قضايا وآراء

كيف فسدت الذائقة المصريَّة؟

عبد الرحمن أبو ذكري
يتساءل الكاتب عما تغيّر في المصريين- جيتي
يتساءل الكاتب عما تغيّر في المصريين- جيتي
لا يُمكننا النظر في واقعنا المعاصر، بغير التساؤل عمَّا وقع لعادات المصريين من تدهورٍ مُخيف، وعن مدى تضرُّر هذه العادات بالتحديث، وتدهورها بتفاقُم عجلته. إذ حتى إن كان هذا التفكيك التحديثي قد ارتبط واقعه بالعاصمة، وبالحواضر الكُبرى؛ فإن عدواه قد انتقَلَت -بطرائق شتَّى- إلى القُرى والمُدن الأصغر، حتى صار فساد الذائقة "قاعدة عامَّة" تُهيمن على أجيال كاملة -لأسباب عدَّة- وانعكس ذلك على تردي "الذائقة الاستهلاكيَّة" اليوم في مصر ترديا غير مسبوق؛ فلا يُمكن حتى مُقارنته بما سُمي بـ"عصر الانفتاح" الاستهلاكي إبَّان سبعينيات القرن العشرين، بوصفه تفكيكا للحرمان المقنَّن لمنظومة الاشتراكيَّة "الاستهلاكيَّة"، وتحطيما لبعض أركان الذائقة المصريَّة التي شوَّهتها الحقبة الاشتراكيَّة ابتداء.

وقد مكَّننا النظر المتدبِّر في واقعنا المصري -خلال نصف القرن الأخير- من تجريد خمسة عناصر تأسيسيَّة، أشبه في تحقُّقها بالمتتالية؛ كان لها الأثر الجلي في تحطيم ما أمكننا تسميته بالذائقة المصريَّة، حتى صار المستورَد الرديء في كل بابٍ سلعة يُروَّج لها، بل ومعيارا لغيره؛ فتردَّى من ثم "الذوق الاستهلاكي" في مصر بعد تحطُّم الذائقة العامَّة والقيم الحاكمة فوق هذه الذائقة.

تبدأ هذه العناصر بما يُمكن عَدُّهُ نقطة فاصلة في تاريخ كثير من شعوب المنطقة العربية، وفي تاريخ مصر الحديث تحديدا؛ وهو مآلات الانقلابات العسكرية. فقد كان العنصر الأول من عناصر تدهور الذوق العام في مصر هو بعض إفراز انقلاب عام 1952م العسكري، الذي قضى بجشعه وقصر نظره على القطاع الأكبر من البورجوازيَّة التقليديَّة، التي كانت تحرس تقاليد التجارة وتطورها وتحافظ عليها؛ بوصفها بقايا طبقات التجار والحرفيين التي ارتبطت تاريخيّا بالطرق الصوفيَّة (التربويَّة مهنيّا وأخلاقيّا) في أكثر أنحاء العالم الإسلامي،
تبدأ هذه العناصر بما يُمكن عَدُّهُ نقطة فاصلة في تاريخ كثير من شعوب المنطقة العربية، وفي تاريخ مصر الحديث تحديدا؛ وهو مآلات الانقلابات العسكرية. فقد كان العنصر الأول من عناصر تدهور الذوق العام في مصر هو بعض إفراز انقلاب عام 1952م العسكري، الذي قضى بجشعه وقصر نظره على القطاع الأكبر من البورجوازيَّة التقليديَّة
حتى شرعت هذه الرابطة بالانحلال مع هيمنة محمد علي الكبير على الحياة الاقتصاديَّة. وإذا كانت هذه الرابطة قد استعادت بعض ملامحها في مصر بعد عصر إسماعيل، وبدء ظهور بورجوازيَّة وطنيَّة حقيقيَّة؛ فإنها ما كادت تَستَعيد بعض عافيتها الكليَّة بنهاية الحرب العالمية الثانية، حتى قضى عليها الانقلاب الناصري قضاء مُبرما كما أجهض ثورتها السياسيَّة؛ ليُفرِز طبقات من اللصوص الذين لا خلاق لهم، إذ ظهروا من رحم سرقة القطاع العام المؤمَّم، وتدثَّروا بدثار التجار، وهم لا يعرفون للتجارة تقاليد من شرعٍ ولا أخلاقا من عُرف.

