قضايا وآراء

فيروز وخيانة المثقف

1300x600
بمناسبة قبول فيروز لوسام جوقة الشرف من الرئيس الفرنسي ماكرون، والشيء بالشيء يذكر، ففي عام ١٩٤٥ بعد الحرب العالمية الثانية، رفض الكاتب والفيلسوف جان بول سارتر وسام جوقة الشرف ذاته. بل رفض سارتر (الذي كان يبلغ حينها ٦٩ عاما) جائزة نوبل في الأدب التي منحت له في تشرين الأول/ أكتوبر ١٩٦٤.

وكان الوحيد في تاريخ جائزة نوبل الذي رفضها بسبب مبدأ، وليس لأن دولته طلبت منه رفض الجائزة. وقال سارتر إن لديه أسبابا شخصية وموضوعية لهذا الرفض. أما الشخصية فإن رفضه ليس فعلا مندفعا، ولكنه أسلوب حياة اتخذه ككاتب، لأنه يرفض دائما التمييز الرسمي وكذلك الذي يتبع مؤسسات معينة، لأن الجوائز من شأنها أن تحد من تأثير كتاباته.

ويعتمد موقفه هذا على تصوره لمشروع الكاتب الملتزم، الذي يجب عليه أن يتبنى المواقف السياسية والاجتماعية والأدبية وأن يتصرف بالوسائل التي يملكها، أي الكلمة المكتوبة. فالتكريمات التي يحصل عليها الكاتب تشكل ضغطا غير مرغوب على قرائه، فإن توقيعه باسمه جان بول سارتر، سيختلف عن توقيعه باسم جان بول سارتر الحائز على جائزة نوبل.

إن الكاتب الذي يقبل تكريما من هذا النوع فإنه يعلن تبنيه لسياسات وأهداف المؤسسة التي كرمته. فاستعمال توقيع الحائز على جائزة نوبل يعني أنه يلتزم بجائزة نوبل بأكملها كمؤسسة، وعلى الكاتب أن ينأى بنفسه بل وأن يرفض أن يسمح لنفسه بأن يتحول إلى مؤسسة أو ممثل لها ليكون حرا.

أما الأسباب الموضوعية، فإنه اعتبر أن المعركة الوحيدة الممكنة اليوم على الجبهة الثقافية هي المعركة من أجل التعايش السلمي بين ثقافة الغرب والشرق. وهو لا يعني هنا أن تحتضن ثقافة الأخرى، وإنما أن هذه المواجهة يجب أن تحدث بين البشر وبين الثقافات دون تدخل المؤسسات. لهذا السبب صرح سارتر بأنه لا يمكنه قبول التكريم الذي تمنحه السلطات الثقافية، تلك الموجودة في الغرب أكثر من تلك الموجودة في الشرق، على الرغم من تعاطفه معهم.

لا يمكن أن يتوجه الكاتب إلى قارئ عالمي، بل إلى قارئ في وطن خاص في موقف محدد. وليس معنى ذلك أنه لا يتوجه من خلاله إلى كل الناس، ولكنه لا يتوجه إلى الناس إلا من خلاله. وإن الحديث عن الحرية في معناها المجرد لا يجدي، لأنها لا تكتسب معناها الحق إلا في موقف معين.

وإن الكاتب الحق ترهبه المجتمعات لأنه ينقلها من حالة اللاشعور إلى حالة الشعور، فالكاتب في صراع مستمر مع قوى المحافظة والجمود. لكن ضمير الكاتب قد يهبط إلى أدنى مستوياته إذا هو أصبح في عداد الطبقات الاجتماعية المميزة، بدلا من أن يكون على هامشها.

وقد يتنصل الكاتب من مسؤوليته في الشهادة والكشف، فإذا بأدبه وكأنه نشيد ساذج يتغنى بألحان الحب وسط الضرب بالقنابل والمذابح والقرى المحترقة والنفي، فيفقد جمهوره. لذا من حق جمهوره أن يحاسبه على أساس حالته في المجتمع. وحالته لا تنحصر في أنه إنسان وحسب، بل وأنه على وجه التحديد كاتب؛ لأن من بين صفاتنا ما مصدره الوحيد أحكام الآخرين علينا. وفي حالة الكاتب يصبح الموضوع اكثر تعقيدا، لأنه ليس هناك إنسان مضطر إلى اختيار مهنة الكتابة لنفسه، إذن فالحرية هي الأصل فيها، فيعتبر الكاتب بالنسبة للناس بمثابة الضمير.

في الحقيقة لا ينبغي أن يدفع للكاتب أي أجر، وإنما يُمنح قوته سيئا أو جيدا حسب العصور. وإنه يمكن اعتبار نشاطه ضارا أحيانا لما يتولد في المجتمع الذي يكتب له من وعي ذلك المجتمع بنفسه، ويعرّف الناس على النافع حسب النظر إلى قوانين المجتمع.

إن الكاتب يقدم صورة المجتمع للمجتمع، ويهيئه لتحمل التبعية فيها أو تغييرها. ولا مفر بعد ذلك من أن يتغير ذلك المجتمع، إذ يفقد التوازن الذي أكسبه إياه الجهل، ويتسلل شعور العار إليه، وهكذا يعطي المجتمع شعورا بشقاء الضمير. ومن هنا يظل الكاتب في صراع دائم مع القوى المحافظة الحريصة على التوازن، هذه القوى التي يحاول هو أن يحطمها؛ لأن الانتقال المباشر (وهو أمر لا يتم إلا بنفي اللامباشر) ثورة دائمة.

ولأن الطبقات الحاكمة عادة وحدها هي المتحررة من هموم المادة، فإن لديها القدرة على تلافي خطر الكاتب بتقديم الفتات له لتشرف على قوته الهدامة بالنسبة لها. فالكاتب هو طفيلي الصفوة الحاكمة، كما ذُكر في ملهاة ألفها بومارشيه في القرن الثامن عشر.

وشقاء الضمير هذا هو ما يوصل الكاتب لأن يصبح في عداد الطبقة ذات الامتيازات، بدلا من أن يكون على هامشها. وهنا يتوحد الأدب مع أحلام الحاكمين ويصبح الكاتب مجرد وسيط، ويصبح موضوع الجدل التفاصيل.

وإذا كان جوهر الكتابة حقا هو الكشف عن الحرية، والقصد من وراء ذلك الدعوة إلى حرية الآخرين، فمن الحق كذلك أن أشكال الاضطهاد المختلفة التي تحجب عن الناس حقيقة أنهم أحرار، تحجب كذلك عن المؤلفين جوهر الأدب كله أو بعضه. فيتبع ذلك أن تكون الأفكار التي يكونونها عن مهنتهم أفكارا مبتورة، فهي تحتوي دائما على شيء من الحقيقة، ولكن تصير هذه الحقيقة الجزئية المعزولة ضلالا إذا توقف عندها. لهذا من الممكن للكتابة في عصر معين أن تُسلب إذا لم تصل إلى الوعي الواضح باستقلالها، فتخضع للسلطة الزمنية، أو السياسية، أو عندما تعتبر نفسها وسيلة لا غاية مطلقة من كل قيد.

إن وظيفة الكاتب أن يسمي الأشياء بأسمائها، وإذا كانت الكلمات مريضة، فعلينا علاجها. وبدلا من أن نقوم بهذا العلاج، يعيش كثير منا المرض. فالأدب في كثير من الحالات نوع من سرطان في الكلمات.

إذن واجب الكتابة الأول أن ندعم من جديد مكانة اللغة، وأن نفكر بوساطة الكلمات. قد نعتقد غرورا أن فينا أنواعا من الجمال المعجز للوصف التي ليست اللغة أهلا للتعبير عنها، غير أننا نحترس من المعاني التي لا يمكن الإفضاء بها، فهي منبع كل عنف.

عندما يستحيل علينا أن نجعل غيرنا يشاركنا اليقين الذي نتمتع به، فلن يتبقى لنا سوى الضرب والإحراق والشنق. فنحن لسنا أفضل من حياتنا، وعلى حسب حياتنا يجب أن يحكم علينا غيرنا. وليست أفكارنا أفضل من لغتنا، ويجب أن يحكم على الفكرة على حسب كيفية استخدامها للغة. وإذا أردنا أن نرجع إلى الكلمات قوتها، فعلينا أن نطهر الكلمات من معانيها الطفيلية، وأن نوسع تراكيبها لنجعلها مناسبة للموقف التاريخي. وإذا أراد كاتب أن يكرس جهده كله للقيام بهذا الواجب، فلن يتبقى من حياته بقية، ولكنا إذا اشتركنا فيه جميعا أنجزناه.

وبما أن الكاتب يتوجه إلى حرية قارئه، وبما أن كل ضمير مخدوع بوصفه شريكا في الإثم للخدعة التي قيدته، فلن يمكننا أن نكون كتّابا إلا إذا أخذنا على عاتقنا أن نتخذ موقفا ضد جميع المظالم، أيا ما كان مصدرها. ولن يكون هناك معنى لما نكتب إذا لم نتخذ لأنفسنا هدفا ثابتا، وإلا فلن نكون سوى كتابا خائنين.