قضايا وآراء

نظام السيسي ومجالات صرف الانتباه عن خطورة الاستبداد

محمد عماد صابر
1300x600
1300x600
السيسي يجهز على ما تبقى من كيان الدولة، ولا صوت يعلو على معارك النظام مع خصومه أو داعميه القدامى، أو حرب التسريبات وصراع الأجنحة، أو صراع الولاءات، فلا تكاد تسمع همس الأحزاب المصطنعة ولا ضجيج الطبقة السياسية المدجنة، بل لا أثر للمجتمع المدني بمكوناته وأطيافه جميعا.. وهنا يظهر الوجه الحقيقي للساحة السياسية، بلا مساحيق ولا تحسينات ولا خداع، لا يتحرك في البلاد إلا نظام السيسي العسكري فقط، فلا مؤسسات ولا برلمان ولا أحزاب ولا شيء من هذا، إنما هو النظام بل هو السيسي فقط، بحروبه ومعاركه وأجنحته وأدواته..

تكاد ترى كل يوم معركة تنتهي بتسريب أو تنحية أو سجن أو تحقيق، وما عدا العصابة الحاكمة فالجميع خارج اللعبة تماما ولا أثر لهم، إلا ما كان إملاء وإيحاء وخدمة لهذا الطرف أو ذاك، حتى المتحمسون سياسيا على ضفاف المساحة التي يسمح بها النظام هم من حاشيته، يكتبون على متنه، يسوّقون أطروحاته، يبيّضون صحائفه وإنْ كانت حالكة السواد سياسيا وحقوقيا واقتصاديا واجتماعيا. وهكذا أماتوا البلد سياسيا، وأغرقوه اجتماعيا في البحث عن لقمة العيش، وصار همّ المخلصين لهذا الوطن وأبنائه الأوفياء حول ما يمكن فعله لإنقاذ الدولة من الانهيار.. وهنا يبرز السؤال: وما الذي يمكن فعله، ومتى، وكيف، ونقطة الانطلاق؟

بدايةً قضية التغيير الحقيقي لأي أمة حية هي في قدرتها على تفعيل إرادتها الفردية والجماعية تأسيساً لنهضة حضارية تسع الجميع ولا تستثني أحدا من أفراد تلك الدولة، لكن الاستبداد العسكري أشد الأنواع خطرا على الاستقلال والاستقرار والوحدة الوطنية، بل يعرّض الوطن في وحدته إلى التشتت، ويجعل عناصر قوّته عديمة الأثر لأنّه محدد ومحدود بسقف عصابة حاكمة لا بسقف الوطن وآماله وآلامه..

نعم الاستبداد العسكري الشمولي يُفقِد المُستَبِد حاسة الشم والتذوق، بل يصيبه بفقدان البصيرة، فلا يُبْقِي عقلا يدرك أو يفهم حقيقة ما يدرك، ولا يترك قلبا يتحسّس آلام المقهورين والمستضعفين، فقط لا همّ ولا أمل له غير الحفاظ على مكاسبه.. ترى كل وسائله سلبية مانعة للفعل الحرّ والرأي الحر، يضيق بتحرير العقل والرأي المستنير، وجل همه أن يرسم الطريق لانتشار النفاق السياسي والفكري والأخلاقي، واستمراء الكسب بالفساد والاستبداد والإبقاء عليهما، ومع طول مدّة استمراره يتعطل العقل عن التفكير تماماً، ويجر جراً إلى دهاليز الإهمال.. هنا يضطر الاستبداد إلى تجديد أساليبه وأطره وجلده وأبواقه، فيلجأ إلى الإثارة بقصد صرف الانتباه عن خطورته على الحاضر والمستقبل، وعمل حالة من التغييب الكامل عن مقدرات الوطن ومستقبله.

