كتب

تأصيل الحداثة السياسية من منظور إسلامي.. قراءة في كتاب

إنّ الدولة التي تحوز صفة الإسلامية اليوم، وفق إمحمد جبرون، ليست في شيء من دولة الخلافة الراشدة..
إنّ الدولة التي تحوز صفة الإسلامية اليوم، وفق إمحمد جبرون، ليست في شيء من دولة الخلافة الراشدة..
الكتاب: "مفهوم الدولة الإسلامية: أزمة الأسس وحتمية الحداثة (مساهمة في تأصيل الحداثة السياسية)"
الكاتب: إمحمد جبرون
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى - بیروت، سبتمبر 2014
عدد الصفحات:  394

1 ـ مقومات الدولة الإسلامية في الفكر السياسي الإسلامي


يطرح الباحث إمحمد جبرون في هذا الأثر سؤالين رئيسيين مدار ما تعلّق منهما بقضايا الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، حول المقومات الرئيسة التي تمنح الدولة صفة الإسلامية ومدار الثاني حول وجوه التقاطع بين الدولة الإسلامية والدولة - الأمة الحديثة. ويقدّر أن المنجز السّابق لعمله لم ينجح، بالقدر الكافي، في حسم المسألة. فقد سقط بعضه في التّصورات الصفائية عند ضبط مفهومها كمسألة الحاكمية وتطبيق الشريعة والشورى والإمامة وظل بعضها الآخر رهين التصورات الشكلانية التي تبحث عن الخلافة الراشدة من جديد وتحاول محاكاة تجربة الإسلام المبكّر. ويأمل من خلال ما يقترح من المقاربات في تجاوز ما أشار إليه بـ"ـالعطب التاريخي" الذي أصاب الأمة في العصر الحديث.  ويتمثل أساسا في فشل الحركة الإصلاحية العربية بأجنحتها المختلفة في تكييف مبادئ الإسلامية البيعة والعدل والمعروف  مع العصر وتفعيلها.

ويدعو إلى اتّباع التجربة النبوية التي نقلت المسلم من التعبد بالجزئي في تجربة الرسول إلى التّعبد بالكلّي فيها الذي يتأسس على المبادئ كلية والأصول العامة. فبمثل هذا النّهج يتحرّر الإسلاميون من الضغط والحرج اللذين تسببت فيهما الأحكام الجزئية شأن أحكام الحدود والرقة والنظام الاجتماعي وغيرها التي تبدو في جانب كبير منها أحكاما موافقة لمعهود العرب، وللبيئة العربية في مكة والمدينة زمن البعث. فالثابت والمقدس والمطلق على مستوى آيات الحدود هو العدل. أما وسائله أو أشكاله المادية والثقافية فيمكن أن تتغيّر.

 ويصنّف الدولة في التّاريخ الإسلامي إلى ثلاثة صيغ وثلاث مراحل كبرى هي دولة الخلفاء الراشدين ودولة العصبية التي جاءت بعدها والطور الانتقالي نحو الدولة - الأمة ابتداء من مطلع العصر الحديث.

2 ـ دولة الخلفاء الراشدين: تنزيل الأصول في سياقها التّاريخي

واجهت دولة الصحابة أو ما يصطلح عليها الباحث بدولة الراشدين أزمات حادة. منها ظهور القبيلة وسعيها لفرض نفوذها من جديد من خلال حركة الرّدة وغياب السّلطة القهرية الذي خوّل للبعض أن يثير الفوضى في قلب هذه الدولة الفتية. فاغتيل عمر بن الخطاب وحصل تمرّدٌ على عثمان بن عفان. ومنها التلكؤ في الحفاظ على هدي الإسلام في السياسة عبر المحافظة على المبادئ الثلاثة وهي البيعة والعدل والمعروف.

وانطلاقا من هذا التّشخيص يقدّر الباحث أنّ  دولة الراشدين نجحت في إرساء نموذج دولة إسلامية إلى حد ما. فقد حافظت على سلطة الأمة في تعيين الخلفاء وتنصيبهم وأقرّت قدرا مهما من العدل. ولكنها بالمقابل فشلت في توسيع مجال المعروف (أي المصالح). وفضلا عن ذلك خلّف غياب النبي فراغا سياسيا كبيرا لدى الجماعة الإسلامية. فأضحى الصحابة في حيرة حول أسلوب ترتيب الأولويات هذه الدولة. والارتباك الذي جد في سقيفة بني ساعدة وما حصل بعده دليل على ذلك رغم أنّ كبارهم تمكّنوا من سيطرة على الموقف وامتلاك زمام المبادرة. فاستؤنفت عملية بناء دولة. ولئن بقي ظله قائما، مجسّدا في  أصل البيعة التي تعني تعاقد الأمة باعتبارها مصدر الشرعية السياسية مع إمامها، فإن تنفيذ هذا المبدإ لم يكن ثابتا. وظلّ اختيار من سيكون موضوعا لهذه البيعة يخضع للاجتهاد، حتى انتهى هذا الطور دون حسم في المسألة. وعليه يخلص الباحث إلى أنّ هناتها تلك لا تجعلها النموذج الذي يجب محاكاته اليوم.

3 ـ تطور الدولة في هذه المرحلة تفاعلا من السياق التاريخي

 ما يجب أن يدرك من قبل دعاة محاكاة دولة الراشدين أنّ نظام الخلافة لم يكن حينها نظاما مغلقا، بل كان منفتحا يتفاعل باستمرار مع الواقع مناهضا للجمود والتحنيط. فقد أُوقف العمل بسهم المؤلفة قلوبهم في توزيع الزكاة وحُوّل سهم النبي في الفيء إلى بيت المال وجُعل في العدة والخيل ليكون عمادا لقوة الجيش، وفي ذلك مخالفة لآية في سورة الأنفال تقسم الفيء بين الفاتحين وأوقف العمل بحد السرقة في عام الرمادة... واكتُفي في العقد بين الأمة وإمامها ببيعة قاطني المدينة. فكانت بيعتهم ضربا من النيابة عن باقي الأمة. وكثيرا ما توسّعوا في اعتماد العرف وما دأبت عليه العرب في الكثير من تشريعاتهم الخاصة بنتظيم شؤون معاشهم. وكان لجوؤهم للدرء أكبر من عملهم على التطبيق. وسيؤسس بعض الفقهاء بناء على هذه النزعة لاحقا قاعدة جواز الاحتيال لدرء الحدود. وهذا ما يكشف إدراكهم لضرورة انخراط الشريعة في الواقع وعدم التعالي عنه.

وتضمنت قراراتهم انحيازا جليّا إلى الفئات الاجتماعية الفقيرة حرصا منهم على ضمان كرامة العيش وتقديرهم أنّ ذلك من واجبات الدولة. فمثل هذا المبدأ موجها لسياسة عمر خاصة. فعل على ضمان كرامة الأفراد، خاصّة عند تفاعله مع أزمة القحط أو في تصرفه في موارد بيت المال. وعامّة فإنّ تدبيرهم للشأن العامّ لا يمكن إلاّ أن يتنزل ضمن مغزى رسالة الإسلام السياسية وجوهرها الأخلاقي.

4 ـ ظهور دولة العصبية إجراء عملي ناجع للتحقيق شرعية الأمة

لم تنته رحلة بحث المجتمع السياسي الإسلامي عن النموذج باغتيال علي. فقد تمكن العقل الإسلامي، بعد معاناة أخلاقية و سياسية، من إقرار الشكل التاريخي الدولة الإسلامية.  فدولة العصبية في تقدير الباحث كانت تامة الشرعية، ومتحققة من أوصاف "الإسلامية".

وانتهى به استقراء مسارها التاريخي إلى أنّ:

الصدامات بين على ومعاوية (36-41 ه) وما صاحبها من جدل مثّلت النظير العنيف لما حدث في سقيفة بني ساعدة. وكانت إجراءً عمليا حقّق شرعية الأمة بعد أن عوّضها بشرعية العصبية. فأفضى إلى تأسيس جديد للدولة الإسلامية خلصها من هشاشة عصر الراشدين. وانسحب هذا التحول على مفهوم البيعة فأصبحت حقا عصبيا تمارسه عصبية الدولة. وعليه يجد أنّ الدول التي ظهرت بداية بالدولة الأموية، تحوز كل مقومات الإسلامية مقارنة بدولة الرائدين. وحجته في ذلك تمكينها للأمة من ممارسة سيادتها ممارسة فعلية ومباشرة. فالتشبث بشرعية كامل الأمة يمثّل استحالة عملية وعليه مثّلت العصبيّة تكيّفا مع الإكراه التاريخي، وقبولا بالنقص يكشف براغماتية المسلمون.

إنّ الدولة التي تحوز صفة الإسلامية اليوم، وفق إمحمد جبرون، ليست في شيء من دولة الخلافة الراشدة ولا هي دولةُ عصبية سلطانية، تذكرنا بدول العصبيات والأسر المستبدة وليست دولة شريعة همها الأساس تطبيق الأحكام الشرعية وحل الأزمة الجنائية. إنها "دولة الوقت التي تعمر العالم".
لقد بات النموذج الراشدي الذي أرسي مع هذه التحولات غير قادر على الاستمرار. وكان لا بدّ من تطوير نموذج دولة الراشدين، بما يضمن استمرار سيادة الإسلام السياسية في العصر الوسيط. ومن ثمة يجدها الباحث شرعية، لا انحراف أخلاقي فيها وتحولا تاريخيا عميقا، مرده العوامل الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية.  وهذا ما مكّنها من القيام بوظائفها ضمانا للعدل وإشاعته بين الناس وتحقيقا للازدهار الذي  فاق في الكثير من الجوانب ما تحقق في دولة الراشدين.

5 ـ الدولة الإسلامية: أزمة الأسس وحتمية الحداثة

أخذ الوهن يتسرّب إلى مفاصل دولة العصبية. وأخذت أسسها الممثلة في البيعة والعدل والمعروف، في التلاشي التدريجي مع نهاية العصر الوسيط وبداية العصر الحديث. ففقدت شرعيتها الأخلاقية والسياسية. ومن مظاهر هذا الوهن عجز العصبية عن تحقيق الأمن والاستقرار الداخلي وحماية البيضة. فانكسرت شوكة الدولة وتراجعت العدالة بسبب التضخم الفقهي والتشريعي الذي بات يتضمن أحكاما متناقضة ومتعارضة. وعجزت الدولة عن الاستثمار البناء، ولا سيما بعد التفوق الحضاري الغربي. وعمّق التطور التاريخي الطبيعي للبني الداخلية، وفي مقدمتها القبيلة الإحساس بالحاجة إلى الدولة ـ الأمة.

ولكنّ بطء تحول بنى دولة العصبية وتدخّل المستعمر حالا دون ولادة هذه الدولة - الأمة ولادة طبيعية. فلم يتم العبور من بيعة العصبية إلى بيعة الأمة وممارستها لسيادتها. أما على مستوى العدل فقد انتقلت الدولة الحديثة من الشريعة ـ الدين إلى الشريعة ـ القانون الوضعي. وفرض النهج التغريبي. وهذان العاملان كفيلان، وفق الباحث، بتجريد هذه الدولة من صفة الإسلامية.

6 ـ السبيل إلى تأصيل الحداثة السياسية

يهدف التشخيص السّابق إلى رصد الهنات التي حالت دون استحقاق الدولة الحديثة لصفة الإسلامية وإلى اقتراح البديل الذي يتجاوز ما رآه من الخلل في بنية الدولة الحديثة. وبناء عليه يقدّر إمحمد جبرون أن الوضع الذي توجد عليه الدولة الإسلامية في العالم العربي اليوم بعيد كل البعد عن مفهوم الدولة ـ الأمة الإسلامية. فعلاقتها بالدين مضطربة وهي عاجزة عن إدماجه في بنيتها السياسية والمؤسساتية، مستمرّة في تجاهل مفهوم العدالة الإسلامي وتبنّي مفاهيم العدالة الليبرالية والاشتراكية. واهتمامها بالمصالح الروحية لمواطنيها في حدّه الأدنى.

وبالمقابل لم يهتم المفكرون السياسيون المسلمون وفق الباحث من الدولة إلاّ بوظائفها الدينية والتزاماتها الأخلاقية تجاه الأمة والشعب. وأهملوا  ضرورة التحديث والانفتاح على الواقع مما ضاعف التباسات هويتها واختراق المستعمر المفضوح والقوي للنخب العربية.

إنّ الدولة التي تحوز صفة الإسلامية اليوم، وفق إمحمد جبرون، ليست في شيء من دولة الخلافة الراشدة ولا هي دولةُ عصبية سلطانية، تذكرنا بدول العصبيات والأسر المستبدة وليست دولة شريعة همها الأساس تطبيق الأحكام الشرعية وحل الأزمة الجنائية. إنها "دولة الوقت التي تعمر العالم". فتأخذ بعين الاعتبار الرسالة الأخلاقية والإنسانية للإسلام. فتنهض على أساس القيم الأخلاقية والنزاهة المجردة من الأغراض والمصالح، وتفرض على الحاكم والمشرع الانحياز إلى الضعيف والرّفق به وتتصدّى للقوي بمنعه من الطغيان وتجاوز الحد. أما المفهوم الأخلاقي للعدل الإسلامي وهو أوسع من الحدو،د فيمنحها التفوق على الدولة ـ الأمة العلمانية، ويجعلها أكثر إنسانية، وذات نزعة اجتماعية واضحة.

 7ـ مفهوم الدولة الإسلامية: أزمة الأسس وحتمية الحداثة وبعد؟

يمكن أن نلاحظ بعدا براغماتيا جليا في فكر إمحمد جبرون. فالباحث يحدّد الإسلامية الدولة في ما هو جماعي. ويقدّم من وظائفها ما يحقّق مقاصد الشريعة. ويحاول ما أمكن أن يبتعد عن التصورات الطوباوية وينزل الممارسة السياسية في سياقها التاريخي ليتمكن من الحكم عليها حكما موضوعيا. ولكن دراسته، بحثت بالمقابل، عن كل المبرّرات التي تجعل دولة الوراثة في العصور الوسيطة دولة إسلامية نموذجية. وكالت لها من المدح ما جعلها تتعسّف على الحقائق لتجعل تصوّرها منسجما (استمرار دولة الإسلام منذ الإسلام المبكر وانقطاعها اليوم). من ذلك قول الباحث: "عمرت دولة العصبية قروناً طويلة، وتعاقبت عليها أجناس وأمر كثيرة متفاوتة المكانة والشرف، وأمضت في إطارها الحضارة الإسلامية أزهى فتراتها، وإليها تنسب أكبر الإنجازات التي أغنى بها المسلمون الحضارة الإنسانية في مجالات الفن والثقافة والعلوم... إلخ.

كما عاش في ظلها المسلمون ومن في ذمتهم آمنين مطمئنين ردحا من الزمان، لا ينقص راحتهم قريب ثائر أو عدو جائر، إلا في أوقات الانتقال التي كان يصحبها عادة قدر من الاضطراب" وبالمقابل أيضا كانت الدّراسة كثيرة التجني على دولة الراهن. فقد"أخرج جنينها مشوها، غير قادر على الحياة بسبب ضعف المناعة. فالولادة القسرية للدولة - الأمة في السياق العربي، وبرعاية الاستعمار، أحدثت لها مشكلة مع السياق".

يردّ الباحث ما يعتبره التباسات في هوية الدولة اليوم إلى "التدخل الاستعماري، واختراقه المفضوح والقوي للنخب العربية". فيتجاهل انفتاح العقل العربي على الفلسفات المعاصرة بما هو اختيار حر وواع لكثير من المفكّرين نتيجة لقناعات وتصورات لمنزلة الإنسان في الوجود ودوره فيه. وفي تحميل الاستعمار المسؤولية كل هذا الاختلاف والتباعد إدانة للعلمانيين تخوين لهم وهروب من أصل المشكلة: وهو كيف يمكن للدولة في البلدان الإسلامية أن تتدرّب على القبول بالاختلاف وأن تستوعب كل التوجهات الفكرية لمواطنيها دون إقصاء أو تخوين أو صدام.
التعليقات (0)