ملفات وتقارير

أيُّ تنوير يحتاجه المسلمون لتفعيل دور الدين في الحياة؟

الإسلام
الإسلام
غالبا ما يُقابل مصطلح التنوير في سياقاته الإسلامية، بقدر كبير من التوجس والريبة، لارتباطه في مجال تداوله الأوروبي بمدلولات التمرد على الدين، وتسيُّد العقل وإعطائه السلطة المطلقة ليكون حاكما على كل شيء بما فيه الوحي المقدس، بحسب باحثين في الفكر والثقافة.

ويبدي مشايخ ودعاة تحفظات شديدة تجاه ذلك المصطلح، ولا يترددون في وصف دعاة الفكر التنويري، بجنوحهم في اختياراتهم الدينية إلى التساهل الشديد، مع غلبة الرقة في الدين عليهم، وعدم اجتهادهم في الطاعة التعبدية، وجفافهم الروحي والإيماني، وفقا لملاحظة مراقبين مهتمين بالحالة الإسلامية. 

في هذا السياق، وصف الداعية السعودي سليمان صالح الخراشي، "التنوير" بأنه مصطلح براق وجذاب، مثل غيره من المصطلحات المشتركة حمالة الأوجه، التي تُستخدم لتمرير الأفكار (بنوعيها)، فالمحق يعني بها حقا، والمُبطل يعني بها باطلا. 

ونقل عن الدكتور محمد السيد في كتابه "فلسفة التنوير بين المشروع الإسلامي والمشروع التغريبي"، قوله: "لقد صورت المعركة كلها على أنها صراع بين الدين، بمعناه العام، وكل معاني التنوير التي هي العقلانية والتقدم، وانتقلت المعركة بكل ملابساتها وظروفها إلى عالمنا العربي بدون أن يفطن دعاة التنوير في عالمنا العربي إلى أن الإسلام ليس هو الكنيسة، ولا عالمنا العربي هو أوروبا". 

التنوير .. تحفظات واعتراضات

يتركز نقد الرافضين للفكر التنويري بمفاهيمه الشائعة والمتداولة، على أن دعاته يريدون استنساخ الحالة الأوروبية بحمولتها الفكرية الكاملة، وهو ما ينتقدونه بقولهم إن "الحضارة الإسلامية ليست هي الحضارة الأوروبية في عصورها المظلمة، وليس الدين عندنا رافضا للعلم، ولا محاربا للعقل".

وتتمحور أسباب الرافضين للفكر التنويري، على أنهم يرونه ينطلق من شعارات عامة وغامضة موجهة في غالبها ضد الدين وثوابته وأصوله، وليست كما "قد يتبادر إلى الذهن، من نشر للعلم والفكر والتأمل العقلي". 

من جانبه، رأى أستاذ الحديث المساعد في جامعة حائل السعودية، محمد أبو عبدة أن "الفكر التنويري بمفهومه الشائع فكرة مرفوضة في أوساط المسلمين الملتزمين"، عازيا ذلك إلى أن "أصحاب الفكر التنويري قدموا فكرته بطريقة مغلوطة". 

وأضاف لـ"عربي21": "في الحقيقة لقد كان الفكر التنويري شائعا في العصور الإسلامية المتقدمة، ولكن بغير مفهومه العصري اليوم، ففكرة التجديد وظهور المجددين، ومواكبة العصر والانفتاح على الآخرين من صلب الدين". 

وذكر أبو عبدة أنه حضر مؤتمرا في مدينة ميلانو الإيطالية بعنوان "الإسلام الأوروبي"، وكانت المطالبة للأسف، خاصة من محمد أركون، لتفعيل فكرة التنوير، عرض القرآن على العقول، فنأخذ منه ونرد، رافضا ذلك التوجه من أساسه، باعتباره هدما وليس تنويرا.

وجوابا عن سؤال: "هل التنوير بكليته مرفوض من الناحية الشرعية الإسلامية؟"، قال أبو عبدة: "لا، فنحن مع الفكر التنويري الملتزم بأصول الدين، والخارج من رحم الأطر الدينية، مع المحافظة على الشخصية والهوية الإسلامية".

وانتقد أبو عبدة بشدة ما يقوم به بعضهم من "التهجم على مصادر الدين الأصلية القرآن والسنة الصحيحة"، مع تأييده لغربلة التراث الإسلامي وتنخيله من كل الشوائب العالقة به، مثل الأخبار الإسرائيلية والأحاديث الضعيفة والموضوعة.

ودعا أبو عبدة إلى ضرورة "تجديد الخطاب الديني باعتماد آليات جديدة تناسب لغة العصر، من غير الذوبان في الثقافة الغربية، والانسلاخ من الهوية والأصول الإسلامية".

التنوير إعمال العقل في فهم الدين والحياة
 
لكن دعاة التنوير يرفضون تلك الاتهامات، ويصرون على فك الارتباط الموهوم بين أن يكون المسلم مستنيرا، داعيا إلى التنوير وفق التصور الإسلامي، وبين إلصاق صفة الرقة في الدين، والجفاف الإيماني والروحاني به.

بدوره، أوضح أستاذ مقارنة الأديان في جامعة آل البيت الأردنية، عامر الحافي، أن التنوير بمعنى استخدام العقل في فهم الدين وفقهه، ومعرفة فقه الحياة عموما، مبدأ قرآني، فمن يدعو للتنوير وفق هذا المفهوم لا يخرج عن القرآن الكريم أبدا، فما ذكر القرآن العقل إلا في مقام المدح. 

وأضاف الحافي أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعملون عقولهم في فهم الدين واستنباط أحكامه، كما هو شأن عمر في موافقات القرآن له، وشأن عائشة في انتقادها لروايات حديثية رأتها لا تتوافق مع آيات قرآنية وأصول شرعية. 

وتابع الحافي: "ولو رجعنا إلى الإنجيل والتوراة لما وجدنا فيهما ما نجده في القرآن الكريم من الحث على استعمال العقل والتعقل، ولكن المؤلم أن المسلمين الذين حثهم كتابهم على ذلك، ما زالوا يركضون خلف أولئك الذي لا يوجد في كتبهم ما يدعوهم إلى استعمال العقل". 

وجوابا عن سؤال "عربي21": "هل يلزم من الدعوة إلى التنوير في سياقاته الإسلامية استنساخ الحالة الأوروبية بكل مقدماتها ونتائجها؟"، قال الحافي: "التجارب الإنسانية تجارب متوازية وليست مستنسخة"، لافتا إلى أن "ثلث القرآن الكريم قصص تتحدث عن تجارب الأمم السابقة، وما ذُكرت إلا لأخذ العبرة والاستفادة منها". 

وبيّن الحافي أن المنهج القرآني يحثنا على الاعتبار بالتجربة الموازية، ولا يحثنا على استنساخها أبدا، وانطلاقا من هذا المنهج القرآني نفسه  ننظر في التجارب الإنسانية الأخرى وندرسها، ونستفيد منها ونعتبر بها، ولا نعمل على استنساخها وتقليدها، والتقليد عندنا مذموم لعلماء المسلمين، فكيف بتقليد غير المسلمين؟

وأكدّ الحافي أن الدعوة إلى التنوير بمعنى إعمال العقل في فهم الدين والحياة، لا تبيح بحال اتهام دعاته برقة الدين، وضعف الإيمان، والانفلات من الالتزام بالأحكام الشرعية.

وبيانا للمجالات والحقول التي ينبغي أن ينصب عليها جهد التنوير والتجديد، اعتبر الحافي أن كل حقل اقتحمه العقل الإسلامي قديما، هو مفتوح للعقل الإسلامي حديثا، ويأتي في مقدمة ذلك تجديد علم الكلام، وتجديد علم أصول الفقه، فهما علمان أنتجهما العقل المسلم في سياقات وأزمنة معينة، ولا يعني اكتمالها وعدم انفتاحهما لإضافات أخرى، وكذلك بقية الحقول والميادين الأخرى.

تجديد الدين لا مفر منه

في السياق ذاته، ألحَّ أستاذ تاريخ الأديان في جامعة حمد بن خليفة في قطر، محمد مختار الشنقيطي، على ضرورة تجديد الدين، المرادف لعملية التنوير، وذلك "حينما يعجز الفهم السائد للدين عن الاستجابة لضرورات الحياة، أو تضيق ضرورات الحياة بذلك الفهم، فإن تجديد الدين يصبح أمرا لا مفر منه، طبقا للوعي النبوي في حديث تجديد الدين الصحيح.

وتابع بأن "أساس تجديد الدين هو الرجوع إلى بساطة الحق الأصلية، وإلى القيم الإنسانية الفطرية، وتجريد نصوص الوحي من الغواشي الجدلية واللغوية والعرفية التي غشيتها".

ولفت الشنقيطي في حديثه لـ"عربي21" إلى أنه لا يضايقه شخصيا شيء في الثقافة الإسلامية اليوم أكثر من استماتة بعض المسلمين في الدفاع عن "ثوابت" لم تثبت بوحي من الله، وإنما بسلطة السلف وسطوة التاريخ، وكأنما "جهل هؤلاء أن الوحي كنز لا ينضب، يستمد منه أهل كل عصر بقدر جِدّهم وجُهدهم، فليس السلف حجة على الخلف في فهم الوحي، ولا الخلف حجة على السلف".

ووفقا للأكاديمي الموريتاني الشنقيطي، فإن "هذا الجمود الفكري، والاستئسار لصورة تاريخية معينة، سواء كانت صورة السلف أم غيرها، من أهم المخاطر على الدين، لأنها تجعل الدين متخلفا عن ركب الحياة، وتجعل الناس يبحثون عن مصادر إلهام وهداية لحياتهم خارج نطاق الدين".
 
وشدد الشنقيطي على أن "عجز الثقافة الدينية عن التجدد، والمزج بين العنصر الإلهي الخالد والعنصر التاريخ المتغير، من أهم الأمور والمخاطر التي تواجه الأديان، وقد اندثرت بعض الأديان في العصر الحديث بسبب عجز أهلها عن مواكبة حركة الحياة في فهم الدين وتطبيقه". 

وانتقد الشنقيطي ذلك النسق الذي يربط "الوحي بصورة تاريخية معينة"، وقول بعضهم مثلا: طريقنا هو "الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة"، وما إلى ذلك من مقولات نسمعها اليوم، واصفا إياه بأنه "تقييد لعنصر الإطلاق في الوحي، وتحديد له بزمان ومكان مخصوصين، وبالتالي جعل الدين يتخلف عن حركة الحياة".

وجوابا عن سؤال "ما هي أهم مظاهر التجديد التي يحتاجها المسلمون اليوم؟"، قال الشنقيطي: "من أهم تلك المظاهر التخلص من ثقافة الإكراه في الدين المناقضة لنص القرآن الكريم، والانتقال إلى ثقافة الإقناع المنسجمة مع روح القرآن، وروح العصر ويستلزم ذلك التخلص من المعارك الكلامية الميتة، واعتماد مبدأ الإيمان المفتوح الذي كان سائدا في العصر النبوي، بديلا عن منهج العقيدة المغلقة الذي يهيمن على ثقافة المسلمين اليوم"، على حد قوله. 

وأضاف: "فالإيمان المفتوح اختيار شخصي دون اختبار من الآخرين، واتفاق على معنى عام -كالشهادتين مثلا- دون خوض في دقائق مدلوله، وقد عرف الصحابة والتابعون الإيمان المفتوح ولم يعرفوا العقيدة المغلقة، وانشغلوا بتحقيق مقتضيات الإيمان في عالم الشهادة عن الجدل في دقائقه الغيبية".

حتى يعود للدين حضوره وتأثيره في واقع المسلمين، وحتى تعود للدين وظيفته الاجتماعية الفاعلة، فلا بد، وفقا لعامر الحافي، من تحرير العقل المسلم من عقيدة الجبر، الموروثة للتكاسل والقعود، وتخليصه في الوقت ذاته من التعلق بفكرة المخلص خاصة، ومنتجات التفكير الخوارقي بصفة عامة، بإحياء التفكير السنني، وإشاعته في المسلمين، لينتقل المسلمون من حالة الخمود والجمود إلى حالة الإشعاع الفكري والفاعلية العملية.
التعليقات (0)