أفكَار

المعادلات التي ستسقط مسار التطبيع وأفكار عن مصير الاحتلال والمقاومة

 لم يعد بالإمكان العودة إلى ما قبل السابع من أكتوبر، الذي كانت التجارة الدولية تؤمن فيه المصالح الإسرائيلية بسلاسة عبر البحر  الأحمر.. جيتي
لم يعد بالإمكان العودة إلى ما قبل السابع من أكتوبر، الذي كانت التجارة الدولية تؤمن فيه المصالح الإسرائيلية بسلاسة عبر البحر الأحمر.. جيتي
ثمة تقدير مشترك يتقاسمه الأمريكيون والإسرائيليون وجزء كبير من المنتظم الدولي بأن إسرائيل توجد اليوم في ورطة حقيقية، ليس فقط لأن حربها على غزة لم تحقق شيئا من أهدافها المعلنة في القضاء على حماس وتقويض قدراتها العسكرية وتحرير الأسرى والمحتجزين من خلال تصعيد لضغط العسكري، وليس فقط بسبب الخسائر الضخمة التي يتكبدها جيش الاحتلال داخل أرض المعركة بغزة وشمال فلسطين المحتلة، ولكن أيضا، بسبب تغير معادلات الصراع السابقة، وظهور عجز أمريكي واضح في تحريك رقعة الشطرنج، بما يخدم مصالحها في منطقة الشرق الأوسط ومنطقة المتوسط والبحر الأحمر أيضا، فاليوم لم يعد وقف إطلاق النار بيد إسرائيل وحدها، كما كان الأمر في السابق، بل دخلت في المعادلة عناصر أخرى، تجعل من حماس وكتائب القسام وبقية فصائل المقاومة الفلسطينية رقما صعبا لا يمكن تجاوزه. ما يؤكد ذلك، رفض حماس المبدئي فكرة التفاوض بشأن الأسرى دون وقف شامل لإطلاق النار، وأيضا توقيفها لمسار التفاوض في الدوحة، بعد اغتيال إسرائيل لقائدها صالح العاروري في الضاحية الجنوبية ببيروت.

الخارجية الأمريكية في جولتها الخامسة بالمنطقة، لم تحمل أي جديد في أجندتها، سوى ما كان من استعمال ورقة قديمة اسمها مضاعفة المساعدات الإنسانية لقطاع غزة، والحديث عن تقييم لجنة أممية للوضع في شمال غزة قبل قرار عودة الفلسطينيين إليه، مع "التبشير" بتخفيف الضغط العسكري الإسرائيلي على غزة، والتحول للمرحلة الثالثة، التي ستركز على منطقة الوسط والجنوب مع تقليص القصف الجوي، والوعد المتكرر بتلافي استهداف المدنيين. كل ذلك في مقابل حديث عن تهيئة المنطقة لمسار مجهول الهوية، لا يعرف من عناوينه سوى ضمان أمن جنوب "إسرائيل" وشمالها، وتيسير اندماجها الإقليمي في المنطقة، مع تجنب أي تفاصيل تتعلق بمستقبل حماس في غزة، والدور الذي يمكن أن تقوم به.

لا يهمنا في هذا المقال، التركيز على هذه الأجندة الجديدة القديمة، فمن الواضح أن أكبر هدف تتطلع إليه الإدارة الأمريكية، هو إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر؛ أي اللحظة التي بدأ فيها مسار التطبيع يتوسع عربيا وإقليميا، حيث أوشكت المملكة السعودية أن تعلن عن انضمامها إليه بشكل كلي، لولا أن حدث طوفان الأقصى الذي نسف كل شيء، وحكم على مسار التطبيع بالجمود والتوقف.

في مفهوم الاندماج الإسرائيلي في المنطقة وخلفياته

في الواقع، لا يعني الاندماج الإسرائيلي في السياق الإقليمي شيئا آخر غير العودة إلى ما قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر، ومحاولة البناء على ما تحقق من مسار التطبيع، فالإدارة الأمريكية، لا تملك أي خيار آخر تخرجه، ويخرجها من الأزمة، سوى أن تعيد عقارب الساعة إلى لحظة ما قبل طوفان الأقصى، وذلك حتى تؤمن شروط استئناف مسار التطبيع إقليميا، لكن دون أن يكون في مقابله أي تصور حول حل النزاع، فالإدارة الأمريكية لا تملك إلا كلاما مكررا حول "حل الدولتين"، والدور الذي يمكن أن تقوم به السلطة الفلسطينية في الضفة وغزة، وتطمح أن يساعدها المحيط الإقليمي في إنجاز هذه المهمة المستحيلة، ولو اقتضى الأمر أن تدفع في اتجاه إصلاح السلطة الفلسطينية أو تغيير رأسها أو بعض رموزها أو قبول فكرة حكومة ائتلاف وطنية، تشارك فيها قيادات غير وازنة  من حماس.

لكن على فرض إمكانية هذا السيناريو، هل يملك خيار العودة إلى ما قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر القابلية للتحقق، وهل استخلصت واشنطن الدروس الضرورية من حرب غزة، وبشكل خاص، من قوة حماس التنظيمية والعسكرية وتجدرها الجماهيري؟ وأيضا من عجز المشروع الصهيوني على مواجهة المشروع الوطني التحرري؟

في الواقع، ثمة خمس معادلات معقدة تجعل من هذا السيناريو خيارا وهميا غير قابل للتحقق، وتؤكد في المقابل، بأن سيناريو التطبيع، إن كان ممكنا، فإنه سيكون تابعا للمخرجات النهائية للحرب، وما ستفزره موازين القوى الدائرة في الميدان.

المعادلة الأولى ـ المعادلة الانتخابية الأمريكية

من الواضح جدا، أن قضية الحرب على غزة أضحت مكونا أساسيا في صناعة المزاج الانتخابي الأمريكي، فاستطلاعات الرأي الأخيرة، أحدثت زلزالا عنيفا في رأي المواطنين الأمريكيين اتجاه فلسطين وإسرائيل وجرائمها في حرب غزة والمعاناة الإنسانية للأطفال والنساء في غزة، فهناك غضب عارم بدأ يتوسع بشكل كبير في أوساط الأمريكيين- لاسيما الشباب- من الدور الأمريكي في هذا الصراع، ولذلك، لوحظ في الأسابيع القليلة الماضية تغير كبير في السياسة الخارجية الأمريكية، التي أضحت تمارس قدرا من الضغط على إسرائيل في اتجاه الانتقال للمرحلة الثالثة من الحرب، وإسكات أصوات اليمين المتطرف، التي تضع واشنطن في حرج شديد بسبب الدعوة العلنية للتهجير والإبادة العرقية للفلسطينيين.

الخط الوسط الذي اتخذته الإدارة الأمريكية في الاستمرار في تقديم الدعم لإسرائيل، مع التدخل لتكييف جزء من سياستها العسكرية وأيضا تصورها السياسي لمستقبل غزة، لم يفتح أملا كبيرا للحديث عن إمكانية استئناف مسار التطبيع، فوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، يستمع إلى مواقف الدول الإقليمية، ويتعهد ببذل الجهود لتحقيق أهم تطلعاتها، لكن ما إن تطأ قدمه تل أبيب، حتى يتغير لسانه، ويصير وكأنه جزء من الداخل الإسرائيلي، يهمه بالدرجة الأولى الإفراج عن الأسرى والمحتجزين، وتأمين الكيان الصهيوني، وهو ما يعكس في الواقع موقفا انتخابيا، يتطلع إلى الحفاظ على  دعم اللوبي الصهيوني من جهة، ومن جهة مقابلة، مغازلة المزاج المتحول لأمريكا، بالعزف على الوتر الإنساني بغزة، دون تقديم أي تصور واضح حول الأفق.

هذه الازدواجية التي يقصد بها تحقيق كسب انتخابي في الداخل الأمريكي، يتم أيضا تشغيلها سواء مع الكيان الإسرائيلي بالإيهام بفرص استئناف مسار التطبيع (الاندماج الإقليمي)، أو مع الدول الإقليمية من خلال الحديث عن حل شامل ونهائي للصراع، يقوم على مبدأ "حل الدولتين".

ولذلك، فإن مفهوم استئناف التطبيع أو الاندماج الإسرائيلي في المحيط الإقليمي، ليس في الجوهر سوى خطاب أمريكي موجه للإسرائيليين بقصد حفزهم على الانتقال إلى المرحلة الأخيرة، ثم إنهاء الحرب، ونسيان الخطوط الحمر المتعلقة بحماس وقدراتها،  وفي هذا السياق نفهم التقابل في الموقف بين التصريحات الأمريكية الأخيرة، التي لا تستبعد بقاء حماس في قطاع غزة وبجزء مهم من قدراتها، وتصريحات اليمين المتطرف الصهيوني، الذي يأخذ على الأمريكيين " الحديث بنعومة عن حماس"، في الوقت الذي يتطلب التعامل معها كما قال وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير بـ"عصا غليظة".

المعادلة الثانية ـ الانشقاق السياسي الإسرائيلي

 تمثل هذه المعادلة عقدة المنشار في تعذر سيناريو استعادة لحظة ما قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وذلك لسببين اثنين، أولهما، هو عدم وضوح الرؤيا بخصوص الجهة التي سيتم تعليق الشماعة عليها، وتحميلها مسؤولية الإخفاق الشامل في السابع من تشرين الأول/أكتوبر.  والثاني، أن مساحة المناورة بين الفرقاء السياسيين، محكومة في الجزء الأكبر منها بمنطق بعيد نسبيا عن تشغيل ورقة استئناف التطبيع، فسواء تعلق الأمر بالتحالف الحكومي أو المعارضة، أو حتى بجزء من المعارضة التي دخلت الحكومة في سياق ترصيص الجبهة الداخلية لخوض الحرب على حماس،  فإن أحدا من هؤلاء لا يطرح أبدا خيار السلام والتسوية، أو يؤمل في خيار الاندماج الإقليمي، فإسرائيل برمتها تعيش أزمة وجودية، لا تعرف جوابا عنها سوى في الانتقام، والتطلع لتحقيق هدف مقنع على الأرض، لم يستطع الجيش الإسرائيلي إلى اليوم أن يقدمه للجمهور الواسع. وتبقى القوة الوحيدة الداعمة لوقف إطلاق النار هي التي تحمل شعار تحرير المحتجزين والأسرى؛ لأنها باتت مقتنعة أن معارك الجيش الإسرائيلي وخططه لا تنجح إلا في قتلهم.

ما يزيد الأمر تعقيدا، أن اليمين المتطرف أصبح محل طلب وتوازن حكومي، فالمعارضة التي ترى في سلوك رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في إطالة مدة الحرب، محاولة للنجاة بنفسه وتأمين بقائه على السلطة، باتت تدرك أن أي حركية لمحاصرته تدفع به أكثر إلى الاستنجاد بهذا اليمين وخدمة ابتزازه، ومن ثم خلق توازن سياسي داخل الدولة العبرية يخدم هدفه الشخصي؛ لأنه يدرك أن وقف إطلاق النار يعني تنظيم انتخابات سابقة لأوانها، ووضع المقصلة على عنقه.

ملخص هذه المعادلة، أن الوضع السياسي الإسرائيلي، سواء بقي على حالته السياسية، أو حصل تغيير في بنيته بخروج نتنياهو من المشهد وتراجع أسهم اليمين المتطرف، فإن الحالة النفسية والمزاجية للمجتمع الإسرائيلي، لن تكون في المديات القريبة مهيأة لقبول فكرة "حل الدولتين"، لاسيما إن تمت التحقيقات وتم الإعلان عن الخسائر الحقيقية للحرب، وتبين أنه ليس بالإمكان مطلقا تغيير المعادلة في قطاع غزة لفرض سيناريو تغييب دور حماس.

المعادلة الثالثة ـ الوضع الإقليمي المتوجس

في الواقع، ثمة فرق كبير بين التطلعات التي يتم التبشير بها، والواقع؛ فجزء من السياق الإقليمي، وتحديدا مصر والأردن، تغيرت عندهما المعطيات كثيرا، بل تغير حتى تصورهما للأمن القومي، لاسيما بعد أن بدأت فكرة التهجير القسري للفلسطينيين تتداول، ويتم الضغط الأمريكي للإقناع بها وتنزيلها على الأرض.

مصر على سبيل المثال، أضحت أكثر توجسا، ليس فقط  بسبب مخطط التهجير الذي كان يستهدف أمنها الإقليمي بشكل خاص، ولكن أيضا، بسبب  الأفكار الأمريكية التي باتت تطرح حول مستقبل قطاع غزة، والتي  يتم فيها تقديم تصور للدور المصري، دون أن تكون مصر معنية به أو متفقة عليه، فقد سبق للقاهرة  أن عبرت عن رفضها تحمل مسؤولية إدارة قطاع غزة، ولو بشكل مؤقت، وهي اليوم تخوض مفاوضات مع إسرائيل على منطقة فيلادلفيا، وتحكم  مفهوم السيادة والأمن القومي في الجواب عن كل المطالب التي تقدمها إسرائيل، والأمر نفسه، يطرح  على الأردن التي كانت الأكثر حساسية من موضوع "صفقة القرن"، إذ اعتبرت عمان أنها هي المعنية بدفع الكلفة  الأغلى ثمنا.

المؤشرات الجيوستراتيجية تؤكد بصعوبة استعادة التقدير المصري والأردني نفسه للوضع ما قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر، فالقاهرة، اليوم، تدرك أن وجود حماس، وحماس بقدراتها العسكرية في غزة، يمثل صخرة قوية في جدار أمنها القومي، وتدرك في المقابل، أن إضعاف حماس، يعني أن مخطط التهجير الذي تأجل في أثناء الحرب، سيتم جدولته قريبا، وذلك على حساب أمنها القومي. والأردن، ربما تدرك أن من مصلحة أمنها القومي أن تتقوى المقاومة العسكرية الفلسطينية في الضفة، حتى يصير سيناريو التهجير للأردن أو تحميل عمّان مسؤولية الضفة خيارا مستحيلا.

بقية الدول العربية الني انخرطت في مسار التطبيع، أضحت معنية أكثر بالبحث عن مستندات لتعطيل التطبيع وتجميده أكثر من البحث عن خيارات لاستئنافه، وذلك بسبب السياسات الإسرائيلية العدوانية، وبسبب النسق السياسي الإسرائيلي، الذي لا يبشر بأي تحول في اتجاه الانخراط الجدي في مسار التسوية وقبول حل الدولتين.

السعودية التي كان تشترط في انخراطها في مسار التطبيع تقديم إسرائيل لتنازلات جدية لفائدة الفلسطينيين (تفعيل حل الدولتين)، مع تمكينها من إقامة وتطوير برنامجها النووي، هي اليوم أبعد عن الاقتناع بإمكان تحقق هذه الشروط، لاسيما وأن الولايات المتحدة الأمريكية تطالبها إلى جانب التطبيع بالحد من علاقتها مع الصين، وفك علاقتها بطهران، وهو ما تراه السعودية حيويا لتوفير مساحة واسعة للمناورة.

التشخيص العملي لواقع التطبيع، يشير إلى حالة من الجمود في مساره، وأن عدم الإقدام على فكه مرتبط بمصالح وطنية أكثر منه بعلاقات استراتيجية مع الكيان الصهيوني، فالمغرب على سبيل المثال، بسبب قضية الصحراء التي يتطلع إلى إنهاء النزاع فيها، جمد تقريبا كل مسارات التطبيع، لكن دون أن يصل إلى إنهائه. كما أنه لم تبرز مؤشرات ظاهرة على استمرار وتيرة التطبيع أو تصاعده مع بقية الدول الأخرى، بما في ذلك دولة الإمارات العربية المتحدة، التي اشتغلت بقوة ضمن المجموعة العربية في الجمعية العامة للأمم المتحدة لوقف العدوان الإسرائيلي على غزة، ووقف العدوان على المدنيين الفلسطينيين.

المعادلة الرابعة ـ فاعلية محور المقاومة

لقد أظهرت الحرب على غزة مستوى مقدرا من التنسيق بين مكونات المقاومة ومحاورها، ولو كان ذلك مؤطرا بسقف التوازنات الإقليمية ومراعاة المصالح الوطنية، ويمكن تسجيل الأثر الكبير الذي أحدثه دخول الحوثيين على خط المقاومة في البحر الأحمر، والذي  أبعد بشكل كبير عقارب الساعة عن العودة إلى السابع من تشرين الأول/أكتوبر، فقد أضحت إسرائيل محاصرة اقتصاديا وتجاريا من جهة البحر الأحمر،  ويظهر مؤشر التحرك الأمريكي لتكوين تحالف في المنطقة لتحييد الدور  الحوثي مدى التأثير الذي  أحدثه في إضعاف تموين الداخل الإسرائيلي من البضائع والسلع  الأساسية.

لقد فرض الدور الحوثي معادلة جديدة، تجعل من إمكانية عودة التجارة الدولية عبر البحر الأحمر لسابق عهدها، مرهونة بوقف شامل للحرب على غزة، إذ لا يقدم التدخل العسكري الأمريكي ضد الحوثيين أي حل لهذه المسألة، بل ربما يزيد من تعقيدها، بما يضر بشكل أكثر جدية بمصالحها ومصالح إسرائيل في المنطقة، وهي المعادلة التي غيرت خيارات بعض الدول المطبعة، لاسيما بعض الدول الخليجية، التي وجدت في استهداف السفن الموجهة إلى الكيان الصهيوني، مبررا لتوقيف جزء مهم من التطبيع التجاري مع الكيان الصهيوني. فالجغرافية السياسية، بسبب من الدور الحوثي الجديد، تفرض على سبيل المثال على الإمارات والبحرين التوجس والحذر والتجميد العملي للتطبيع التجاري؛ خوفا من الاستهداف الحوثي للسفن في مضيق باب المندب، فقد أضحت الإمارات محاصرة في الخليج العربي من إيران، وفي البحر الأحمر من الحوثيين.

لقد فرض الدور الحوثي معادلة جديدة، تجعل من إمكانية عودة التجارة الدولية عبر البحر الأحمر لسابق عهدها، مرهونة بوقف شامل للحرب على غزة، إذ لا يقدم التدخل العسكري الأمريكي ضد الحوثيين أي حل لهذه المسألة.
الجانب الثاني في هذه المعادلة، أن الفجوة التي ظلت تحول دون تحقيق مزيد من الاختراق الإسرائيلي في المنطقة العربية والمتوسطية، هو تسوية مشكلة الحدود مع لبنان، ولذلك حركت تل أبيب وسيطها الأمريكي قبل طوفان الأقصى لحل مشكلة حقل كاريش في المتوسط (تسوية الحدود البحرية)، ثم طرحت واشنطن  خيار فتح مفاوضات بين لبنان وإسرائيل لتسوية النزاع الحدودي البري في أثناء الحرب على غزة، لمنع توسيع الحرب وتحييد دور حزب الله في المعركة، لكنها لم تنجح في ذلك. وتظهر التطورات المتسارعة في المنطقة، أن خطوة تجسير هذه الفجوة وجر لبنان إلى مربع التطبيع، أو على الأقل، مربع الحياد، هو سيناريو جد بعيد.

بكلمة، إنه لم يعد بالإمكان العودة إلى ما قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر، الذي كانت التجارة الدولية تؤمن فيه المصالح الإسرائيلية بسلاسة عبر البحر  الأحمر، فضلا عن ارتياد آفاق واعدة لاندماج إقليمي، كما يؤشر مستوى التصعيد العسكري بين حزب الله وإسرائيل استبعاد أي خيار للتفاوض لتسوية النزاعات الحدودية، مما سيبقي لبنان في خاصرة أي مشروع يسعى إلى تحقيق ما يسمى بالاندماج الإسرائيلي في المنطقة.

المعادلة الخامسة ـ الصورة الهمجية الإسرائيلية والمزاج الدولي والعربي

من الضروري الإشارة إلى الملاحظة التي التفت إليها بعض المحللين للسياسة الخارجية الأمريكية، ورهانها في هذه اللحظة على طرح فكرة الاندماج الإسرائيلي في المحيط الإقليمي، وذلك بتزامن مع محاكمتها في محكمة العدل الدولية بلاهاي، بدعوى قدمتها جنوب أفريقيا تتهم فيها الكيان الصهيوني بممارسة جريمة الإبادة العرقية.

والحقيقة أن المهم في هذه الدعوى ليس فقط نجاحها، ومن ثمة وضع الدولة العبرية أمام المسؤوليات الجنائية الدولية، وإنما هو معركة الصورة التي أضحت تحاصر الكيان الإسرائيلي في العالم، إذ لم يعد اتهامه بارتكاب جرائم الحرب، أو جرائم ضد الإنسانية، أو جرائم الإبادة والتطهير العرقي، مقصورا على الجهة الفلسطينية أو العربية أو الإسلامية، بل أضحى هذا الاتهام صوتا عالميا، تشترك فيه كل الشعوب، بما في ذلك الشعوب الغربية التي كانت الآلة الإعلامية الصهيونية تتحكم في صناعة مزاجها وموقفها من القضية الفلسطينية.

فهذه الصورة اليوم، أضحت تحاصر أي مشروع يسعى إلى الإقناع بالفائدة من العلاقة مع إسرائيل، أو الجدوى من اندماجها الإقليمي أو الدولي، فقد رسمت إسرائيل عن نفسها من خلال حربها على غزة صورة الدولة المارقة، التي تدوس كل القوانين الدولية، وتنتهك كل المواثيق الحقوقية، وتقتل الأطفال والنساء والصحفيين، وتعبث بالجثث الملقاة على الأرض، وتستهدف المدنيين، وتمارس الإبادة العرقية والتطهير الاثني، وتمارس سياسة التجويع والتعطيش للشعب الفلسطيني.

هذه الصورة التي توثقها عدسات الكاميرات، أخرجت كل الشعوب للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وغيرت الأمزجة والقناعات، وأقنعت بأن المظلومية الفلسطينية هي السبب في تخلق حركات التحرر الوطنية، بل أقنعت بحق حماس والقوى الفلسطينية في الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، وبشكل خاص الحق في الوجود والتمسك بالأرض.

هذه الصورة الهمجية التي بنتها إسرائيل عن نفسها من خلال سياستها الإجرامية في الحرب على غزة، بنت في الواقع عقبة كبيرة، أمام أي مشروع لاستئناف التطبيع أو العودة به إلى ما قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر، فبالأحرى تيسير فرص الاندماج الإسرائيلي في المحيط الإقليمي.
التعليقات (0)