كتاب عربي 21

الحكم الشرعي والحكم الفقهي

عبد الستار قاسم
1300x600
1300x600
هناك من الناس من يظن أن كل فتوى تصدر عن رجل دين أو فقيه صحيحة ويأخذون بها على اعتبار أن الفقيه مؤتمن ولا يمكن أن يزيغ أو يراعي ظروفا خاصة في فتواه. وهناك زحمة في المفتين في العالم الإسلامي، ويبدو أن كل من أطلق لحيته أصبح مفتيا ويملك حقا في إصدار ما يرى مناسبا من الفتاوى.

هنا لا بد من التحذير من أن هناك ما يعرف بالحكم الشرعي، وما أسميه بالحكم الفقهي. الحكم الشرعي هو ذلك الحكم الذي ينطبق على الناس جميعا مستندا إلى نص قرآني واضح لا تأويل فيه، أو على حديث صحيح مدقق ينسجم تماما مع التعاليم الواردة في القرآن الكريم. إنه شرط أساسي أن يكون الحكم الشرعي مستندا إلى نص.

أما الحكم الفقهي فهو يعبر عن اجتهاد فقيه أو فقهاء دون أن يكون مستندا إلى نص، أو يمكن أن يكون مستندا إلى نصوص خارج المصادر الأولية للتشريع الإسلامي. طبعا هناك اجتهاد في الإسلام، والاجتهاد الصحيح هو الذي يستند إلى دراسة معمقة في النصوص الأصلية، ولا يصدر إلا بعد وضع صورة المسألة قيد البحث داخل الصورة الكلية للنصوص لكي يرى المجتهد كيف يتم دخولها ضمن هذه الصورة. أي أن الاجتهاد لا يرتكز فقط على نص واحد يمكن أن يُفهم بصور مختلفة، وإنما يرتكز على صورة كلية مكونة من مجمل النصوص القرآنية والأحاديث ذات الصلة. فمثلا عندما اجتهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حول عدم قطع يد السارق بسبب مجاعة أو قحط قد ألم بالبلاد، استند إلى صورة إسلامية كلية حول مراعاة ظروف الناس ومسؤولية الأمة الإسلامية عن توفير لقمة الخبز لأبنائها. وعندما اجتهد حول زواج الجند من بنات الشام نظر إلى الصورة الكلية الخاصة بالزيجات  والتي تحول دون نشوء أمراض اجتماعية في المجتمع المسلم. المعنى أن نصا واحدا غير قطعي لا يكفي للاجتهاد وإصدار الفتاوى.

هذا علما أن الاجتهاد ابن زمانه ومكانه، ولا يصلح لكل زمان ومكان. ظروف الزمان والمكان تؤثر في اجتهاد المجتهد، واجتهاده في النهاية يعكس طريقته في معالجة ظروف زمانه ومكانه، ومحكوم بالحدود المعرفية للزمان والمكان. شكرا لكل الذين اجتهدوا من واقع حياتهم، وجزاهم الله كل خير، لكن هذا لا يعني أن اجتهادهم قد تحول إلى أقوال مقدسة وأحكام شرعية قطعية. باب الاجتهاد في الإسلام مفتوح دائما من أجل أن يتمكن الناس من معالجة مختلف القضايا التي تطرأ عبر الزمان والمكان. والمؤسف أن أغلب الفقهاء عطلوا الاجتهاد وعطلوا في النهاية العقل المسلم وشلوا قدرة الأمة على التفكير.

ليس كل ما أتى به الفقهاء صحيح، وعلينا أن نكون حذرين في التعامل مع الفتاوى التي تراكمت عبر القرون. هناك فقهاء يفتون للسلطان لكي يبرروا له سوء صنيعه. هؤلاء مزورون وأفاكون ومنافقون وكاذبون لا يتقون الله، وعلينا ألا نستمع إليهم، ومثال على فتاواهم يتمثل في فقههم الخاص بعدم الثورة على الحاكم الظالم لأنه لم يصبح حاكما إلا بأمر الله سبحانه. فقهاء السلاطين والحكام يعبدون المال ويبحثون عن رضا السلطان، وهم ليسوا مؤتمنين على الأمة ودينها، والمفروض أن يتكون لدينا موقف مسبق من فتاواهم حتى لا نقع فريسة لأقوالهم.

وهناك من الفقهاء من تأخذه العادات والتقاليد بعيدا فيظن أن ما نشأ عليه هو الحق، ويعمل على لي ذراع الدين الإسلامي بطريقة تتمشى مع عادات وتقاليد المجتمع.

وهناك من الفقهاء من يختزن في داخله مواقف ورؤى خاصة بعيدة عن التعاليم السماوية، لكنه يحاول أن يبحث في الكتب عن نص هنا أو هناك خارج القرآن والسنة من أجل أن يثبت وجهة نظره.

هناك من الفقهاء من لا يتسع عقله لأكثر من خرم إبرة، ويحاول وضع الإسلام في بوتقة مغلقة ويحتكره لنفسه. مثال هؤلاء بعض رجال الدين الذين تخصصوا في دراسة الشريعة وظنوا أن دراستهم تؤهلهم هم فقط للتحدث في القضايا الدينية. إنهم يعملون على احتكار الدين ويقولون إنه لا يحق لغير دارس الشريعة أن يتكلم بالأمور الدينية.

أقوال هذه الأصناف من الفقهاء لا تشكل أحكاما شرعية، وإنما هي مجرد أحكام فقهية نطق بها فقهاء في الغالب عن غير علم، أو عن غير تدبر في القرآن الكريم. نحن كمسلمين لسنا ملزمين بالأحكام الفقهية. نحن ملزمون فقط بالأحكام الشرعية الواضحة وضوح الشمس، ولا نقبل أن نتحول إلى عبيد عند الذين يقمعون الرأي ويقمعون الفكر الإسلامي ويحجمونه ويضيقون عليه. لقد خسرت أمة المسلمين كثيرا نتيجة ضيق الأفق والبلاهة الفكرية، فتخلفت وبقيت خلف الأمم علميا واجتماعيا وفكريا وثقافيا. وإذا كان للمسلمين أن ينهضوا فإن عليهم التمسك بالحكم الشرعي وألا يلتفتوا إلى الذين يحاولون حرف التعاليم الإسلامية عن مقاصدها في بناء الأفراد والمجتمعات.
0
التعليقات (0)