قضايا وآراء

عن الحراك الفلسطيني اللافت في القاهرة

ماجد عزام
وفد الجهاد الإسلامي في القاهرة- تويتر
وفد الجهاد الإسلامي في القاهرة- تويتر
استضافت القاهرة أوائل حزيران/ يونيو الجاري وفوداً فلسطينية تمثل سلطة رام الله وحركتي حماس والجهاد الإسلامي، مع إقحام تيار محمد دحلان في الصورة. بدا هذا الحراك الفلسطيني لافتاً ليس فقط لإطلاقه في أعقاب العدوان الإسرائيلي الأخيرة ضد قطاع غزة، وإنما لتزامنه مع تسريبات عن مشاريع وخطط مصرية موسعة من أجل تحقيق أو إدامة الهدنة السائدة مع الاحتلال، وفي السياق التهدئة لا المصالحة بين الفصائل الفلسطينية نفسها والسلطتين في غزة ورام الله.

بداية ومنهجياً، لا بد من الإشارة إلى السياق العام للجهود المصرية المندرجة ضمن قواعد وخطوط اللعب المرسومة أمريكياً وإسرائيلياً لصيانة الواقع الراهن في فلسطين، وضمان عدم خروجه عن السيطرة، ليس في غزة وإنما الضفة الغربية أيضاً، ما يعني بالضرورة إبقاء القنوات مفتوحة مع رام الله، والعمل على تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الكارثية في غزة لقطع الطريق على أي تصعيد أو انفجار كبير، علماً أن ثمة شياطين كثيرة تكمن في تفاصيل خطط ومشاريع التهدئة، وتحسين الأوضاع الكارثية والمأساوية بغزة.

السياق العام للجهود المصرية المندرجة ضمن قواعد وخطوط اللعب المرسومة أمريكياً وإسرائيلياً لصيانة الواقع الراهن في فلسطين، وضمان عدم خروجه عن السيطرة، ليس في غزة وإنما الضفة الغربية أيضاً، ما يعني بالضرورة إبقاء القنوات مفتوحة مع رام الله، والعمل على تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الكارثية في غزة لقطع الطريق على أي تصعيد أو انفجار كبير

بدا الحراك الفلسطيني في القاهرة أولاً مع استقبال رئيس وزراء السلطة محمد اشتية، وقيل إن الزيارة تمت بناء على دعوة من نظيره المصري مصطفى مدبولي، غير أن اللقاءات العلنية لاشتية مع مدبولي نفسه ووزراء مصريين آخرين كانت أقرب إلى العلاقات العامة -بما في ذلك لقاءه فضيلة شيخ الأزهر الشيخ أحمد الطيب- بينما كان جدول الأعمال والنقاش الحقيقي مع جهاز المخابرات العامة ورئيسه الجنرال عباس كامل؛ الذي بات بمثابة الرجل الثاني في نظام الجنرال عبد الفتاح السيسي.

في الحوارات مع اشتية جرى نقاش ملفات عديدة منها مشاريع إعادة الإعمار المصرية في قطاع غزة تحديداً الشقق السكنية -مدن مصر- 1300 وحدة تقريباً، إضافة إلى خطط تشغيل حقل الغاز الطبيعي "مارين" مقابل سواحل غزة -أعلنت إسرائيل رسمياً عن ذلك أواخر الشهر الجاري- وأفكار أخرى، منها تزويدها 100 ميغا واط من الكهرباء على أن ترتفع لتصل إلى 300 بعد ذلك، علماً أنها تمثل نصف الكمية التي يحتاجها القطاع المحاصر مع إطلالة عامة كذلك على الخطط الأخرى التي تفكر القاهرة القيام بها هناك، بما في ذلك القيام بمزيد من التسهيلات على حرية الحركة للمواطنين من خلال معبر رفح باعتباره المنفذ الوحيد للغزيين نحو الخارج.

هنا لا بد من التذكير بحقيقة أن سلطة رام الله تسعى إلى تكريس حضورها السياسي في النقاش حول الخطط والمشاريع المصرية بغزة، بمعنى عدم إقصائها أو تهميشها وإبقائها في الصورة العامة للأحداث، ولكنها تبحث عن عائدات الضرائب والجمارك من المشاريع التي قد تشهدها غزة قريباً. وهذا ما يعنيها أساساً ودفعها للحديث في التفاصيل لدرجة المطالبة باختيار المستفيدين من الوحدات السكنية أو الشركات التي يتم تلزيم المشاريع المصرية لها، ما يبقيها على اطلاع وقريبة أكثر مما يجري في غزة القريبة منها جغرافياً والبعيدة عنها سياسياً ونفسياً.

بالعموم، لا تعترض القاهرة على أفكار السلطة، وتعتقد أن حضورها ضروري سياسياً ودبلوماسياً لتسويق المشاريع السابقة للخارج، ونيل تأييد أكبر لها إقليمياً ودولياً بما في ذلك أمريكياً وإسرائيلياً بالطبع، خاصة مع قناعة القاهرة بأن حضور السلطة سيقويها سياسياً ومالياً لمساعدتها على البقاء وأداء مهامها في الضفة ضمن الحفاظ على الواقع الراهن هناك ومنع انهياره، مع قناعة أخرى أن التنسيق والعمل الفعلي على الأرض سيكون مع حركة حماس بصفتها القوة الحاكمة فعلياً في غزة.

قناعة القاهرة بأن حضور السلطة سيقويها سياسياً ومالياً لمساعدتها على البقاء وأداء مهامها في الضفة ضمن الحفاظ على الواقع الراهن هناك ومنع انهياره، مع قناعة أخرى أن التنسيق والعمل الفعلي على الأرض سيكون مع حركة حماس بصفتها القوة الحاكمة فعلياً في غزة

في نفس الأسبوع وبعد مغادرة اشتيه مباشرة وعلى نحو غير معلن مسبقاً، دعت واستقبلت القاهرة؛ وللدقة استدعت وفودا قيادية من حركتي حماس والجهاد الإسلامي للنقاش معها حول نفس الملفات تقريباً، إضافة إلى التهدئة مع الاحتلال، وإدخال تيار القيادي الفتحاوي المفصول محمد دحلان في المشهد عبر صورة جماعية بدت لافتة بصحبة وفدي حركتي حماس والجهاد في أحد مقرات المخابرات المصرية بالقاهرة.

مع حماس جرى نقاش التهدئة من زاوية تشجيع الحركة على المضي قدماً بسياستها في العامين الماضين منذ جولة سيف القدس القتالية في أيار/ مايو 2021، مع الانتباه إلى دعم وترحيب مصر برفض حماس الانخراط في الجولات القتالية الاخيرة في 2022 و2023، والتي استهدفت إسرائيل فيهما حركة الجهاد الإسلامي فقط.

انطلاقاً من ذلك، ولتشجيع حماس على المضي قدماً بسياستها الجديدة -تسميها الحركة المراكمة بعيداً عن المشاغلة المكلفة مع الاحتلال التي تستنزف المقاومة وغزة بشكل عام- طرحت أفكار لتحسين جدي للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية كرافعة للسياسة المستجدة لحماس، وجرى تفصيلياً البحث في تسهيلات بمعبر رفح وتمكين الممنوعين من السفر إلى القاهرة، وزيادة كمية الكهرباء بشكل ملحوظ وملموس ومضاعفتها ثلاث مرات من 30 ميغا واط إلى 100، ثم إلى 300 فيما بعد.

لا يقل عن ذلك أهمية، زيادة معدل إدخال البضائع الحيوية أي الوقود ومواد ومستلزمات البناء من مصر إلى غزة عبر بوابة صلاح الدين في رفح، بعيداً عن أعين ورقابة السلطة وإسرائيل المباشرة، كون الضرائب والجمارك تذهب لصالح حماس وسلطتها لإبقائها على قيد الحياة وتمكينها من ممارسة صلاحياتها، وبالطبع جعل التصعيد عليها صعباً وحتى مستحيلاً.

ثمة خطط ومشاريع طموحة أخرى قيد النقاش والتحضير منها ربط غزة بميناء العريش الذي سيصبح بمثابة ميناء رئيسي لها، مع تصدير البضائع والمنتجات الغزاوية الزراعية والصناعية عبره إلى الخارج، حيث العمل جار على توسيع وتطوير الميناء والمدينة ككل مع الشروع فعلاً في إقامة طرق وبنى تحتية مناسبة داخل الجزء الشمالي من شبه سيناء، لربط غزة بها.

ثمة خطط ومشاريع طموحة أخرى قيد النقاش والتحضير منها ربط غزة بميناء العريش الذي سيصبح بمثابة ميناء رئيسي لها، مع تصدير البضائع والمنتجات الغزاوية الزراعية والصناعية عبره إلى الخارج، حيث العمل جار على توسيع وتطوير الميناء والمدينة ككل مع الشروع فعلاً في إقامة طرق وبنى تحتية مناسبة داخل الجزء الشمالي من شبه سيناء، لربط غزة بها

إلى ذلك، بدت لافتة دعوة حركة الجهاد إلى الحراك الفلسطيني الأخير في القاهرة ليس فقط لنقاش جولة القتال الأخيرة واستخلاص العِبر منها، بل لضمان منع تكرارها وإقامة قنوات مفتوحة تعمل طوال الوقت بشكل مجدٍ وفعّال بين المخابرات المصرية وقيادة الحركة السياسية وحتى العسكرية، مع عمل مصري باتجاه إيران لعدم العبث أو التخريب في ساحتها الأساسية غزة التي باتت تقريباً تحت وصايتها الكاملة.

لا يقل عن ذلك أهمية، السعي لإشراك الجهاد لأول مرة في ملفات مدنية للضغط عليها وإفهامها أن أي تحرك منفصل منها سيؤثر سلباً على المشاريع والتسهيلات لتحسين الأوضاع الكارثية لأهل القطاع، والتأكيد على أن حماس لن تشارك معها كما حصل في الجولة قبل الأخيرة آب/ أغسطس 2022، وليس مضموناً حتى تقديم التغطية السياسية والإعلامية والدعم اللوجستي كما حصل في الجولة الأخيرة أيار/ مايو الماضي.

وإلى الجهاد، بدا لافتاً كذلك إشراك وللدقة إقحام القيادي الفتحاوي المفصول محمد دحلان وتياره في الصورة بالمعنى المباشر، وجاءت صورة اللقاء مع حماس والجهاد لتعويمه وشرعنته وإشراكه في النقاش حول المشاريع والخطط المعمول عليها في غزة، مع الحديث عن تمويل إماراتي لبعض تلك المشاريع، وإشراف مباشر من دحلان وتياره عليها.

وبشكل عام، سيكون حوار مصري مستمر وتفاهم مع السلطة برام الله لحفظ ماء وجهها سياساً، والأهم ضمان حصتها المالية، وبالتوازي حفظ التهدئة أو الهدنة الفعلية مع حماس مقابل تحسين جدي وملموس للأوضاع في غزة، وعدم فتحة جبهة من هناك رداً على أي تطورات في الضفة والقدس -كما حصل فعلاً بعد التصعيد الإسرائيلي الدموي الأخير في جنين ومخيمها- وعملياً الفصل بين الساحات الذي هو حقيقة واقعة لا يمكن إنكارها، كما رأينا خلال العامين الماضيين إثر التجربة المكلفة والباهظة جداً بشرياً ومادياً لجولة سيف القدس.

تعمل مصر كذلك مع إسرائيل وبدعم أمريكي مباشر لخفض التصعيد وفق نموذج مسيرة الأعلام في القدس المحتلة، لكن دون تغير جدي للواقع في الأقصى والمدينة وحتى الضفة بشكل عام، بمعنى لا مشاريع استيطانية ضخمة، ولا ضمّ جارفا في الضفة الغربية أو مزيدا من الضغط على السلطة لانهيارها وإسقاطها وإزاحتها تماماً من المشهد. ولمسنا تأكيد على ذلك عبر التصريح اللافت والمعبر لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو منذ أيام عن منع انهيار السلطة، ولكن مع قطع الطريق على فكرة وحلم الدولة الفلسطينية.

تبحث سلطة رام الله عن عوائد مالية وحضور سياسي ما في غزة، والفصائل عن تحسين الأوضاع الكارثية فيها خاصة بعد جولة القتال الأخيرة، بينما كان لافتاً ومؤسفاً بالطبع غياب أي حديث أو مساع جدية للمصالحة وإجراء الحزمة الانتخابية الكاملة، فيما بدا إقرارا بواقع الانقسام الحالي وتكريسه

في النهاية وباختصار، يمكن إجمال المشهد على النحو التالي؛ تبحث سلطة رام الله عن عوائد مالية وحضور سياسي ما في غزة، والفصائل عن تحسين الأوضاع الكارثية فيها خاصة بعد جولة القتال الأخيرة، بينما كان لافتاً ومؤسفاً بالطبع غياب أي حديث أو مساع جدية للمصالحة وإجراء الحزمة الانتخابية الكاملة، فيما بدا إقرارا بواقع الانقسام الحالي وتكريسه، حيث لم تطرح أبداً أي أفكار للقاء بين حماس وفتح كون الموضوع ليس على جدول الأعمال بشكل جدي.

وبالطبع، لا حديث عن مفاوضات فلسطينية إسرائيلية، واستئناف عملية التسوية، وأقصى ما يتم طرحه هو التهدئة أو الهدنة لإبقاء الأفق مفتوحاً أمام احتمال استئنافها فيما بعد، وتحسين الوضع الاقتصادي الاجتماعي ضمن صيانة والحفاظ على الوضع الراهن الذي يخدم إسرائيل استراتيجياً، بصفتها القوة القائمة بالاحتلال (تسميه إدارة الصراع وسلام اقتصادي).

ومن جهتها، لا تريد أمريكا راعية العملية والمفاوضات الانخراط الجدي فيها وتواصل الانكفاء عن المنطقة لكن بضمان عدم انفجارها في وجهها، ولذلك تم تلزيم المهمة للقاهرة مع عوائد ومكاسب سياسية واقتصادية وأمنية مباشرة لنظام الجنرال عبد الفتاح السيسي.

وهنا ثمة سؤال يطرح نفسه ولا مهرب منه مفاده: لماذا تقبل الفصائل الفلسطينية بذلك؟ وما الذي يجبرها عليه سوى تراكم أخطاء تكتيكية شكلت مجتمعة الواقع الاستراتيجي الراهن كما ذُكر أعلاه؟ وللمفارقة ثمة سعي وقبول بالحفاظ عليه أيضاً في رام الله وغزة، رغم أنه يصب أساساً بمصلحة إسرائيل واحتلالها دون أفق لحل القضية حلاً عادلاً وشاملاً ومستداماً.
التعليقات (0)