أخبار ثقافية

هوبز: من التسامي الديني إلى التسامي الدنيوي

الفيلسوف توماس هوبز
الطابع الفردي للإيمان الذي فرضته الحركة البروتستانتية، شكل هزة قوية للمجتمع الأوروبي وتقاليده، فنشأ على الفور رد فعل محافظ حمل في خطابه مقولات تنتمي للحداثة من أجل احتواء التمردات، ولذلك اعتبرت هذه الخطوة بمثابة ثورة مضادة تحمل في مضمونها إصلاحا دينيا-سياسيا من قلب التقاليد الكاثوليكية لمواجهة الحركة الإصلاحية البروتستانتية الناشئة.

وكان المطلوب من الثورة المضادة، إنشاء جهاز متسام قادر على ضبط الجمهور ونزعاته الفردية التحررية في الشق الديني قبل أن تنتقل النزعة الفردانية إلى المجال السياسي.

وفي مجتمع تهيمن عليه الأيديولوجيا الدينية الشمولية لقرون، كان من المستحيل الانتقال من مجتمع محكوم بأوامر الله ونواهيه إلى مجتمع خال من الدين ومن الله، ولذلك كان لا بد أن يكون هذا الانتقال تدريجيا، وكان لا بد أيضا من إحلال العقل والنظام الأرضي المتسامي محل التسامي الإلهي.

نشأت ثنائية جديدة (الإنسان مقابل العقل والنظام) حلت محل الثنائية القديمة (الإنسان مقابل الله).

إن مقابلة الإنسان بالعقل والنظام لم تكن تعني سوى مقابلة الإنسان بجهاز أرضي متسامي يقول هاردات ونيغري، وهذا الجهاز المتسامي (الدولة) شكل وسيطا أرضيا بين الإنسان والله، وهكذا نشأت الهوية الروحية للأمة كبديل عن الجسد الإلهي للملك.

في هذا السياق التاريخي نشأ الحكم المطلق في أوروبا كمرحلة زمنية تتوسط بين العصور الوسطى وتراتبيتها الدينية وبين الحداثة الفردانية والدولة القومية.

الأصول الطبيعية للسلطة

كان توماس هوبز 1588 ـ 1679 مسكونا بهاجس الحرب الأهلية التي ضربت إنكلترا منتصف القرن السابع عشر، والتي انتهت بإعدام الملك تشارلز الأول.

بدأ هوبز كأحد أهم فلاسفة العقد الاجتماعي في إنشاء نظرية في الدولة، وكان لا بد أن يوضح كيف نشأت الدول كنتاج لتوافق الأفراد فيما بينهم ضمن ميثاق / عقد نشأت من خلاله السلطة السياسية.

مزج هوبز بين فردانية اجتماعية وملكية مطلقة، وتظهر الفردانية بشكل واضح في حالة الطبيعة حيث الأفراد متساوون لأن الطبيعة ذاتها جعلت الأفراد متساوون، كما تظهر الملكية المطلقة في الصلاحيات المطلقة التي أعطاها هوبز للحاكم.

اعتبر هوبز ليبراليا لاعتماده على مقولات الليبرالية السياسية وأهمها الفرد، لكنه لم يعتبر ليبراليا من الناحية الدينية، فهو لم يكن مهتما بمسألة التسامح كما فعل لوك لاحقا، بالمقابل لم يعتبر هوبز من دعاة الحكم المطلق الإلهي، لأن أساس ومصدر السلطة عنده أرضي نتيجة توافق الناس، وليس سماويا أو حقا إلهيا أعطاه الله للحاكم، وهذه النقطة الأخيرة هي التي كانت وراء حرق كتبه ووراء رفض آل ستيوارت لأفكاره.

يمكن اعتبار هوبز الفيلسوف السياسي الأول الذي قدم نظرية متكاملة حول أصل السلطة باعتبارها صناعة إنسانية وليست معطى طبيعيا أو حقا إلهيا.

ميز هوبز بين الحالة الطبيعية THE STATE OF NATURE والحالة المدنية THE STATE OF CIVIL: الأولى هي مرحلة كانت قبل نشوء المجتمعات، في حين جاءت الثانية بعد تشكل المجتمعات، وحالة الطبيعة أو الفطرة هذه ليست حالة واقعية موجودة في التاريخ، بقدر ما هي حالة ذهنية اخترعها هوبز كأداة استقصائية لاكتشاف الطبيعة الإنسانية، أو هي مبدأ شارح وليست أطروحة تجريبة تاريخية، لكن غنار سكيربك SKIRBEKK GUNNAR ونلز غيلجي NILS GILJE وليو شتراوس LEO STRAUSS وجوزيف كروبسي JOSEPH CROPSEY يذهبون إلى أن هوبز قد اعتقد بوجود هذه الحالة تاريخية.