وعليه، وجب على شرفاء الوطن أن يدركوا؛

أولا: الوطن يُبْنى بكلّ قواه الحيّة، وأوّل الطريق أن يستعيد الفرد استشعار إرادته في التغيير وقدرته على تفعيلها، والتي تتحوّل بفعل النضال الجماعي إلى إرادة جمعية وقدرات جماعية تنفي الفكر الاستبدادي من تقرير مصير الوطن. وهذا مدخل رئيس لمنع إنتاج الاستبداد مرّة أخرى، فيكون الوطن بالكلّ للكلّ، يؤسس لقوى سياسية حقيقية وذات مصداقية.. وهذا يتطلب حلا للمشكلة الكبرى التي وقع فيها تيار التغيير والتي لم نجد لها حلا حتى الآن، وهي أن الطاقة الجماهيرية وحراك الشارع المستمر منذ 11 سنة والمتنقل من بلد عربي لآخر، لم يتمكن حتى الآن من ترجمته إلى قوة سياسية متماسكة ضاغطة تُحسن تدبير الصراع ودفع الاستبداد؛ بوصفه خطرا على الجماعة الوطنية في قيمها حاضرا ومستقبلا.

ثانيا: إذا كانت رياح التغيير العاتية التي تتحرك ضد الأنظمة المتصلبة في منطقتنا قد أضعفتها وجعلت بأسها بينها شديداً، ونفّرت كثيرا ممن ترعرعوا في صلبها، ولم تزد الثورة المضادة الوضع إلا سوءاً بالفعل، ففي المقابل قضية التغيير تتطلب عقولاً راجحة، ونفسا طويلا وحكمة، وحذرا، لأن الصراع أكثر تعقيدا وتشعبا مما نظن ونتوقع.. ويبقى ألدّ أعداء الحركة التغييرية هي ثقافة اليأس وحالة الإحباط، وتمكنها من الأنفس وضعف الأمل في المستقبل، والسلبية المقيتة.

ثالثا: ليعلم الجميع أن دروس التاريخ وعبره تقول: إن حركات التغيير الحقيقية النابعة من وجدان الناس وأعماق المجتمعات قد تنحني وتتعثر، لكنها لا تتبدد ولا تنكسر.. فعملية نقل السلطة من يد الأقلية المتغلبة إلى يد الشعب التواق للحرية مسألة جهد ووقت. وبلا شك، الشعب المصري الذي قام بثورة يناير العظيمة وقدم التضحيات الكبيرة للتحرر من نظام مبارك الدكتاتوري، قادر على إسقاط أي نظام وحكم لا يلبي الإرادة الشعبية.

رابعاً: الرهان الوحيد أو "اليتيم" لا يكفي لنجاح الثورة وإحداث التغيير، فلا يمكن بأية حال أن نراهن على تآكل النظام من الداخل دون بناء الذات السياسية المتماسكة أو القوة السياسية الضاغطة. نعم الشارع قوة دفع، لكن لا يمكنه تحمل كل أعباء التغيير ومتطلباته. إدارة الصراع عملية معقدة تعتمد على رجاحة العقول القيادية الموجهة والقادرة على صياغة الأفكار ووضع التصورات وإدارة الممكنات، واستيعاب الظروف والمستجدات والتقلبات لتجاوز مآلات بالغة السوء، فالتغيير لا يكفي فيه نبل القضية وصدق التوجه وضغط الشارع، وإنما، أيضا، إدارة الوضع والتدافع السياسي بعقول راجحة ثاقبة.

خامساً: إن استمرار ثورة الشعب التونسي والسوداني والجزائري واللبناني؛ أنموذج في إعادة روح الثورة إلى بقية الدول العربية التي شهدت حراكاً شعبياً لم يحقق الأهداف لغاية اليوم رغم التضحيات الكبيرة من قبل الشعوب.

سادسا: تهاون الناس في انتزاع حريتهم يهوي بهم في جحيم التخلف وظلمات الانحطاط، فالمستقبل ما نصنعه جميعا لا ما نتمناه.

تحية لأحرار وشرفاء تونس، والمجد لصناع الكرامة فيها، والعُقبى للشعب المصري، وباقي شعوب المنطقة.
التعليقات (0)