره في الفيلم، يكون قد حقق فوزه الثاني بالجائزة، بعد الفوز بها سنة 1992 عن دوره في فيلم صمت الحملان. كما فاز بثلاث جوائز بافتا وجائزتي إيمي، وظفر بثلاث ترشيحات أخرى للأوسكار. وهو ممثل ومنتج أمريكي من أصل بريطاني. تخرج في كلية الموسيقى والدراما الملكية الويلزية سنة 1957، وكانت بداياته الفنية على مسرح بالاس سنة 1960. ثم سنة 1965 اكتشفه لورانس أوليفيه، وضمه إلى المسرح الوطني الملكي في لندن، لينطلق في عالم السينما والدراما.

التعليقات (1)
sandokan
السبت، 01-05-2021 05:59 م
نال أنتوني هوبكنز جائزة الأوسكار لأفضل ممثل عن دوره في فيلم “الأب”، وهي ثاني مرة يحصد فيها الجائزة في مساره. وتفوق فيلم “الأب”، في صنف جائزة أفضل سيناريو مقتبس، فيما حصد فيلم “جولة أخرى” للمخرج الدنماركي توماس فينتبربرغ جائزة أفضل فيلم أجنبي.