أفكَار

عن الإسلام والتسامح.. نقاش لمقولات فوكوياما وهنتنغتون

إننا نتبادل النظرات من دون أن ننظر حقا، ونتسامع لكنْ كل واحد لا يسمع إلا صوته الذي يوجد في عمق نفسه
إننا نتبادل النظرات من دون أن ننظر حقا، ونتسامع لكنْ كل واحد لا يسمع إلا صوته الذي يوجد في عمق نفسه

3 ـ التسامح وشرط أنسنة العالمية والعولمة

إن إرادة القوة الهيجمونية الغربية قد حللها وانتقدها باحثون مقتدرون، أمثال هـ.زين و م. هوورد و ر. بارني و إ. سعيد و ن. شومسكي و غ. كولكو وج. نيي، وغيرهم ممن هم أحرار في أن يفكروا وينشروا، لكن من دون أن يجدوا آذانا صاغية عند السياسيين والفاعلين الأمريكيين؛ ولتلك الإرادة منظِّروها وممذهبوها، كالشهيرين إعلاميا فرنسيس فوكوياما وصامويل هنتنغتون (علاوة على وزراء متقاعدين، كهنري كيسنچر وزبيغنييف بريزنسكي، والمحافظين الجدد إبان حكم آل بوش، أمثال بول وولفوويتز وكارل روڤ وريشارد بيرل. 

ففوكوياما المعروف بكتابه نهاية التاريخ والإنسان الخاتم، تبنى دعوة جورج بوش الأب غداة حرب الخليج الثانية إلى نظام عالمي جديد، فأعطاها وعاءها الإيديولوجي (وإلى حد ما الفلسفي)؛ وقد قيل وكتب الشيء الكثير في الموضوع. وعن هذا المؤلَّف يسجل هنتنغتون بحق أنه نتاح "الغبطة الحماسية التي أعقبت نهاية الحرب الباردة وولدت وهم قيام الانسجامية"، ويختم بهذا الحكم: "إن البراديگم المؤسس على فكرة اتساقية العالم يتعسف كثيرا على الواقع بحيث لا يصلح لنا كدليل". 

وحسبنا هنا أن نحيل على مشهد يقول ما يكفي عن أسِّ الكتاب الإيديولوجي وذهنية صاحبه المتأثرة بملحمة غزو الغرب الأمريكي (فار ـ ويست)، وهو مشهد يحوي العديد من عناصر الديكور الهوليودي: رحلة قافلة ضخمة من العربات نحو المدينة، سلسلة جبال يلزم اجتيازها، هجمات الهنود الحمر، عربات مشتعلة، معارك، مخيمات، انسحابات، الخ. لكنْ، وبموجب النهاية السعيدة (هابِّي آند) فإن "غالبية العربات ستمضي في رحلتها البطيئة إلى المدينة، وسيصل معظمها إليها". والمدينة هنا رمز لطريقة الحياة الأمريكية (American way of life) وهي أيضا طريقة في التفكير (American way of thinking). 

 

المستخلص أن مفهوم التنوع الحق، وقس عليه مفهوم التعدد الخلاق لا الخراق، هو ما يمكننا تعريفه كقانون إطار حيث التواصل التعارفي والتبادلي على أساس قيمة التسامح يكون بمثابة قاعدة لا يستقيم سيرها ووظيفتها إلا بضمان السواسية أو الندية الفعلية.

 



أما هنتنغون في أطروحته الشهيرة حول صدام الحضارات، فإنه يعلمنا أن النزاعات بعد نهاية الحرب الباردة (1948 ـ 1986) لن تكون اقتصادية أو إيديولوجية بل ثقافية، أي بين مجموعات تقوم بينها خطوط فصل (أو كسر) حضارية. والحضارات عنده، على وجه التقريب، سبع: الصينية واليابانية والهندوسية والإسلامية والغربية والأمريكية اللاتينية وربما الإفريقية بتعبيره[!]. 

ويذهب إلى الزعم أن "الخطر الأحمر" الشيوعي قد خلفه "الخط الأخضر" الإسلامي، ويتوجب على الغرب، حسب نصيحته، أن يواجهه ويطبق عليه سياسة الاحتواء (containement)، كما كان الشأن زمن الحرب الباردة. ومن فرط نزوع المؤلف إلى تسوية الأضلاع والزوايا، فإنه ينتهي إلى العلماء عن رؤية النزاعات الرهيبة العديدة داخل الحضارة الواحدة وفي كثير من بلدان الجنوب الخاضعة لصراعات النفوذ الهيمني الأجنبي. 

وفي متم مسوحه الماكرو إيديولوجية نراه يكشف عن ورقته الأخيرة وناصية أطروحته في جملة لا لبس فيها ولا مراء، تبدو مشيرة إلى ركن ركين في تفكيره وبيت القصيد في مبحثه؛ فبعد أن شخص أهم المخاطر التي تتهدد سيادة الحضارة الغربية وحكمها (وأعتاها "الصحوة الإسلامية" ودينامية آسيا الاقتصادية)، سطر أن الغرب بمقدوره أن يتغلب عليها «إذا ما عرف نهضة وعاكس التيار وألغى وهن تأثيره في عالم الأعمال، وأثبت موقعه كزعيم leader تتبعه وتقلده الحضارات الأخرى «(صدام الحضارات، ص 334). ولا غرو أن يصدر هنتنغتون أحكامه الجزافية المتطرفة في حق الإسلام وحضارته، هو القليل البضاعة المعرفية في الإسلاميات، والمعول فيها على ملهمه ومرشده، المستشرق الشهير بدراساته (المجادل فيها أحيانا) للتاريخ الإسلامي وكذلك بنوزعه الصهيوني المعلن، وهو برنارلويس الذي أصدر في 1990 دراسة عنوانها "جذور العنف (أو السعر) الإسلامي"(The roots of muslim rage)، وأورد فيها مفهوم "صراع الحضارات"، فسجل من باب التنبيه والتحذير "يلزم أن يكون واضحا منذ الآن أننا نواجه حالة ذهنية وحركة تتجاوزان المشاكل والسياسات والحكومات التي تجسدها. 

فالأمر ليس أقل من كونه "صدام حضارات". إنه ربما رد الفعل اللاعقلاني، ولكنه قديم قدم خصم مناوئ لإرثنا اليهودي-المسيحي ولما نحن عليه اليوم، ولانتشار هذا وذاك. إنه من الأهمية البالغة أن لا نسقط، من جهتنا في ردة فعل تكون هي أيضا لاعقلانية وقديمة ضد هذا الخصيم" (Atlantic Monthly عدد 266/1990). إنها كلمات راجمة، مشحونة بتصور حربوي للتاريخ، لا تبشر بأي خير لإعادة تأسيس ثقافة التسامح والسلام، تكون مخلصةً من سيكولوجيا الغل والضغينة ومن أي ذاكرة أحادية البعد، مسكوكة بصراعات الماضي وحروبه. 

ولا عجب أن يكون لويس هو ملهم نظرية "الفوضى الخلاقة" و"استراتجية الدمار" التي تبناها وكيفها "المحافظون الجدد" في عهد آل بوش مع الأب والإبن، ومبدؤها «ما لا تستطيع تملكه دمِّره»، ومن ترسانتها المفاهيمية: الاحتواء (containement)، الدولة المارقة (أو المتصعلكة) Rogue States، محور الشر (axis of devil)، الحرب الاستباقية (preventiv war)، هاجم (attack) وسواها، وكلها تنسف قيمة التسامح وتنفيها كليةً وأصلا.

في منحنى تجديد وإعادة إنشاء ثقافة السلام والتسامح، يحسن بنا إذن أن نتمثل العالمية أشبه ما تكون بكوكب فارغ قابل لأن يحيا وينتعش بالعطاءات الهوياتية المرتبطة أساسا بأخلاق الاستعراف البيني والتشارك البناء. وبالتالي فإن الثقافات لا يمكنها إقامة معنى لوجودها بالمحاكاة والتبعيات التبخيسية، بل بتكوين شخصيتها الهويتية وتنمية سبل بلوغها الفعلي والمسؤول مرتبةَ العالمية، وإلا فإن الهوية المهيمنة ستكون هوية القوى المهيمنة المضادة لقيمة التسامح، وسيحكم على غالبية الساكنة الأرضية بإقامة وجودها على الاستيراد المطرد والسعي إذن إلى انتحال ثقافة الآخرين بالاقتباسات والتقمصات. وحتى لو اعتبرنا هذا الصنف من الوجود محتملا، فإن سريانه يبقى رهينا بعلامات الاصطناع والكوميديا الحزينة، وممثليه مكتفين بحياة النقب في صحون الغير، محرومين من أي نوابض ذاتيةٍ إبداعية.

إجمالا، مثل التبعيات المستعبَدة اللامنتجة كمثل المديونيات، كلما راكمتها بلدان إلا ورهنت مستقبلها وأضعفت محركات تنميتها الذاتية. إن التبعية التي يعتقد بعض رهبان "العولمة السعيدة" (من صنف ألان مينك) أنها أمست متقادمة أو غير ذات مضمون، نرى على العكس من ذلك أنها مازالت جارية على نحو متخفٍّ ولين (soft)، ولكنها في إواليات الكبح والحجر بالغةُ الإجرائية محكمتُها، لا يعمى عن إدراكها إلا من تعود على تمارين الانخداع أو اعتبار رغباته حقائق.

في الاتجاه نفسه، أنسنة العولمة الحوارية التسامحية معناها ما يأتي: 

أ ـ علاوة على ضرورة فك الارتباط بدكتاتورية السوق، يجب وضع توازن في العلاقات بين رأس المال والشغل داخل البلدان وعلى الصعيد العالمي؛ ومؤدى هذا إقامة قوانين اقتصاد تضامني، عادل وخاضع لحكامة جيدة، اقتصاد يصاحبه ويديره مجلس أمن اقتصادي متفرع عن هيئة الأمم المتحدة.

 

إذا كان العلم من دون وعي أخلاقي عبارة عن إبادة الروح، فكذلك الأمر في دينك المفهومين، إذا جردا من البعد التواصليِّ الملازم والتناسج المقويِّ اللاحمِ، أي من الأسين اللذين تقوم عليهما تجارب الاتحادات الموفقة عبر العالم. والأمل كلُّ الأملِ معقودٌ، عربيّاً، على أن تغدوَ الإمارات العربية المتحدة القدوةَ النيرة والمثلَ الأمثلَ والسياديَّ المبدع.

 



ب ـ إحلال تلك القوانين ذات البعد الإنسوي محل نظام الأسواق العالمية المستبدة والتنافسية السائبة والرأسمالية القاتلة (killer capitalism)، وهو نظام يُعرض من طرف منشئيه كقدر مقدر مشخِّصٍ للنسق الاقتصادي الأوحد الذي لا بديل له.

ج ـ تبني اقتصاد أخضر وتصنيعٍ غير ملوث وطاقاتٍ متجددة، وذلك للتأثير أساسيا على التنمية المشتركة والتجارة العادلة، مما يفضي إلى ترقية حياة اليسر للأفراد والجماعات والتعايش السمحِ البناء.
د- انفتاح تدريس العلوم والإقتضاد ومواد التدبير والتسويق على تعليم الإنسانيات والفنون والأخلاق، دينية كانت أم لائكية.

باستيفاء هذه المقومات، ضمن أخرى، يمكن للعولمة، كنظام شمولي عقلاني متفاوض عليه، أن تكسب الإنخراط الإيجابي لغالبية ساكنة الأرض وأقطارها، وترسخ تبيئة القيم الإنسية التي من أبرزها وأعلاها شأنا ما سميناه الحوار التسامحي.

خاتمة

التسامح أعز ما يطلب وهو لكذلك إذا ما عرفت الشرائط المذكورة، من ضمن أخرى، إنجازها وأجرأتها بتثمين القول وتقوية الفعل وتجويده. 

إن مفهوم التسامح الفائق الرواج من طرف أوساط سياسية ودينية وإعلامية، خليق بنا أن نعيد التفكير فيه، متى يتوجب، حتى يتم تخليصه من التوصيفات السلبية، الظاهرة منها والمضمرة، كالعطف والشفقة والتحمل، وكلها تفضي بنحو أو آخر إلى مواقف الإزدراء أو اللامبالاة. ففي اللغة اليونانية القديمة لا وجود في العهد الهيليني لأي مرادف للكلمة اللاتينية tolerancia؛ وفي المقابل نجد فيها كلمتين أكثر غنى وعمقا هي: homonoia (التوافق، التقاسم) وthymos، (الاستعراف). وكلها ألفاظ متماهية مع قولة عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه: "الناس صنفان: إما أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق". 

أما اللغة العربية، فإن لكلمة تسامح طابعا مائزا متفوقا من حيث صيغتها التفاعلية، فلا يتسنى ترجمتها إلا بكلمة تكون محدثة أو مولدة في لغات أخرى، أي intertolerance، ويحسن ربطها بكلمة اليسر في الدين الإسلامي الحنيف. وفي هذا المنحى، لعل شمس الدين السرخسي، العارف بالفقه الحنفي في شرح المبسوط، أجاد وأفاد حين سجل: "الاستحسان ترك القياس إلى ما هو أوفق للناس، وقيل الأخذ بالسعة وابتغاء الدعة، وقيل الأخذ بالسماحة وابتغاء ما فيه الراحة". ومحصّل هذه العبارات النيرات أنه إيثار اليسر على العسر، وهو أصل في الدين، كما في مضمون الآية الكريمة ﴿يريد الله بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر﴾ (البقرة/185)، وفي قوله عليه الصلاة والسلام: "خير دينكم اليسر". واليسر نقيض الغلو واللاتسامح. وبناء على مرجعية الإسلام في هذا الركن الركين، فإن فقهاء التجهيل والتكفير أناس هملٌ أغمار، لا يحفظ لهم التاريخ ذكرا ولا أثرا، عدا تحرشاتهم المتهافتة المشينة، بينما يُسكن التاريخُ علماءه ومفكريه في ذاكرة أمتهم ووجدانها، لأنهم مدى حياتهم أبدعوا تراثها، وطوروه، وقووا وعيها بهويتها ومقدراتها، فهم إذن فيها الأعلونَ والأبقون.

أما في زماننا هذا، فإنه لم يعد أيُّ حقٍّ لأفراد أو جماعات في إصدار فتاوى مكفرة تمارس العنف واللاتسامح، من شأنها أن توقع الفتنة والقتل معا في الناس وتعرِّض حياة شخصيات في شتى الميادين للإغتيال أو للجرح والاعطاب، وذلك أن مجتمعاتنا أضحت أكثر من أي وقت مضى قائمة أيضا على المؤسسات ومواثيق حقوق الإنسان، الدينية منها والوضعية هذا وإن 

وعليه، فالنضال من أجل التسامح بمعانيه اليونانية ـ العربية لهو نضال طويل النفسَ والأمد. وإذا كان الوعي بتبنيه وتنظيره أوروبيا يعود إلى فلاسفة الأنوار خلال وقوفهم ضد حروب الأديان والمؤسسة الكنيسية، فلا بد أيضا من الإشارة عند الكثير منهم (باستثناء جان ـ جاك روسو) إلى تهميشهم وسوء تقديرهم لسيكولوجيا الشعوب "البدائية"، أو على صعيد آخر إلى ازدواجيتهم المتقلبة بازاء الإسلام، خصوصا عند فولتير الذي وضع كتيبا في التسامح؛ غير أن موقفه يبدو متأرجحا بين التنويه بالنبي محمد عليه السلام وبالإسلام في كتابهEssai sur les mœurs أو في مادة "محمديون" من قاموسه الفلسفي، وبين النفور من نبي الإسلام والتشهير به، كما في عمله الأول محمد، وهو المسرحية التي إفتتحها برسالة موجهة إلى البابا بونوا الرابع عشر قائلا: هذا العمل أكتبه عن مؤسس فرقة مزيفة بربرية una falsa et barbara setta".

من جهة أخرى، ما دامت الحدود بين الأخلاق والسياسة والإيديولوجيا غامضة ومتحركة، فإن العمل على الذات يبقى أمرا لازما باستمرار، وذلك حتى يتقي كلٌّ منا خطر الركون إلى أي سبات دوغمائي، من شأنه أن يوقنه أنه هو المشخص للتسامح حقا وأن اللاتسامح هو من فعل الآخرين. ومن جهة أخرى، فإن فولتير المؤمن بوجود الله (déiste) قد اتسم فكره ومواقفه بنوع من اللاتسامح العنيف ضد الكنيسة والدين عموما. 

 

إن الأخطر في الأمر أن تلك الألفاظ جميعها، المعلّبةِ الجاهزة، تُخِلُّ بمفهوم الهوية نفسها كمفهوم محوري تأسيسي، وذلك بالترويج لما يسمى "الهوية المتنوعة المتعددة" من طرف جهات تقسيمية متنفذة، علاوة على النزعات الطائفية والعشائرية ودعاتها الذين لا همَّ لهم ولا مبتغى إلا تعطيل الهوية الإجماعية وطاقتها التسامحية وإفراغها شيئا فشيئا من نوابضها الحيوية،

 