لكن في حين ذهب سكيربكك وغيلجي إلى أن حالة الطبيعة هذه قد استقاها هوبز من بعض مناطق إنكلترا في زمانه، حيث كان مجرد البقاء هو هدف الصراع لكثير من الناس، ذهب شتراوس وكروبسي إلى أن حالة الطبيعة في نظر هوبز قد تكون موجودة في أماكن عديدة من أمريكا.

وتكمن أهمية حالة الطبيعة لا في كونها واقعة تاريخية، وإنما في الغرض الأيديولوجي منها، ذلك أن فهم حالة الطبيعة بشكل صحيح وفهم سلوك البشر أو بالأحرى فهم الطبيعة البشرية في جوهرها، يسمح لنا بتشكيل النظام السياسي الصحيح، هذا هو السؤال الكبير لدى هوبز، وهذا هو الغرض الرئيسي من كتابه "اللفياثان".

الناس متساوون في حالة الطبيعة ـ هي حالة ما قبل تشكل المجتمعات ـ ولما كانوا كذلك، فإن ثلاثة أسباب تجعلهم يقاتلون بعضهم بعضا:

نجد في طبيعة الإنسان ثلاثة أسباب أساسية
للصـدام: الأول هـو المنـافسة، والثـاني عــدم
الثقة، والثالث المجد.

الأول يجعــل البشـر يغـزون لتحقيـق الكســب، 
والثــاني مـن أجــل الأمـن، والثــالث مـن أجـل
السمعة.
فـــي الأول يستخـدم النـــاس العنـــف ليجعلـــوا
مـن أنفسهـم سـادة علـى الآخرين، وفي الثاني
ليــدافعـوا عـن أنفسهـم، وفي الثـالث مـن أجـل
أمور تافهة.

مـن هنـا يتضـح أنه فـي الـوقت الـذي يعيش فيه
النـاس دون سلطة مشتركـة تبقيهم جميعـا فـي
الرهبة، يكـونـون فـي الحالة التـي تسمـى حربا،
وهـي حرب بين كـل إنسـان وكـل إنسـان آخـر.

العقد الاجتماعي

أمام هذا الوضع يتعهد الأفراد بالتنازل عن حقوقهم في السلطة لشخص يمتلك كامل السلطات ويجسد إرادة الأفراد كلها، إنه نوع من وحدة الجميع الفعلية في شخص واحد. 

ومن المهم الانتباه إلى نقطة في غاية الأهمية، وهي أن الاتفاق أو العقد يجري بين الأفراد فيما بينهم لاختيار طرف ثالث توكل إليه السلطة، بمعنى أن الطرف الثالث هذا ليس جزءا من العقد الاجتماعي.

كمـا لو كان كل فرد يقـول للآخر: إنني أخول هـذا
الرجل أو هذه المجمـوعـة من الرجال، وأتخلى له
أو لهـا عـن حقـي فـي أن يحكمنـي أو تحكمنـي،
شـرط أن تتخلـى لـه أو لهـا أنت عـن حقـك وتجيز
أفعاله أو أفعالها بالطريقة عينها.

وإن المجمـوعـة المجتمعـة علـى هـذا النحـو فـي
شخص واحـد، تدعــى دولـة، هـذا هـو جيـل هــذا
اللفيـاثـان الكبير أو بالأحـرى هـذا الإلـــه الفـانــي
الذي ندين له بالسلام والدفاع.

توضح هذه الفقرة أن كل شخص يقوم بنقل حقه الكلي عن كل شيئ لصالح الشخص المكلف بالسلطة، وهذا يعني أن عملية نقل الحقوق هي عملية فردية لا جماعية، لأنه لم توجد بعد إرادة جماعية.

إن هوبز بذلك يؤسس لحكم مطلق، ضاربا عرض الحائط بمفهوم السيادة عند بودان، والقائمة على ثنائية الشعب / السيد. 

كما توضح الفقرة أن الحاكم ليس جزءا من العقد، وبالتالي غير ملزم بأية عهود أو التزامات تجاه الأفراد، باستثناء حقهم في الحياة.

وأخيرا توضح الفقرة أن هوبز يماهي بين الدولة وشخص الحاكم، فلا وجود بعد للسيادة المجردة ذات الشخصية الاعتبارية.

لم يكن هوبز معنيا كثيرا بمسألة الحقوق والحريات كما سيفعل لوك من بعده، ولا كان معنيا بالتنظير للسيادة والإرادة العامة كما سيفعل روسو لاحقا، لقد كان هوبز مسكونا بتحقيق الاستقرار كما كان الأمر عند مكيافيلي، والفرق بينهما، هو أن الأخير وضع خارطة طريق للأمير لكي يحافظ على سلطته وبالتالي الحفاظ على الدولة، أما هوبز فقد وضع خارطة طريق نظرية للأفراد للانتقال من حالة الطبيعة إلى حالة المجتمع.

لكن، لا يعني ذلك أن الحاكم الجديد مطلق التصرفات وأن الشعب أصبح عبدا له، لا، فالحكام له واجبات، لا بحكم العقد الاجتماعي المبرم الذي هو خارجه، وإنما بحكم قانون الطبيعة الذي هو قانون الله.

الحاكم المطلق غير محروم من حقـه فـي أي
شـيء، إلا أنـه فـرد مـن رعـايا الله، فهـو ملـزم
باحترام قوانين الطبيعة.

إن فكرة الخير العام التي حكمت العصور الوسطى ما تزال حاضرة في فكر هوبز، وهذا يشير إلى أنه لم يتخلص نهائيا من التأثير الديني ـ على الرغم من كرهه للهيمنة الكنسية ـ وفكرة الخير العام تعني تحقيق الاستقرار والأمن للمجتمع والمساواة أمام القانون والعدالة وحرية الضمير، وبالتالي، فإن السلطة المطلقة للحاكم ليست موجهة ضد الشعب إلا في حالة الفوضى والتخريب.

وتأتي حالة الفوضى من وجهة نظر هوبز أكثر ما تأتي من التفسيرات الخاطئة للمسيحية ولدور الكنيسة، ولذلك خصص في كتابه "اللفياثان" فصولا عدة لبحث هذه المسألة، ولبحث دور المسيح، وقد خلص إلى أن كل الكهنة في الدولة المسيحية هم كهنة صاحب السلطة، ويستمدون سلطتهم من سلطته، فهو الكاهن الأكبر المخول بتفسير الكتاب المقدس، إنها الدولة، الإله الفاني، وهذا الأخير من حقه أن تعيد ترتيب المؤسسة الدينية وتعيد ترتيب الإيمان إن اضطرت إلى ذلك.

وليس مهما ما إذا كان هوبز يفتقد لقوة معتقد ديني صحيح أم لا، المهم بالنسبة له أنه لا يمكن لأي شخص أو مؤسسة أن تعلو فوق سلطة الحاكم وبالتالي فوق الدولة، وأن هذا التبرير ناجم من قوانين الطبيعة التي تستمد مشروعيتها من قوانين الله الأبدية.

وقد جانب الجابري الصواب حين قال إن هوبز قلب الوضع رأسا على عقب، فجعل الدولة من مملكة الإرادة الإلهية، وجعل الكنيسة من مملكة القانون المدني، لقد عمل على تقديس الدنيوي ودنيوة المقدس، إنه التنظير الفلسفي للاستراتيجية الإنجليكانية التي أسسها ملك إنكلترا هنري الثامن في ثلاثينيات القرن السادس عشر.

تكم أهمية هوبز في تاريخيته الفكرية، بعكس مكيافيلي حي تكمن أهميته الفكرية في أنه لم ينظر لمرحلة تاريخية بعينها، وإنما نظر للسياسية وأساليبها العابرة للتاريخ.

لقد أنشأ هوبز جهازا متساميا يعلو فوق الجميع وبوتقة صهر للجميع في نفس الوقت، وبفصله الحالة الطبيعية عن الحالة المدنية، يكون هوبز قد فتح الباب للتقدم نحو المواطنة لا بمعناها القديم القائم على الامتيازات وإنما على أساس المواطنة الحديثة بغض النظر عن الانتماءات الفرعية، لأن أساس المواطنة هو تحقيق الانتماء لجميع الأفراد الذي أصبحوا غير متساوين لحظة انتقالهم إلى الحالة المدنية.