قضايا وآراء

بيجوفيتش في ذكرى رحيله

1300x600
هذه المقالة يمكن عدُّها مكمِّلة لمقالتي السابقة حول رحلة جيفري لانج مع القرآن، فإذا كان لانج مثالا لفاعلية القرآن في ثقافة جديدة مختلفة عن الظروف التاريخية والاجتماعية للمسلمين، فإن بيجوفيتش الفيلسوف هو مثال في ذات الاتجاه يُظهر مدى عمق وأصالة المعاني الدينية، وكيف أن المعنى الديني ينبع من أشدِّ الظواهر التي يراها الماديون والملحدون دليلا يثبِّت موقفهم: "فأينما تولوا فثم وجه الله".

في مثل هذه الأيام، وفي 19 تشرين الأول/ أكتوبر 2003، رحل عن عالمنا علي عزت بيجوفيتش، يعرفه أهل السياسة بأنه رئيس جمهورية البوسنة والهرسك، الذي قاد شعبه في الظلمة الحالكة خلال حرب الإبادة التي تعرض لها بين عامي 1992 و1995، والتي اجتمعت فيها الوحشية الصربية مع التواطؤ الدولي.

لكن السياسة لا تمثل أعمق ما في علي عزت بيجوفيتش. لقد كان مفكرا وفيلسوفا قبل أن يكون رئيسا، وكان كذلك مؤمنا متصوِّفا، وقد أصَّل على نحو قلَّ نظيره لمعاني الإسلام والإنسانية والفن والثقافة والحرية والأصالة.

الميراث الأهم الذي خلفه بيجوفيتش للمكتبة الإنسانية والإسلامية هو كتاب "الإسلام بين الشرق والغرب". لقد كان هذا الكتاب ثمرة تزاوج بين شخصيته الروحية العميقة المنتمية إلى الإسلام من جهة، وبين انفتاحه على الفلسفات الإنسانية وسعة مطالعته للتاريخ الإنساني من جهة أخرى. وقد تجلى هذا التزاوج بدءا من العنوان الذي جمع بين الشرق برمزيته الروحية والغرب برمزيته المادية، وصولا إلى الموضوعات المطروقة في هذا الكتاب، والتي لا يرى المفكرون فيها عادة ما رأته بصيرة بيجوفيتش، فرأى الموسيقى والفن بل وحتى الفلسفة العدمية أدواتٍ تثبت قضية الإيمان.

تمثل الخط العام لفكر بيجوفيتش في إثبات "الطبيعة الثنائية" للإنسان، فهو يتضمن كلا البعدين المادي والروحي، والحاجات البيولوجية للإنسان في أصلها مقدسة وليست مدنسة، والله يتجلى في الفن والثقافة والموسيقى والدراما الإنسانية. وفي ذات الوقت، فإن هذا الكائن يحمل أشواقا روحية ويتطلع إلى العروج نحو السماء، وإهمال هذه الحاجة الروحية العميقة يقود الإنسانية إلى الإخفاق والشقاء.

يرفض بيجوفيتش النزعة الأحادية التي تتسم بها الفلسفات العالمية السائدة، فهو يرفض في آن واحد أحادية المادة وأحادية الدين. إنه يثبت قصور تفسير نيوتن ودارون للكون بطريقة آلية وحيوانية، وفي ذات الوقت يثبت قصور الدين، قاصدا البعد الروحي المجرد المنسحب من الحياة. ويرى الإسلام مركبا فريدا جمع بين المادة والروح، فالوضوء مثلا هو فعل طهارة مادية وفي ذات الوقت هو تطهر روحي، والأمر بالقتال هو فعل مادي يتعلق بالاجتماع البشري؛ لأن اللا عنف أقرب إلى جوهر الدين الروحي.

ربما قاد تدفق المعاني من قلب بيجوفيتش إلى ابتكاره مصطلحات خاصة ليصب في قوالبها المعاني التي فاض بها قلبه، لذلك نجد في كتابه استعمالات جديدة لمصطلحات نستعملها عادة في سياق إيجابي، لكن بيجوفيتش يحملها إيحاءات سلبية، مثل كلمات "الدين، العلم، الحضارة، التقدم".. وذلك لأنها وفق فلسفته تختزل الإنسان في بعد واحد، بينما الإنسان ثنائي الطبيعة يجمع بين المادة والروح، وسيكون من اليسير على القارئ حين يبحر في الكتاب أن يفهم الدلالة الوظيفية لتلك الكلمات، وأن بيجوفيتش لا يقصد إبطال المعنى الإيجابي الذي نعرفه، بل يقصد تبصيرنا بآفاق أوسع وتنبيهنا إلى البعد الغائب.

تزامنا مع رفض النزعة الأحادية، فإن بيجوفيتش يعزز في كتابه مفهوم "ثنائية القطب" الذي يراعي الطبيعة المزدوجة للإنسان، هذه الطبيعة تظهر في التراث الإنساني في كل اللغات: "كلمة الإنسان لها في عقولنا معنى مزدوج، فنقول: "نحن أناس" بمعنى أننا مذنبون ضعفاء، ونقول "لنكن أناسا" للتذكير بأننا كائنات أعلى وأن علينا التزامات أعلى، وألا نكون أدنياء".

تتمثل فلسفة بيجوفيتش في أنه ينقد الفلسفة المادية من الداخل لا من الخارج، وقد تبدت فطنته في أن يستدل من العدمية على ضرورة وجود الإله:

"إن العدمية ليست إنكارا للألوهية بقدر ما هي احتجاج على حقيقة أن الإنسان غير ممكن وغير متحقق. هذا الموقف ينطوي على فكرة دينية لا فكرة علمية عن الإنسان وعن العالم. فالعدمية خيبة أمل بسبب غياب الخير من العالم، فكل شيء تافه وعدم ما دام الإنسان يموت إلى الأبد. إن الفلسفة العدمية تعبر عن القلق.. الإنسان غريب في هذا العالم سواء عند العدمية أو في نظر الدين.. والفرق أن العدمية تعتبر الإنسان ضائعا بلا أمل، وأما الدين فإنه ينطوي على أمل في الخلاص".

يناقش بيجوفيتش نظرية التطور، لكن من زاوية فلسفية، فهو لا ينشغل بإبطالها علميا، إنما ينبه إلى بعد مفقود لا يمكن لنظرية التطور تفسير الإنسان به:

"نقول إن الإنسان قد تطور وهذا صحيح، ولكنه يصدق فقط بالنسبة لتاريخه البشري الخارجي، إذا تخيلنا تطور ذكاء الإنسان إلى أعلى درجة فسيكون ذلك عن طريق إشباع حاجاته بطريقة أكثر ذكاء وأفضل تنظيما، أما أن يضحي الإنسان بنفسه من أجل الآخرين أو أن يرفض بعض رغباته أو أن يقلل من حدة ملذاته الجسدية، فكل هذا لا يأتي من ناحية عقله".

يكرس بيجوفيتش مساحة مهمة في أفكاره لبحث تميز الإنسان على الحيوان وما هو البعد الإضافي:

"ليس الذكاء هو ما يميز الإنسان، أصل الذكاء حيواني وليس إنسانيا. يعتبر مجتمع النحل أفضل مثال على دقة التنظيم في الحياة الاجتماعية التي تخلو تماما مما نسميه عادة بالإنسانية، كحماية الضعيف والمعوَّق والحق في الحياة والتقدير".

"ليس في الإنسان شيء غير موجود في الحيوانات. فهناك شعور وذكاء ووسائل اتصال، وهناك الرغبة في إشباع الحاجات والالتحاق بمجتمع وبعض أشكال الاقتصاد. بالنظر إلى هذه الزاوية، يبدو الإنسان مشتركا بشيء مع عالم الحيوان.

لكن ليس في عالم الحيوان شيء ما يشبه، ولو بشكل بدائي، الدين أو السحر أو المسرح الدرامي أو المحرمات أو الفن أو المحظورات الأخلاقية".

بالنسبة للحيوان تبدو الأشياء على ما هي عليه، أما بالنسبة للإنسان فإن الأشياء لها عنده دلالات متخيلة. من اليسير أن تفهم منطق حيوان يقاتل من أجل البقاء، فماذا عن الإنسان البدائي؟ قبل الذهاب للصيد كان الصيادون البدائيون يخضعون أنفسهم للصيام والصلوات، ويمارسون رقصات خاصة، وتحدث أحلام معينة وتراعى علامات خاصة، ويمثلون الحيوانات التي يأملون في قتلها قبل الشروع بالصيد معتقدين أن للتمثيل أثرا حاسما في نجاح الصيد".

حتى لو بدت هذه الأفعال غريبة، فإن بيجوفيتش يتخذها برهانا "للتعبير عن الخصوصية الجديدة الملازمة للإنسان، وهي مصدر كل تدين، كما مصدر الشعر والفنون وتشير إلى أصالة ظهور الإنسان".

كلمات مثل الخير والشر لا تنتمي إلى العالم المادي، ولا بد أنها تدلل على الجوهر السماوي في الإنسان:

"لو كنا حقا أبناء هذا العالم فلن يبدو لنا فيه شيء نجس أو مقدس، فهذه أفكار مناقضة للعالم الذي نعرفه. وهي برهان على أن لنا أصلا آخر لا نتذكر شيئا عنه".

إن هذا الجانب من الإنسانية (الخير والشر، والصراع الدائم بين المصلحة والضمير، والتساؤل عن وجودنا..) يظل دائما بدون تفسير عقلاني. من الواضح أن الإنسان لم يستجب للعالم بالطريقة الداروينية.

موقف بيجوفيتش من الحضارة يمثل معنى عميقا يحطم به صنم الحضارة المعبود في العصر الحديث، إنه يبدي انحيازه إلى الثقافة لا إلى الحضارة، فهو لا يرى أن مسار "التقدم الحضاري" يلبي حاجات الإنسان بالضرورة:

"الحضارة هي استمرار للتقدم التقني لا الروحي. الحضارة ليست في ذاتها خيرا ولا شرا، وعلى الإنسان أن يبني الحضارة تماما كما أن عليه أن يأكل ويتنفس. إنها تعبير عن الضرورة، أما الثقافة فهي الشعور الأبدي بالاختيار والتعبير عن حرية الإنسان".

الفن طريقا إلى الله:

يقول بيجوفيتش: "يوجد عالمان: عالم للآلة وعالم للموسيقى، لا يمكن ردهما إلى أصل واحد".

العلم يهدف إلى اكتشاف القوانين واستعمالها، أما العمل الفني فإنه يعكس النظام الكوني دون أن يستفسر عنه.

"إن إنكار الداروينية للخلق، هو إنكار شديد التطرف ليس للدين فحسب، وإنما أيضا للفن والأخلاق.

في هذه النقطة الحاسمة تكمن الوحدة الأولى بين الدين والفن، وفي الوقت نفسه الهوة المطلقة بين الفن والعلم.

العلم والفن فيهما يكمن جوهر الاختلاف بين نيوتن نبي الكون الآلي، وبين شكسبير الذي يعرف كل شيء عن الإنسان. قضية المصير الإنساني وغربة الإنسان في الكون وهشاشته والموت والخلاص من هذه المعضلات، كل ذلك لا يمكن أن يكون موضوع علم من العلوم، لكن الفن حتى لو حاول فإنه لا يمكنه التغاضي عن هذه القضايا.

هذه الخصوصية الجوانية للفن تنعكس في حقيقة أخرى متميزة وهي أنه لا يوجد في الإبداع الفني مجال لفريق عمل، فكل عمل فني مرتبط على الدوام بشخصية الفنان. والعمل الفني من حيث هو إبداع هو ثمرة للروح، ومن ثم فهو فعل لا يتجزأ، أما موضوع العلم فهو أجزاء وتفصيلات ففريق العمل ممكن".

ماذا عن الحرية؟

يؤكد بيجوفيتش على قيمة الحرية الإنسانية كونها البيئة الضرورية لتجلي روح الإنسان:

"كانت روسيا في القرن التاسع عشر دولة فقيرة ونصف جاهلة، ومع ذلك استطاعت أن تقدم للعالم بوشكين وتشيكوف وتولستوي ودستويفسكي وتشايكوفسكي. أما اليوم، ونحن في النصف الثاني من القرن العشرين، فلا تستطيع أن تشير إلى فنان واحد أو كاتب واحد على مستوى الكتَّاب والروَّاد في الأدب الروسي. لقد بدأ صعود نجم العِلم السوفييتي وانحطاط الفنون بعد قيام الثورة. فقد أنجبت روسيا السوفييتية علماء طبيعة وعلماء ذرة وسياسيين ومنظمين، ولكن لا شعراء ولا رسامين ولا مؤلفي موسيقى".

يرى بيجوفيتش أن الدين ضروري لاكتشاف الإنسان:

"كل شيء يمكن اكتشافه في الطبيعة فيما عدا الذات الإنسانية. إننا نتصل، فقط من خلال هذه الذات، باللانهائي، ومن خلالها وحسب نشعر بالحرية وندرك العالم الآخر الذي نتشارك معه في ميراث واحد. الإنسان وحده فقط، يستطيع أن يشهد بوجود عالم الأرواح والحرية. وبدون الذات، يستحيل أن يشهد عالم ما وراء الطبيعة".

twitter.com/aburtema