وعلى عكس البورجوازيَّة القديمة، التي كانت تُحقق الإثراء من قيمة مضافة تُراكمها في مدى زمني غير قصير، ثم تُعيد استثمارها استثمارا حقيقيّا؛ فإن ما أطلق عليه "التاجر الانفتاحي" -الذي تمخَّض عنه النظام الاجتماعي بتقوض الاشتراكية- كان ولا زال "هبَّاشا" مثله في ذلك مثل "ثري الحرب"؛ الذي يُحقق الإثراء الفاحش سريعا من خلال هامش ربح مُبالغ فيه يصل أحيانا إلى ضعفي التكلفة، إضافة إلى استعماله تقنيات التسويق للتلاعُب النفسي بالعملاء ورغباتهم، وأخيرا -وهو الأهم- عن طريق الاحتكار الذي يوفره له غطاء سابغ من الفساد السياسي المتأصل والمقنَّن.

وقد أفضى هذا الواقع المضطرم بالفساد إلى العُنصر الثاني؛ أي تنامي هجرات المصريين إلى دول الخليج النفطيَّة طلبا للرزق. هذه العمالة المصريَّة التي شاركت الطبقات الجديدة تطلُّعاتها، بغير مقدرة حقيقيَّة على مُجاراتها أول أمرها؛ قد تشرَّبَت بغير وعي -وعلى مدار خمسة عقود تقريبا- أنماطا استهلاكيَّة ضارَّة، وتصورات اقتصاديَّة مُدمرة؛ نُسب بعضها للإسلام زورا، وساهمت مُساهمة ضخمة في تحطيم الذائقة المصرية لحساب الذائقة الاستهلاكيَّة الأمريكيَّة -التي لا ذوق فيها ولا قيمة- المتفشية في بُلدان الخليج. إذ كان ولا زال الملمح الأبرز لهذه الأنماط ومنتجاتها هو التعبير الاستعراضي الفج عن الإثراء، لا كونها أعظم قيمة أو أفضل تحقيقا للإشباع الإنساني، وإنما بوصفها رموزا طبقيَّة محضة؛ رغم انخفاض قيمتها الاقتصاديَّة وضمور قيمتها الإنسانيَّة. ومثلها مثل بقية عناصر النمط المعيشي الأمريكي، راحت هذه الأنماط تتغلغَلُ اجتماعيّا بسرعة؛ لسهولة تبنيها وفجاجة تعبيرها عن المكانة الطبقيَّة الجديدة. وتكامل الحصار حين بدأت حتى السلع الغذائيَّة المصنَّعة لدول الخليج؛ تغزو الأسواق المصريَّة اعتمادا على جماهيريتها بين العمالة المليونيَّة وأسرها.

وقد كان العنصر الثالث نتيجة طبيعيَّة لتضافُر العُنصرين الأوليين؛ فقد أدَّت الإزاحة الناصريَّة للبورجوازيَّة القديمة، مضافا إليها "التراكم" الطبقي الذي تسبَّبت به الهجرة إلى دول الخليج؛ إلى حراك طبقي مُتزايد، حراك غير طبيعي وغير صحي؛ إذ صعَّد طبقات اعتادَت استهلاك الرديء باهظ الثمن، وصارت تبحث عن الكم على حساب الكيف، لا على القيمة الحقيقيَّة والسعر العادل. إذ أنها تنظُر إلى السلعة بوصفها رمزا طبقيّا لا أداة إشباع مُجرَّدة لاحتياجات إنسانيَّة حقيقيَّة. هذه الطبقة التي لا تهمها الجودة ولا تُبالي بالإتقان -لأنها لا تُدركها ولا تستطيع قياسها- حين تفكر حتى في استثمار ما تراكم لديها من بيع قوى عملها؛ فإنها تلجأ إلى الاقتصاد الريعي والمضاربات. إذ أنها لا تُطيق الخسارة، ولا تُريد التورُّط في اقتصاد إنتاجي لا يؤتي أكله سريعا، بل ولا يُمكن توظيفه اجتماعيّا لإظهار الثراء. وقد تجلَّى ذلك مثلا في التعليق الخبيث، الذي كتبه وحيد حامد على لسان ميرفت أمين في فيلم عاطف الطيب: "الدنيا على جناح يمامة"؛ حين سخرت من شركات توظيف الأموال "المتدينة"، التي تستثمر أموال المصريين في قطاعي الدواجن والمواشي؛ لتحقيق الاكتفاء الذاتي!

هذه الفوضى الاجتماعيَّة التي كانت نتيجة ثم سببا -في الوقت نفسه- للعناصر السابقة، يسَّرت الظهور التلقائي للعنصر الرابع؛ فهو ظهور طبيعي ومتوقَّع في سياق غاب عنه الوازع -جوانيّا وبرانيّا- تقريبا بفعل الخلخلة الاجتماعيَّة، وانتفت إمكانية لا التخلُّق بخُلق الإسلام فحسب، وإنما انتفت كذلك أيَّة إمكانيَّة للتصور الجمعي لهذه الأخلاقيَّات عمليّا؛ مما قد يُسهم بقدر ما في ضبط توازُن الحراك الاجتماعي.

كان من المتوقَّع أن تُفضي هذه الدراما الاجتماعيَّة البائسة إلى المآل الطبيعي، وذلك بوصفه العنصر الخامس من هذه المتتالية: تدهور التقاليد المحليَّة كلها، وتشوه المجال العام تشوها يتعذر إصلاحه إلا أن يشاء الله شيئا. وهو ما بدأ بتشوه "الثقافة الاستهلاكيَّة" وهُجران أكثر الحرف التقليديَّة، أو تدميرها؛ وانتهى بتدهور جميع التقاليد المحليَّة في التصنيع والاستهلاك، ومن ثم؛ صارت حتى التقاليد الإنتاجيَّة المستورَدة تُستجلَب على قاعدة من انعدام الأمانة والإتقان

هذا العنصر الكارثي، أو القشَّة التي قصمت ظهر بعير المجتمع المصري المسلم؛ هو شيوع أكل الحرام واللامبالاة بتحري الحلال. وهو عنصرٌ أسهمت فيه -مثلا- غيبة الاجتهادات الفقهيَّة الجادَّة في المُستجدَّات المتسارِعة في الشؤون الاقتصاديَّة، والابتذال الشديد والسريع في تسويغ كل شيء، ما لم يرِد فيه نص شرعي صريح؛ استسهالا واعتمادا على أخذ عرب الجزيرة بهذه "الرُّخَص" الاقتصاديَّة، وقبولهم لها، بل وإنفاقهم أحيانا على أسلمتها! لقد أدَّى تحلُّل القيم الاجتماعيَّة الضابطة إلى غياب الوازع البراني، بعد أن جرى طمر الوازع الجواني عبر مُتتالية سلطويَّة من الإفقار المنظَّم والدعاية المكثَّفة وتشويه التديُّن، علاوة على الانتهاك المستمر لإنسانيَّة المتدينين، بوسائل شتى؛ حتى شاعت هجرتهم، وتكرَّس بين كثيرين ممن بقي منهم فصام تبني نموذجين -أحدهما تقوي للحياة الخاصَّة والآخر علماني للحياة العامَّة- كأن الإله الذي يتوجَّه له المؤمن في صلاته لا يحكم فوق المجال العام! وأبرزت أفلام وحيد حامد ودراما أسامة أنور عكاشة نموذج الموظف الملتحي المرتشي؛ الذي يُصلي ويقبل "الهدية" لتُعينه على الغلاء، وتُخفف وطأة ما يُعانيه من المجتمع والسلطة.

وقد كان من المتوقَّع أن تُفضي هذه الدراما الاجتماعيَّة البائسة إلى المآل الطبيعي، وذلك بوصفه العنصر الخامس من هذه المتتالية: تدهور التقاليد المحليَّة كلها، وتشوه المجال العام تشوها يتعذر إصلاحه إلا أن يشاء الله شيئا. وهو ما بدأ بتشوه "الثقافة الاستهلاكيَّة" وهُجران أكثر الحرف التقليديَّة، أو تدميرها؛ وانتهى بتدهور جميع التقاليد المحليَّة في التصنيع والاستهلاك، ومن ثم؛ صارت حتى التقاليد الإنتاجيَّة المستورَدة تُستجلَب على قاعدة من انعدام الأمانة والإتقان، وفقر الذائقة والجودة، لتكتمل الدائرة الجهنمية بهيمنة تُجار من أهل الخليج -اليوم- على التوكيلات التجاريَّة الكبرى للعلامات التجاريَّة الإمبريالية المشهورة.

هذه الهيمنة أدَّت إلى تضخُّم مهول وغير مُبرر في أسعار سلع هذه العلامات التجاريَّة، مُقارنة بأسواق أخرى مثل تُركيا، بسبب رغبة ذلك التاجر جني أرباح من السوق المصري توازي ما يجنيه من الأسواق الخليجيَّة، رغم فارق القدرة الشرائيَّة المهول. أضف إلى ذلك استهانة التاجر الخليجي بالمستهلك المصري، الذي لا يحميه قانون ولا يذود عنه مجتمع؛ فصارت خدمة العملاء التي يقدمها هذا التاجر للسوق المصري أقل كثيرا مما يمنحه لأقل مستهلك خليجي،
ظاهرة "الفوود بلوغرز"، الذين ظهروا من رحم هذه الطبقات الرديئة الجاهلة، بلا خبرة ولا فهم ولا دراسة ولا ذائقة حقيقيَّة؛ ليرسخوا حضيض المأكولات الذي بلغته الذائقة المصريَّة المريضة، في مقابل ملايين الجنيهات التي يتقاضونها
بل أقل مما قد يحصل عليه لص السلعة الذي لم يسدد ثمنها؛ رغم أن المصري دفع أضعاف ثمنها العادل! ودع عنك ما ارتكبته هذه الهيمنة الخليجيَّة من الإمعان في تشويه الذوق العام، وتكريس الرديء الرائج؛ فاجتمع على المستهلك المصري -المضطرب المشوَّه- سعر باهظ وذائقة منحطة تزيده خسارا.

وإذا كانت ثمار هذه المتتالية استوَت حين كرَّس صفوت الشريف عرض "فوازير رمضان" في توقيت صلاة التراويح؛ فصارت مشاهدتها طقسا اجتماعيّا ينافس الصلاة، واضطلعت طبقات البورجوازيَّة الجديدة -انسجاما مع ذلك- بزيادة الاستهلاك العام -زيادة مفجعة- من المكسرات والحلويات والأطعمة الملائمة للسهر لمشاهدة الفوازير والمسلسلات -بدلا من صلاة القيام- حتى صار شهر رمضان هو شهر زيادة الوزن عند البورجوازيَّة المصريَّة دون غيرها من شعوب الأمة الإسلاميَّة، وضمُرت الشعائر العباديَّة المرتبطة بهذا الشهر، خصوصا عقب الإفطار؛ فإن تلك المتتالية من الثمار قد تجلَّت كلها في ظاهرتين أساسيتين: أولهما سطو الأنماط الغذائيَّة الأمريكيَّة السامة على الأنماط الاستهلاكيَّة المصريَّة عبر الدعاية، وهو ما تجلى نماذجيّا في إعلان كاتشب هاينز -قبل عامين- الذي استأجر ثلاثة من أصحاب أكبر المطاعم المصريَّة التقليديَّة -الدهَّان، والبرنس، وقدُّورة- ليظهروا في إعلان يقولون فيه بأن الكاتشب مناسب للإضافة على هذه الأطعمة!! ما أسهم إسهاما واضحا في تقويض أنساق تقاليد هذه المطابخ من داخلها.

وكانت الظاهرة الثانية هي ظاهرة "الفوود بلوغرز"، الذين ظهروا من رحم هذه الطبقات الرديئة الجاهلة، بلا خبرة ولا فهم ولا دراسة ولا ذائقة حقيقيَّة؛ ليرسخوا حضيض المأكولات الذي بلغته الذائقة المصريَّة المريضة، في مقابل ملايين الجنيهات التي يتقاضونها من أصحاب تلك المطاعم. وهذا حديث يطول؛ لكن نعدك باستئنافه.

twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry
التعليقات (0)