تقارير

تل بلاطة بنابلس يحكي قصة دولة "شكيم" التي دمرها الفراعنة

أهم ما يميز تل بلاطة مجموعة ينابيع المياه العذبة التي كان الناس يستقون منها
أهم ما يميز تل بلاطة مجموعة ينابيع المياه العذبة التي كان الناس يستقون منها

على منكبي مدينة نابلس شمالي الضفة الغربية ووسط أكتافها يتربع موقع كنعاني شامخ بجذوره التاريخية يروي للزوار حكاية صراع مع البقاء تحت إمارات ودويلات متعددة واكبته وعاصرته على أرض فلسطين.

فقبل قرابة 5000 سنة كان تل بلاطة الأثري يشتهر بالتحضر والتمدن لموقعه الاستراتيجي، فهو يقع على مقربة من مدينة نابلس بين جبلي جرزيم وعيبال، والتي كانت تعبر منه الطرق الرئيسة في فلسطين، إذ أنها ربطت بين الشمال والجنوب والشرق والغرب ليشكل مركزا لشبكة واسعة من الطرق منذ فترة مبكرة من التاريخ.

موقعه الجغرافي الذي تناغم مع طبيعته الخلابة وقدسيته العريقة وبأصالة كنعانيته أطلق عليه اسم "شكيم" والتي سبقت التسمية التوراتية للموقع وهذه التسمية اقتبست من الوثائق الكنعانية الرسمية وقبل أن تُعتبر وتُعامل كلفظة عبرية تفيد نفس المعنى.. ومما يؤيد ذلك أن التوراة نفسها ذكرت بأن سيدنا يعقوب عليه السلام عندما أتى إلى "شكيم" بأسرته وأذن له بالنزول بجوارها وهذا يشير إلى أن "شكيم" هي تسمية كنعانية أصيلة.

وقد عثر على سور وبوابة شرقية وغربية، ويقدر الخبراء أن الأبراج والمباني تعود إلى 5,000 سنة أي إلى العصر النحاسي والبرونزي.

وبدأت الحفريات عام 1913م برئاسة الهولندي أرنس سلين، حيث تبين أنها أنقاض مدينة شكيم القديمة.

ويقول المؤرخ الدكتور عبد الله كلبونة مدير عام الآثار بنابلس سابقا لـ "عربي21": "يقع تل بلاطة عند المدخل الشرقي لمدينة نابلس الحديثة وبالتحديد شمال قرية بلاطة العربية ولهذا يدعى بتل بلاطة نسبة إليها".

 

 

                     عبد الله كلبونة مدير عام الآثار بنابلس سابقا


وأضاف: "يبعد التل عن مركز مدينة نابلس الحالية مسافة 2.5 إلى 3م تقريبا ويرتفع عن سطح البحر 525م، ويتكون التل من مجموعة من الطبقات الأثرية التي تكونت نتيجة التراكمات المتعددة من عمليات البناء والهدم وتبلغ مساحته ما بين 45 ـ 54 دونما".

وتابع: "يحده شمالا عمارات سكنية تطل على شارع عمان وغربا أراضي مواطنين تطل على شارع موتورات الكهرباء وجنوبا طريق فرعي مغلق وأراضي مواطنين وشرقا أراضي مواطنين وشارع مقام النبي يوسف".

وأكد مدير الآثار السابق أن أهم ما يميز التل مجموعة ينابيع المياه العذبة التي كان الناس يستقون منها في الماضي والحاضر إضافة إلى امتداد سهل عسكر الكبير الذي كان يعتبر العماد الاقتصادي لسكان التل الذين كانوا بحكم هذا الموقع يتحكمون في الوصول إليه كما تحكموا في الوادي الخصيب والضيق غرب التل فيما بين جبلي عيبال وجرزيم من الجهة الشرقية للتل.

وأوضح أن تل بلاطة كان يقوم على مفترق طرق مركزي هام وحيوي داخل فلسطين بحيث أن الطرق في الاتجاهات الأربعة كان يجب أن تمر منه الأمر الذي كان له أكبر الأثر في رسم تاريخه الطويل وبخاصة في فترة العصر البرونزي الوسيط (1900 ـ 1550 ق. م) وهو عصر نشأت فيه المدن (دويلات) الكنعانية العظيمة في فلسطين تسيطر على ما حولها من تلال مثل دولة تل بلاطة ـ "شكيم" التي كانت سلطتها تمتد من مجدو شمالا وحتى القدس جنوبا.