ومن جهة أخرى، في ظل الواقع اللغوي السيّار وما يعتريه من فوضى عارمة، كم يطالعنا، حتى على صعيد الوطن الواحد، استعمال إسهاليٌّ مفرط لألفاظ مثل التعدد الذي قد يصير قددية أي مُفسدَ كل حوار تسامحي إيجابي مثمر إذا ما أسيئت معرفيا مراقبته وإدارته. ففي وسط مبلقنٍ سياسيا وحامل لكسور ثقافية بينة، وبمحضر قنوات تواصل مهشمة، فإن ذلك اللفظ مثلا كعلامة غنى مفترض، لا يعدو أن يكون محارة فارغة ويافطة خادعة، تترتب عليه عواقب وخيمة، منها أن الحق في مرادفه الاختلاف (difference) المطلوب بالهتاف والإلحاح باسم التعدد، يتحول في الممارسة الفعلية إلى حق في اللامبالاة (indifference)، وبالتالي إلى التمهيد للخلاف المستعصي بل للكراهية بين الذوات ولخطابات البارانويا والانطواء الفصامي. 

والحال أننا في هذا المجال نواجه أيضا تصورات سائبة ولامنتجة، بحيث تؤول إلى إقامة حيطان عازلة بين الأوعاء الجماعية وحتى الفردية، لعلها الأخطر من سواها، وذلك بسبب انتمائها إلى دوائر الرمزي والنفسي. وكذلك الأمر مع لفظ التنوع حين لا يتمخض عن التمثل المفهومي وعملية الفكر، إذ يغدو مسخا وعامل سلبٍ لأنموذج التنوع البيولوجي نفسه (biodiversity)، فيولِّد عناصر مرضية من طبيعتها أن تنخر، كسرطان، جسم مجتمع كله بتعريضه لمخاطر شتى: تفكك العلائق وتقطعها، إحتقان قنوات التواصل والتبادل، تفشي التنابذ والتصامم والتباغض، وسوى ذلك من الـمضاعفات المفضية إلى مجتمع متشظٍّ، ضعيفِ التماسك والتضامن. وهكذا يصير فيه مفهوم الوحدة أو الاتحاد مخفَّضا، بل مهملا وغير مُدْمَجٍ ومبرمج، هذا في حين أنه في البلدان المتقدمة يقوم كعُملة قوية وإسمنت استمساكي، وكغاية مثلى في حد ذاتها. وبالتالي فمن دون التسامح التواصلي وفي إدامة نفيه أو تغييبه، فإن الناس يصح عليهم ما قاله الأديب البرتغالي فرناندو بيسووا: "هل تصورتِ مرة، يا اختلافيتي (ô ma Différente)، كم نحن لامرئيين بعضنا لبعض؟ هل فكرت مرة إلى أي حدٍّ يجهل بعضنا البعض؟ إننا نتبادل النظرات من دون أن ننظر حقا، ونتسامع لكنْ كل واحد لا يسمع إلا صوته الذي يوجد في عمق نفسه" (كتاب اللاّطمأنينة، ص 326). 

إن الأخطر في الأمر أن تلك الألفاظ جميعها، المعلّبةِ الجاهزة، تُخِلُّ بمفهوم الهوية نفسها كمفهوم محوري تأسيسي، وذلك بالترويج لما يسمى "الهوية المتنوعة المتعددة" من طرف جهات تقسيمية متنفذة، علاوة على النزعات الطائفية والعشائرية ودعاتها الذين لا همَّ لهم ولا مبتغى إلا تعطيل الهوية الإجماعية وطاقتها التسامحية وإفراغها شيئا فشيئا من نوابضها الحيوية، ومن مناعتها المكتسبة ومقوماتها التاريخية والثقافية واللغوية الثرية العميقة. 

والمستخلص أن مفهوم التنوع الحق، وقس عليه مفهوم التعدد الخلاق لا الخراق، هو ما يمكننا تعريفه كقانون إطار حيث التواصل التعارفي والتبادلي على أساس قيمة التسامح يكون بمثابة قاعدة لا يستقيم سيرها ووظيفتها إلا بضمان السواسية أو الندية الفعلية. وعليه، فإذا كان العلم من دون وعي أخلاقي عبارة عن إبادة الروح، فكذلك الأمر في دينك المفهومين، إذا جردا من البعد التواصليِّ الملازم والتناسج المقويِّ اللاحمِ، أي من الأسين اللذين تقوم عليهما تجارب الاتحادات الموفقة عبر العالم. والأمل كلُّ الأملِ معقودٌ، عربيّاً، على أن تغدوَ الإمارات العربية المتحدة القدوةَ النيرة والمثلَ الأمثلَ والسياديَّ المبدع.

 

إقرأ أيضا: وزير مغربي سابق: "الإسلاموية" مصطلح سياسي لا سند له واقعيا


التعليقات (0)