تقارير

فريدة النقاش: فلسطين بالنسبة للمصريين قضية وجود

فريدة النقاش: إسرائيل فرضها الاستعمار بالقوة على العرب
فريدة النقاش: إسرائيل فرضها الاستعمار بالقوة على العرب

تنشر "عربي21" في قسم "فلسطين الأرض والهوية"، كل يوم جمعة، توثيقا أسبوعيا لفلسطين، كما تبدو فكرة ومفهوما في أذهان المثقفين والسياسيين والنشطاء الحقوقيين في العالم.. على اعتبار أن هذه الكتابات هي جزء من وثائق التاريخ الفلسطيني الحديث والمعاصر.

اليوم ننشر رأي السياسية والإعلامية المصرية فريدة النقاش، عن علاقتها بفلسطين ومكانة القضية الفلسطينية في قلوب المصريين.

 

من هنا بدأت علاقتي بفلسطين

 

في منتصف التسعينيات، كنت أحد مؤسسي جمعية الإغاثة لفلسطين وانطلقنا بتبني بعض الأيتام، وأصبحنا في فترة وجيزة أهم جمعية داعمة لفلسطين من الناحية الإنسانية تنشط من سويسرا، وبدأنا تشبيك العلاقات على المستوى الأوروبي مع الجمعيات التي لها الأهداف نفسها، وتفاعل الناس معنا بشكل كبير رغم ضعف الإمكانيات لدينا. 

 

لماذا فلسطين؟ احترت قليلا أمام هذا السؤال حين طلب مني الصديق الكاتب الفلسطيني عبد القادر ياسين أن أجيب عنه في مقال. بدا لو أن أحدا سألني لماذا تحبين أمك؟ لأن حبي لأمي يستحيل تماما أن تعبر عنه كلمات، وأظن أن إجابتي هذه شائعة جدا بين المصريين. فليست فلسطين مجرد بلد عربي مجاور لمصر، بل إنها أكبر كثيرا معنى ورمزا.
  
عاش عبد القادر ياسين في مصر، وكون فيها صداقات وذكريات، حتى كاد أن يكون مصريا. فلا بد أنه إذن عرف جيدا ما أحكي عنه، وما أسميه الحالة الفلسطينية في مصر.

 

كنا جميعا نشعر بالأسى وقلة الحيلة إزاء الزيارة التي فتحت أول ثغرة في جدران المقاطعة العربية ضد الدولة الصهيونية، وكنت أقول لنفسي حينذاك: يا إلهي كيف تمنح الضحية للجلاد صك اعتراف! وقد تكفل الزمن ـ كما يحدث عادة- بجعل السؤال الاستنكاري عاديا.

 



فهل أقول له يا ترى إن فلسطين بالنسبة لي هي قضية وجود، أم أقول له إنها جزء أصيل من تكويني النفسي والوجداني؟ لا أتحدث عنها كمجرد بلد أو قضية سياسية فيها الاحتلال والمقاومة، فيها اللاجئون والمخيمات والمنافي، فيها شهداء وأطفال، أمهات يلدن كثيرا حتى يختل نظام الكون إذا ما نقص طابور الشهداء، فهن يعرفن أن الأطفال الذين ما زالوا في الغيب سوف يأتون يوما قريبا ليواصلوا مسيرة أجدادهم المقاومين، الذين علمونا مفردات "هذا الحب القاسي".
 
وكلما تأملت صرخة "محمود درويش" وهو يقول "ارحمونا من هذا الحب القاسي"، عكفت على المزيد من القراءة في تاريخ فلسطين، فلسطين التي أحببتها قبل أن أتعلم قراءة الخرائط، ليكون بوسعي أن أحدد مكانها في العالم، وإن كنت أعلم جيدا أن مكانها في قلبي راسخ مثلما هو حبها الذي يشابه التقديس في قلوب العرب كافة.

لا أنسى أبدا، وكنت في الثامنة من عمري سنة النكبة، وأسرتنا ما تزال تعيش في قرية "سمنود" قرب مدينة المنصورة، لا أنسى دموع أبي وهو يصيح وسط حارتنا كما لو أنه يريد للجميع أن يسمعوا: ضاعت فلسطين.. ضاعت فلسطين، كان يصيح بدلا من أن يبكي بصوت عال، حيث لا يجوز أن يبكي الرجال كما تعلمنا، ولكنه بكى.

كان أبي لا يصدق ما سمع للتو. وحينما أستعيد الحكاية، والمشهد، لا أصدق بدوري أن فلسطين ضاعت، بل وما يزال طعم هذا الضياع مرّا جدا في فمي وفي قلبي، وكثيرا ما تغلبني الدموع إذا سمعت أغنية عن فلسطين، وحين تبدأ الأغنية أردد بسرعة.. نعم "أخي جاوز الظالمون المدى". ومع ذلك فما أبعدني وما أبعدنا جميعا عن الاستكانة للأمر الواقع.

 

لماذا تختلف الحالة الفلسطينية؟

 

كثيرا ما سألت نفسي لماذا تختلف الحالة الفلسطينية عن كل احتلال آخر عرفته مصر عثمانيا كان أو فرنسيا أو إنجليزيا؟ أخذت أجتهد بحثا عن إجابة لا تخالطها الدموع، ويحدوها العقل والمنطق والتروي كما ينصحنا دائما الحكماء. بعد أن كونت مجموعة من احتمالات الإجابة، وجدتها غير لائقة لسبب بسيط؛ هو أن فلسطين بالنسبة لي هي أكثر من وطن محتل وأكثر من قضية كبيرة.

أذكر الآن جيدا ـ وهل كنت قد نسيت ـ ما قالته صديقتي ومعلمتي الكاتبة الراحلة "لطيفة الزيات"، لدى زيارة الرئيس "السادات" للقدس المحتلة، التي افتتحت مسلسل الصلح العربي مع الاحتلال حتى قبل أن يرحل، قالت "لطيفة" سوف أبقى أردد دائما وحتى أموت "لا صلح لا مفاوضة لا اعتراف". وكنا جميعا نشعر بالأسى وقلة الحيلة إزاء الزيارة التي فتحت أول ثغرة في جدران المقاطعة العربية ضد الدولة الصهيونية، وكنت أقول لنفسي حينذاك: يا إلهي كيف تمنح الضحية للجلاد صك اعتراف! وقد تكفل الزمن ـ كما يحدث عادة- بجعل السؤال الاستنكاري عاديا.
 
وحدت المياه في كل أنهار العالم، وانكسر الموقف العربي الموحد، وحل مصطلح التنسيق العربي بديلا عن حلم الوحدة القومية. ومع الزمن، أصبحنا نحن الذين نقول لا صلح لا مفاوضة لا اعتراف، غرباء في عالم ترشده الروح العملية الخالصة. ومع الوقت، يتقبل الوجدان العربي لا الواقع السياسي فحسب وجود الدولة الصهيونية، وتتعايش الفكرة الصهيونية العنصرية مع الأفكار السائدة، بينما تبحث كل حكومة عربية عن مصالحها الخاصة اعترافا بالقوة القاهرة للأمر الواقع، أي اعترافا بإسرائيل فرضها الاستعمار بالقوة على العرب، وإن كان قد عجز عن فرضها على وجدانهم.
 
ولأن كل شيء في هذا العالم يتغير ـ ما عدا قانون التغير ذاته ـ فإن هذا التغير قد طال إسرائيل كما يطول كل شيء، وإن تشكلت الدولة الصهيونية كدولة عصرية متقدمة، فإن العصر ذاته قد حال بينها وبين الفتك بالقضية الفلسطينية أو محو الشعب الفلسطيني الذي بات يحتل مكانا عزيزا في قلوب كل أحرار العالم، ليشكل هؤلاء الأحرار سدا منيعا يحول دون تصفية قضية الشعب الفلسطيني، ذلك الشعب الذكي الصبور الذي لم يوفر شكلا من أشكال المقاومة ضد الاحتلال إلا واستخدمه، ورغم كل المحن والآلام ومخيمات اللجوء، بقي صامدا على أرضه.. وسوف يبقى، فما ضاع حق وراءه مطالب.

(*)كاتبة صحفية عملت في كل من وكالة أنباء الشرق الأوسط وجريدة الجمهورية وجريدة الأخبار. وترأست تحرير مجلة "أدب ونقد" وجريدة "اﻷهالي"، عضو المكتب السياسي لحزب التجمع التقدمي الوحدوي.


التعليقات (0)