أفكَار

مؤرخ تونسي: بورقيبة اعتمد على شيوعيين وليبراليين ومستقلين

مؤرخ تونسي: تراجع المستوى العلمي في الجامعة التونسية أمر خطير جدا- (عربي21)
مؤرخ تونسي: تراجع المستوى العلمي في الجامعة التونسية أمر خطير جدا- (عربي21)

يعتبر المؤرخ والمفكر التونسي المخضرم خليفة شاطر أحد أبرز الباحثين في التاريخ والسياسة الدولية. تعرف عن قرب على أغلب السياسيين والمثقفين والإعلاميين والجامعيين خلال السبعين عاما الماضية بينهم الرؤساء السابقون الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي وفؤاد المبزع والباجي قائد السبسي..
يتابع خليفة شاطر، وهو في العقد التاسع من عمره، الكتابة في وسائل الإعلام التونسية والدولية وإصدار كتب علمية سياسية مثيرة، آخرها كتاب عن عهد الرئيس الأول لتونس الحبيب بورقيبة (1955ـ 1987) وثان عن الزعيم الوطني الليبرالي ورئيس الحكومة الانتقالية قبل الاستقلال الطاهر بن عمار..

عرف خليفة شاطر الرئيس الحبيب بورقيبة وعائلته والمقربين منه عن قرب.. ودرس مع زين العابدين بن علي وعدد من وزرائه ومستشاريه في الثانوية ثم عرفه عن قرب رئيسا. وقد أهله ذلك لتولي مسؤوليات علمية وثقافية وأكاديمية كثيرة في عهدهما، بينها رئاسة مؤسسة جمعية دراسات دولية ومعهد الدراسات الدولية التابع لها والذي تخرجت منه نخبة من الدبلوماسيين وكبار المسؤولين في الدولة..

الإعلامي والأكاديمي كمال بن يونس التقى المؤرخ خليفة شاطر وأجرى معه الحوار التالي الخاص بـ "عربي21" حول صفحات سرية من تطور الحياة الفكرية والسياسية في تونس خلال الـ65 عاما الماضية، والصراعات داخل مؤسسات الحكم والمجتمع والمعارضة بين الشيوعيين والليبراليين والقوميين والإسلاميين:

س ـ أستاذ خليفة شاطر أنت مؤرخ وباحث كبير من بين خريجي جامعة "السوربون" في فرنسا منذ 1974.. عرفت عن قرب مبكرا الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة ابن بلدتك المنستير، وتعرفت على أغلب المقربين منه خلال 32 عاما من الحكم وبينهم رئيس الوزراء والمفكر محمد مزالي ومدير الحزب المثير للجدل الوزير محمد الصياح.. ثم ألفت كتابا علميا عن بورقيبة.. كما أنك واكبت المسار السياسي للرئيس زين العابدين بن علي وثلة من رفاقه في المعهد الثانوي بمدينة "سوسة"، 130 كلم جنوبي العاصمة تونس، منذ كنتم طلابا في الثانوية.. فكيف تقيم المرجعيات الثقافية والفكرية للرئيسين بورقيبة وبن علي والحزب الحاكم في عهدهما، ما بين 1955 و2011؟ هل صحيح أنهم اعتمدوا على سياسيين ومثقفين من مدارس "غربية" ليبرالية وشيوعية واشتراكية ودخلا في قطيعة مع رموز التيارات العروبية والإسلامية؟

 

 ـ لا أعتقد أن الزعيم بورقيبة اختلف عن منافسه في قيادة الحزب والحركة الوطنية صالح بن يوسف بسبب العلاقة مع الزعيم جمال عبد الناصر والقومية العربية والإسلام ..

الخلاف كان سياسيا ..حسم لصالح بورقيبة وانصاره الذين كانوا أقلية في قيادة الحزب عام 1955، لكنهم نجحوا في تغيير ميزان القوى لصالحهم بدعم من فرنسا ومن عدد من زعماء الحزب والحركة النقابية الذين " تضخم دورهم لاحقا" بينهم الحبيب عاشور واحمد بن صالح واحمد التليلي ومصطفى الفيلالي والهادي نويرة والباهي الادغم ..

بعد ذلك كنا في اتحاد الطلبة مباشرة بعد الاستقلال مساندون للحزب ولبورقيبة ، لكن بزرت مبكرا بيننا 3 مجموعات و3 تيارات:
 
ـ التيار الأول "دستوري" تابع للحزب الدستوري الذي تزعمه الحبيب بورقيبة منذ 1934 ثم أصبح الحزب الحاكم بعد 1956، وكان من بين قادته عبد المجيد شاكر ومحمد بن عمارة ومصطفى الفيلالي ثم محمد الصياح ..

ـ الثاني تيار يضم اليسار الشيوعي والاشتراكي وكان من أبرز رموزه المنصف سلامة، أصيل مدينة المنستير موطن بورقيبة ، وهو قيادي سابق في الحزب الشيوعي التونسي .

وقد جذب المنصف سلامة الى الحزب الدستوري شخصيات شيوعية بينها محمد الصياح الذي سيصبح لاحقا نائب مدير للحزب ثم وزيرا مديرا مركزيا للحزب ووزيرا للتربية والتعليم والتجهيز. ويعتبر الصياح من بين أكثر من أثروا  في توجهات الحزب والدولة الفكرية والسياسية في الستينات والسبعينات والثمانينات ..وأوشك أن يعين رئيسا للحكومة في 1980 قبل أن ينحاز الرئيس بورقيبة إلى المرحوم محمد مزالي بتأثير من زوجته وسيلة.

وقد استقطب محمد الصباح والمنصف سلامة وفريقهما شخصيات شيوعية واشتراكية ونقابية يسارية كثيرة انخرطت بدورها في الحزب ثم تولت مسؤوليات عليا في الدولة بينها حقائب وزارية ..

وكان من بين هؤلاء العربي عبد الرزاق و عمر بالخيرية و الهادي الزغل الذي عين وزيرا للشباب والرياضة في حكومتي الهادي نويرة ومحمد مزالي.

وتولي العربي عبد الرزاق مسؤوليات عليا في قطاعات التربية والثقافة والشباب والاعلام بينها مناصب برتبة وزير مثل مدير ورئيس تحرير دار العمل. كماعين عضوا في البرلمان لمدة عشرة أعوام (1974 ـ 1984 ) وفي القيادة العليا للحزب، "الديوان السياسي "، ما بين 1978 و1981.

ـ أما التيار الثالث فكان يضم المستقلين، كنت من بينهم مع شخصيات برزت لاحقا على رأس حركات يسارية، مثل "حركة آفاق"، أو على رأس مؤسسات الدولة. وكان من بين هؤلاء احمد السماوي الذي سيصبح في 1968 من بين قيادات حركة "آفاق"، لكنه عين فيما بعد وزيرا ومسؤولا أول عن قطاعات استراتيجية في الدولة مثل السياحة والنقل ..

وقد نظم "المستقلون" و"الدستوريون" مرارا تحركات ضد محمد الصياح ورفاقه القادمين من الحركة الشيوعية.. لكنهم صمدوا وعززوا مواقعهم عبر اظهار ولاء كبير لبورقيبة والمقربين منه..

بورقيبة والاشتراكية والشيوعية 

س ـ كيف تفسر أن الزعيم بورقيبة ورفاقه في الحركة الوطنية انحازوا مبكرا إلى النقابات العمالية والتوجهات اليسارية الاجتماعية رغم قرار حظر الحزب الشيوعي التونسي في جانفي 1963؟ ولماذا انحاز بورقيبة وقيادات البلاد في الستينيات إلى سياسة "اشتراكية" ولتغيير اسم الحزب الحاكم في مؤتمره الوطني في 1964 بمدينة بنزرت من "الحزب الحر الدستوري" إلى "الحزب الاشتراكي الدستوري"؟ 


 ـ لم يكن للرئيس بورقيبة ورفاقه في قيادة الحركة الوطنية التونسية مشروع سياسي اقتصادي أو برنامج اجتماعي ولا أي تصور للدولة الحديثة المستقلة التي كانوا يطالبون بها في عهد الاحتلال .

فلما تغيرت موازين القوى دوليا واضطرت فرنسا إلى الاعتراف باستقلال تونس والمغرب وعدد من مستعمراتها ، انفتح بورقيبة ورفاقه على قيادات النقابات ، وخاصة الاتحاد العام التونسي للشغل ، واستفادوا من دراساتهم الاقتصادية والاجتماعية ، التي كانت متأثرة باليسار العمالي الدولي والتيارات الاشتراكية العالمية .

لكن بورقيبة أعلن مرارا أنه ضد الشيوعية التقليدية وتبنى حتى موفى الستينات "الاشتراكية الدستورية" ( أو الاشتراكية البورقيبية ) وسياسة "التعاضد"، أي تأسيس آلاف الشركات الاهلية التي تشرف على قطاعات التجارة والصناعة والزراعة ، وتكون الملكية فيها أساسا للدولة مع مشاركة للخواص .

فلما فشلت تلك السياسة وتسببت في أزمة اقتصادية اجتماعية أمنية شاملة تخلى عنه وسمح بمحاكمة المشرف على تنفيذها الوزير والزعيم النقابي القوي احمد بن صالح و"اليساريين " المقربين منه .

ورغم حضر الحزب الشيوعي التونسي ومحاكمة عدد من المجموعات المعارضة اليسارية والقومية فقد تبنى بورقيبة ، ومن بعده الرئيس زين العابدين بن علي ، "إدماج المعارضين السابقين" ونخبة من رموز اليسار الماركسي والقومي " في الحزب الحاكم وفي مؤسسات الدولة وفي الإدارة الحكومية .