وبين كلبونة أن تل بلاطة يعرف لدى الباحثين بموقع "شكيم" أو "سكم" التي جاء ذكرها في المصادر التاريخية والأثرية المتعددة من خارج التل، فقد ذكرت مبكرا في نصوص اللغات المصرية التي تعود إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد، وهي عبارة عن كسور فخارية مكتوب عليها أسماء حكام المدن وأدعية وتعاويذ كان المصريون يعتقدون بأنه في حالة كسرها يتم لهم النصر على أعدائهم".

وأردف: "كما جاء ذكر سكم ضمن سلسلة المدن التي ذكرت في مسلة ابيدوس من قبل سبك خو أحد قادة الفرعون سونسيرت الثالث (1878 ـ 1843 ق.م) والذي كان قائد حملة الفرعون ضد مجموعة من المدن وانتصر عليهم وسجل خبر انتصاره على هذه المسلة التي ذكرت من بين هذه المدن اسم سكم مما يعني فرض السيطرة المصرية عليها في هذا الوقت".

نشاط سياسي وعسكري محموم بين الفراعنة والكنعانيين جعل من تل بلاطة ذا أهمية كبيرة، حيث أطلق عليه اسم "شكيم" الذي ذكر في هذه المصادر بصيغ عديدة مثل "شكمو" و"شاه اهكمي" مثل الذي ذكر في رسائل تل العمارنة التي تعود للقرن الرابع عشر قبل الميلاد والتي ذكرت بأن حاكمها الكنعاني في هذا الوقت كان عدوا للفراعنة وعلى صراع مع دويلات المدن الكنعانية التي تتبع لهم، بحسب كلبونة.

وأكد المؤرخ الفلسطيني أن التطور المعماري لتل بلاطة مر بعدة مراحل، حيث تميز باستمرار العمران البشري فيه لمزاياه القيمة حيث تميز بزخم سكاني خلال فتراته الزمنية وقد تراوحت ما بين الازدهار والتدمير.

وشدد مدير عام الآثار السابق على أن الفخاريات التي اكتشفت بالتل تدلل على السكن المبكر فيه منذ العصر الحجري المعدني (الكالكوليثي) الذي يعود إلى الألف الخامس والرابع قبل الميلاد.

وأشار إلى أن الألف الثالث قبل الميلاد هو العصر الذي هاجرت فيه القبائل العربية الكنعانية من الجزيرة العربية واستوطنت فلسطين التي كانت تعرف باسمهم قبل الاسم الأخير الحالي، حيث قامت إحدى قبائلهم بالسكن فيه وكان التل خلال أواسط الألف الثالث قبل الميلاد عبارة عن قرية زراعية ما لبثت أن أصبحت مع بداية الألف الثاني قبل الميلاد دولة مدينة بل إحدى أعظم دويلات المدن الكنعانية في كنعان أو فلسطين.

وبين أنه وخلال القرنين السابع والسادس عشر من الألف الثاني قبل الميلاد تميز تل بلاطة بتحصيناته القوية وبكونه أحد المعاقل الرئيسية للهكسوس ـ الملوك الرعاة وهم الذين قاموا باحتلال مصر حيث شهدت مدينة تل بلاطة في عهدهم نوعا من الهدوء والازدهار والانتعاش وهو ما تمثل بزيادة رقعة مساحة المدينة غربا وزيادة ساحات المعبد الرئيسي وتقوية أسوارها.

"ورغم هذا إلا أن تل بلاطة كان قد واجه سنة 1550 ق.م تدميرا كبيرا تم على أيدي المصريين الذين قاموا بطرد الهكسوس من مصر وملاحقتهم إلى أرض كنعان ـ فلسطين حيث تم أثناء ذلك تدمير أو هدم تل بلاطة وحرقه على نحو عنيف ووحشي، وذلك لما يمثله من معقل رئيسي للهكسوس وقد تم هذا في عهد الفرعون المصري احمس الأول (1570 ـ 1546 ق.م) إلا أن أهالي تل بلاطة وخلال القرن الخامس عشر وبداية القرن الرابع عشر قبل الميلاد ما لبثوا أن أعادوا بناء مدينتهم مجددا"، بحسب كلبونة.

بدوره أكد الكاتب والصحفي الدكتور أمين أبو وردة منسق فريق تجوال أصداء للحفاظ على الآثار أن الإعلام يلعب دورا في تبني قضية الآثار وما تتعرض له تلك المواقع.

واعتبر أبو وردة في حديث لـ "عربي21" أن تناول وسائل الإعلام للمواقع الأثرية موسمي ومتواضع جدا ونادر وقليل جدا، مؤكدا أنه يقتصر على بعض المبادرات الفردية لبعض الصحفيين وليس عملا ممنهجا تتكفل به كل المستويات الرسمية والأهلية.

 

                            أمين أبو وردة.. كاتب وصحفي فلسطيني

وأوضح بأن هناك جهودا شبابية من الإعلاميين من خلال بعض المسارات والتجوالات التي تتم فيها زيارة الأماكن التاريخية مثل المقامات في سبسطية وكفر حارس ومناطق في قرية عورتا.

وبين الكاتب والصحفي أن الأشكال والوسائل التي ينتهجها الإعلاميون من خلال المقابلات التي يجرونها مع الخبراء أو المسؤولين في وزارة السياحة والآثار والتي تأتي ضمن نشرة الأخبار أو صور للانتهاكات التي يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي لا تتعدى الأسطر والكلمات المعدودة، مشيرا إلى أنها ليست كافية لتصدير قضية الآثار إلى العالم العربي والدولي.

وقال أبو وردة: "إن إسرائيل تسعى إلى تزييف التاريخ من خلال طمس الآثار الفلسطينية وادعاء وجود تفسيرات عبرية لتلك المناطق إضافة إلى منع الفلسطينيين من الوصول إليها مما يعمل على تهويد المواقع الأثرية وعدم صيانتها وإهمالها مما يودي إلى اندثارها وربما نسيانها من قبل الفلسطينيين".

من جانبها قالت نورا جردانة منسقة الأنشطة التراثية في مركز تنمية موارد المجتمع في البلدة القديمة في نابلس: "إنه لا يمكن إهمال دور المؤسسات باختلاف أنشطتها لما لها من دور فاعل وأساسي في تسليط الضوء على أهمية الأماكن الأثرية والمواقع التراثية من خلال نشر الوعي والثقافة بين الناس".

 

  نورا جردانة.. منسقة الأنشطة التراثية في مركز تنمية موارد المجتمع في البلدة القديمة في نابلس

وأضافت جردانة لـ "عربي21": "يكمن الدور الرئيس لتلك المؤسسات في زيادة معرفة الناس بدورهم في تشكيل الهوية الفلسطينية والحفاظ عليها خاصة في ظل حرب وصراع دائم مع الاحتلال الإسرائيلي الذي يعمل على سرقة تلك الآثار ونسبها إليه ليبقى الفلسطينيون كما يزعمون (شعبا بلا أرض لأرض بلا شعب)".

وأوضحت أنه لا يمكن تشكيل الوعي العام لدى السكان إلا بزيارة تلك المواقع ليتعرفوا عليها ويصطحبوا أطفالهم سواء برحلات أو بشكل انفرادي ولا يقتصر هذا الأمر على المؤسسات فحسب بل يتعداه إلى المراكز والجمعيات من خلال أنشطة وفعاليات ورحلات وندوات تعريفية لهذه الأماكن.

وبينت جردانة أن تسليط الضوء على الحقب التاريخية التي مرت بها المواقع الأثرية على مر العصور في فلسطين عامة ومدينة نابلس بشكل خاص والتراث عنصر أساسي في توحيد الشعب الفلسطيني سواء في الشتات أو اللجوء.

وأكدت منسقة الأنشطة التراثية أن عدد المقبلين على زيارة الآثار زاد وبشكل ملحوظ خلال العقد الحالي وهذا يدلل على زيادة الوعي لدى الناس في معرفة المراحل التاريخية لمدينة نابلس.

وثمنت جردانة دور مركز تنمية موارد المجتمع في دعم قضية الآثار وذلك من خلال الجولات التي يقومون بها لطلاب المدارس والأشخاص على حد سواء إضافة إلى زيادة التوعية بأهمية ترميم تلك المواقع وعدم تخريبها والعبث بها.

وأوضحت أن المخاطر التي يشكلها الاحتلال كبيرة جدا من يوم بدأ وجودهم على أرض فلسطين من خلال سرقة الآثار التاريخية والمواقع الأثرية ونسبها إلى الرواية الإسرائيلية وضم هذه الأماكن إلى المناطق التي تخضع للسيطرة الإسرائيلية في عديد محافظات الضفة الغربية فضلا عن السرقة من قبل سماسرة الأراضي والعصابات التي تعمل على تنقيب المواقع الأثرية وبيع محتوياتها للاحتلال لقاء مبالغ زهيدة.

واعتبرت منسقة الأنشطة التراثية أن الهدم والتدمير الذي تتعرض له تلك المواقع خلال الحروب والاجتياحات يعمل على اندثارها كما حدث في الانتفاضة الفلسطينية الثانية والاجتياحات الإسرائيلية في محاولة لنسب التاريخ لهم وما تعداه من نسب الثوب الفلسطيني كجزء من التراث الإسرائيلي.


التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم