أخبار ثقافية

كيف يُعرّي الأدب ما تستره السياسة؟

الروائي المغربي محمد شكري

"أنا إنسان عاش التشرد.. أكلت من القمامة ونمت في الشوارع، فماذا تنتظرون مني؟ أن أكتب عن الفراشات؟" الروائي المغربي محمد شكري.


من هم التعساء؟ البشر الذين ولدوا فقراء؟ الذين ولدوا فقراء لآباء أشرار متحجري القلوب، يوسعونهم ضربا كلما أفرطوا في الشراب؟ أم هؤلاء الذين حرموا، قسرا، من التعليم ففقدوا فرصة الحصول على دخل مناسب؟ أم الجوعى الذين اضطروا إلى التفتيش عن لقمة في المزابل حتى يسكتوا ضجة أمعائهم الخاوية؟

 

مهما كان تعريفنا للشقاء، يستطيع محمد شكري مفاجأتنا بمستويات أشد إيلاما ورعبا من الشقاء، كلما مضينا في قراءة رائعته "الخبز الحافي" التي هي سيرة ذاتية روائية، تليق بفرادة شكري، ذلك الكاتب الذي يكاد يتفرد بين مبدعي جيله، وربما مبدعي العالم أيضا، بقدومه من العالم السفلي بعد حياة استمرت عشرين عاما من الانغماس في الشقاء، ثم إصراره على فتح صفحة جديدة في حياته، بتعلم القراءة والكتابة، ثم العمل في التدريس ونشر بعض القصص والروايات التي أحدثت زلزالا في أفق المتلقي العربي، بكل ما حملته من تعرية قاسية لواقعنا الذي ينكره رجال السياسة وصناع الإعلام.


ربما يكمن مفتاح تلك الرواية التي يصعب على قارئها تركها منذ الصفحات الأولى، إلا بعد الانتهاء من قراءتها؛ ربما يكمن مفتاحها في تلك التعرية الفجة، الصادمة، التي تمحق تماما "صورتنا" عن ذواتنا أفرادا ومجتمعات.


في السنوات العشرين الأولى من عمره، التي تغطيها الرواية، يهدم شكري بضع مسلمات: الأب ليس دائما مصدر الأمان والرعاية، بل كان أبوه مصدر شقاء مرعب، حتى إنه قتل أحد أطفاله في إحدى لحظات جنونه لمجرد أن الطفل بكى من شدة الجوع. حدث ذلك أمام عيني شكري وأمه. كما أن ذلك الأب ظل كالإسفنجة، يمتص أي فلس تربحه الأم الكادحة من بيع الخضار في السوق، أو يربحه شكري في عمله الطويل في مقهى، ثم يبدد الأب المال في الشرب ليعربد ويفتك بالتعيس الذي يراه من أسرته، بسبب الإفراط في الشراب.


توشك الدموع أن تطفر من عين أي إنسان يقرأ وصف شكري لحزنه الطفولي الحار على شقيقه المريض الذي ضربه أبوه حتى الموت، أو يتجول مع شكري بين المزابل مقارنا بين أكوام قمامة الأحياء المغربية التي أنهكتها المجاعة وأكوام قمامة الأحياء الأوروبية التي قد يعثر فيها على كنز، عبارة عن دجاجة ميتة، مثلا، مما لا يجرؤ أهل طنجة على التخلص منه لشدة جوعهم.


نمضي مع شكري. ومحطة بعد أخرى، نكتشف طبيعة المجتمع العربي؛ طبيعته الحقيقية التي لا نسمع بها في وسائل الإعلام الرسمية. حتى في بيوت الدعارة مثلا، يحكي شكري عن صديق تركي ضربه رجلان من أهل الحي لأنه أراد ممارسة الدعارة مع فتاة مغربية، فقد ظنوه مسيحيا لأنه لا يجيد العربية. وحين صحبه شكري إلى بيت دعارة يعرفه ارتابت القوادة في ملامح صديقه الأشقر فلم تقبل باستضافته إلا حين حلف لها أنه مسلم، ونطق الشهادتين أمامها، وحين أفهمها شكري أن في العالم شعوبا مسلمة غير عربية.


ثمة فلاسفة كثيرون نظّروا لطبيعة التأثير الاجتماعي للأدب، وكيف يمكن للمبدع أن يكشف عن طبيعة مجتمعه، وكيف تتفاعل البنى التحتية للمجتمع (من وسائل الإنتاج وعلاقاته) بالبنى الفوقية كالثقافة والأفكار السياسية والفلسفية، لكن ربما يكون شكري قد قدم إسهاما هائلا في كشف العلاقات الحقيقية لتسلط الأقوياء على المهمشين والفقراء، بلا ذرة من رحمة.


ثمة شعارات سياسية وأخلاقية كاذبة يستر بها المجتمع حقيقته، بينما تسوده علاقات مناقضة تماما، قاسية، بشعة إلى الحد الذي اضطره هو نفسه إلى بيع جسده لرجل عجوز مقابل مبلغ زهيد يسد به جوعه، بعد أن كاد ينهار تحت وطأته، إثر هروبه من منزل أسرته خوفا من أبيه الذي توعده بضرب مبرح، طالما كابد آلامه. لهذا السبب، لم تنشر الرواية بالعربية إلا سنة 1982، رغم نشرها مترجمة إلى الإنجليزية والفرنسية قبل ذلك بعشر سنوات. وحين نشرت النسخة العربية منعتها دول عربية عديدة.


لا أحد يحب حقيقته!

 

صكّ الفيلسوف المجري جورج لوكاش مصطلح "التشيّؤ"، وعنى به تَحوُّل العلاقات بين البشر إلى علاقات بين أشياء، أي تحولها إلى علاقات آلية غير إنسانية، قابلة للتفاوض على ثمنها، فالعمال مثلا يُنظر إليهم كأنهم ماكينات آلية، وتحدد أسعارهم لا باعتبارهم بشرا، بل أشياء؛ مجرد أشياء يمكن مبادلتها أو دفع ثمنها ببساطة.


لا أدري إن كان شكري قد قرأ المصطلح الذي اشتهر في سياق الفكر الفلسفي المعاصر، لكنه أيضا يعبر عنه بصدق مؤلم. نشعر أن شكري، في طفولته وشبابه، كان يفكر في جسده هو كأنه بضاعة تباع وتشترى، وكذلك أجساد من عايشهم من أبطال القاع الذي لا يراه إلا المنغمسون في وحله.


من هذا المنظور القاتم لا يخجل شكري من سرد وقائع كثيرة يخجل منها الإنسان العربي الذي أنقذته الظروف من ذلك القاع. فهو مثلا يحكي وقائع كثيرة لسرقاته، ومعاركه مع بشر حاولوا الاعتداء عليه أو سرقته، حتى إنه يكشف عن علاقات غريبة، قد لا نتصورها، مثل علاقته مع صاحب قارب، اتفقا على تأجير قاربه لبيع بضاعة للجنود الفرنسيين القادمين المارين بميناء طنجة، في طريقهم إلى الجزائر.


ورغم اتفاق شكري مع صاحب القارب على كافة التفاصيل المالية، ورغم مضاعفة أجرته بسبب قوة الريح التي جنحت بقاربه إلى موضع بعيد عن الذي انطلقا منه، فقد استشعر شكري أن صاحب القارب يضمر له شرا لمجرد أن مع شكري مالا مغريا، ربحه من بيع بضاعته للجنود الذين تسلق إلى سطح سفينتهم، ثم قفز عائدا إلى القارب. كان شكري وصاحب القارب متعاونين، متفاهمين تماما طوال المغامرة، ثم في نهايتها أراد صاحب القارب سرقته، فاشتبكا في معركة دامية، انتهت بإصابة صاحب القارب إصابة بالغة.


هكذا لا يكاد إنسان القاع يعرف عدوه من صديقه أو شريكه، أو بالأحرى لا صداقة دائمة أو راسخة في ذلك العالم القاسي. ما دام البشر جوعى، كيف يمكنهم الاتكاء على علاقات حقيقية راسخة؟ ولئن كان عالم شكري هو ذلك العالم السفلي البعيد، فهو لم يكد يذكر أحدا من المثقفين إلا واحدا، كان صديقه ومترجم الصحف له، لكنه عاد وتكبر على شكري حين غضب عليه، فوصفه بالأمي؛ ما أغضب شكري فاندفع ليضربه لولا أن خلصهما الأصدقاء المشتركون، وأصلحوا بينهما.


ولد شكري في منتصف تموز/ يوليو 1935، ورحل في منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر 2003.