وبالنسبة لمنظمات الشباب التابعة للحزب سمح بورقيبة ومن بعده بن علي ب" الانفتاح على المعارضين السابقين " وعلى يساريين ماركسيين شريطة التزامهم بالتوجهات الكبرى لسياسته ..

وبعد إقرار التعددية الحزبية في العشرية الأخيرة من حكمه ، كان بورقيبة يستقبل زعماء الأحزاب الشيوعية والاشتراكية واليسارية والليبيرالية ويدعوها إلى " العودة إلى الحزب "،رغم تبني رئيس حكومته محمد مزالي وزوجته وسيلة للتعددية والديمقراطية السياسية والحزبية ...

ورغم قمع السلطات في عهدي بورقيبة وبن علي مرارا للمعارضة بمختلف رموزها فقد حرصا في فترات عديدة  على "احتواء المعارضين التائبين" و"التحالف مع النقابات والنقابيين". 


لذلك تضخم دور النقابات وقيادات اتحاد الشغل التي نجحت مبكرا في استقطاب الجامعيين والاكاديميين اليساريين والمستقلين عن الحزب الحاكم .

وقد تزايد دور هؤلاء الجامعيين في عشرية السبعينات التي أسندت فيها رئاسة الحكومة للخبير الاقتصادي الليبيرالي ومحافظ البنك المركزي السابق الهادي نويرة .

الولاء قبل الكفاءة  

س ـ هناك من يعتبر أن من بين غلطات الدولة في عهد بورقيبة الاعتماد على شباب من خريجي الجامعات الغربية ممن ليست لديهم خبرة وتجارب، بهدف استبعاد المناضلين الوطنيين الذين كانت ميولتهم عربية إسلامية ومن خريجي جامعة الزيتونة.. فكانت الحصيلة أن أعطيت الأولوية للولاء وليس للخبرة والنجاعة.. وتواصل نفس السلوك بعد بورقيبة..


 ـ أولا بورقيبة قرب منه مناضلين سابقين ليسوا من خريجي الجامعات الاوربية ، بينهم عبد الله فرحات، الذي أسندت إليها حقائب كثيرة مهمة جدا بينها الدفاع ، بالرغم من كونه لم يكن من بين حاملي شهادة الثانوية ( الباكالوريا )..اذن فكان يؤمن بأن " الولاء قبل الكفاءة "..

في نفس الوقت كان بورقيبة حريصا على الترويج لفهم حداثي تقدمي للإسلام والتراث العربي .. لذلك دعا المفكر ووزير المعارف السابق في مصر طه حسين الى القاء خطاب في جامع الزيتونة والى افتتاح السنة الجامعية بحضور الشيخ الطاهر بن عاشور وزملائه .. واستغل بورقيبة المناسبة ليسمع مشايخ الزيتونة " المحافظين " بغلطهم عندما حاربوا أفكار المصلح الكبير الشيخ الطاهر الحداد وخاصة كتابه "امرأتنا بين الشريعة والمجتمع "..

وطلب بورقيبة من بن عاشور ومشايخ الزيتونة أن يعيدوا الاعتبار علميا للطاهر الحداد وكتبه بحضور طه حسين فحقق انتصارا عل خصومه "السلفيين" والقوميين والإسلاميين ..خاصة أن كثيرا منهم وقفوا ضده وانحازوا الى خصمه الزعيم صالح بن يوسف بعد اعلان الاستقلال الداخلي المحدود في 1955..

واستغل بورقيبة ذلك المنعرج للتأثير في توجهات اصلاح التعليم وقطاع الثقافة التي كلف بها لاحقا الاديب والمفكر الوجودي محمود المسعدي ..قبل أن تسند حقائب التربية والثقافة إلى شخصيات مثل الشاذلي القليبي ومحمد مزالي والبشير بن سلامة ..الذين لم يكن لهم نفس العمق الفكري والمعرفي ..وكان بورقيبة ومقربون منه يعتبرونهم أقرب إلى " التيار المحافظ والسلفي "رغم السماح لهم بلعب دور وطني عبر مجلة " الفكر" ثم على رأس مؤسسات الدولة .. 

تراجع المستوى العلمي والثقافي 

س ـ كيف تقيم اليوم مستوى العلمي والثقافي للجامعة التونسية وخريجيها الجدد وأدائها؟


 ـ للأسف هناك تراجع عام في مستوى الخريجين والجامعيين في الجامعة التونسية وفي عدد من الجامعات العربية بما في ذلك في شعب الدراسات التاريخية والفكرية والفلسفية واقسام الدراسات الدولية ..


لكن بعض الأكاديميين التونسيين لديهم اشعاع عالمي وعربي ولديهم عمق معرفي وقدموا منشورات اثرت المكتبة العالمية مثل المؤرخ والمفكر هشام جعيط الذي توفي العام الماضي بعد أن أثرى المكتبة العالمية بمؤلفات علمية تأليفية عميقة عن التاريخ العربي الإسلامي في مختلف المجالات .


التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم