قضايا وآراء

لبنان: أيام عجاف

1300x600
غريبة هي الأحوال والتقارير الدولية والمؤتمرات المنعقدة لأجل لبنان، البلد الذي يُجمع المسؤولون الدوليون على فساد ساسته حتى العظام، وتعاسة أبنائه وقاطنيه حتى النخاع. ولا أدل على ذلك من العقوبات الأمريكية المتوالية فعليا من الإدارة الحالية؛ التي على ما يبدو مستمرة في مسيرة العقوبات عبر قانوني ماغنتسكي وقيصر اللذين ما برحا يزيدان المشهد المعقد تعقيدا.

والحقيقة أن السفيرة شيا الفجة بحسب الكثيرين؛ تمارس سطوتها تهديدا علنيا بين لغة الترهيب والترغيب مع الجميع بلا استثناء، من بعبدا والضغط في ملف الترسيم؛ إلى عين التينة والتهديد القائم بالعقوبات، في إجادة لاستخدام منطق الابتزاز السياسي وبيت الوسط، فتسمع لغة القبول والمنع حكوميا لتبلغ أسوار قصر الإليزيه؛ حيث اختلاف الرؤى الفرنسية- الأمريكية. أما اللغة المضمرة والمشفرة فهي لغة التقارير الصادرة حول التدقيق الجنائي وقبة الباط، وغض الطرف الأمريكي عن تقرير مفاده أن واشنطن وحلفاءها يطالبون منذ شهور بإجراء تدقيق جنائي في المصرف المركزي اللبناني، كونهم يعتقدون أنه قد يكشف أدلة على تبييض الأموال والفساد وعلاقات كبار المسؤولين اللبنانيين بحزب الله، بما في ذلك المصرف المركزي نفسه. وفي ذلك يتجلى السؤال: هل رفعت واشنطن ورقة التوت عن حاكم مصرف لبنان؟ وما المقابل القادم إن صح الكلام؟ وهل في الكلام مبالغة؟ علما أن سلامة قال بوضوح إن المصرف المركزي والمصارف اللبنانية تطبق كل الشروط الأمريكية في الامتثال والرقابة.. الخ!!

الحاكم والأمريكان.. وماذا عن بارتليت؟

وعليه خرج الحاكم ليعلن العديد من المواقف ببراءته من الفساد جملة وتفصيلا، علما أن التدقيق الشامل غير مرجح طالما أن رياض سلامة يشغل منصب محافظ المصرف المركزي بحسب الكثيرين؛ الذين هم للمناسبة يؤيدون التقرير وفحواه، لا بل أكثر من ذلك، فالبعض يرى أن ضعف رقابة المصرف المركزي ساعدت في تعزيز الفساد المستشري، الذي تم الاستشهاد به في سلسلة من العقوبات الأمريكية الأخيرة والقادمة قريبا بحسب كلام السفيرة السيدة دوروثي شيا.

ففي وقتٍ سابق من هذا الشهر، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على وزير الخارجية السابق جبران باسيل، صهر الرئيس اللبناني ورئيس التيار الوطني الحر، قائلةً إنه يمثل الفساد المنهجي في النظام السياسي اللبناني. وقد رد الوزير باسيل بأنه اتهام سياسي وثمن تحالفاته الداخلية والخارجية فقط.

وأسهب المسؤولون الأمريكيون بقولهم إن المصرف المركزي كان له دور محوري في تمويل حزب الله، بما في ذلك الهجمات ضد الولايات المتحدة وحلفائها.

وهنا يبرز مجددا موضوع قضية بارتليت في المحاكم الأمريكية حيث غرد النائب الأول لرئيس مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات في أمريكا (FDD) والمحلل السابق لشؤون تمويل الإرهاب في وزارة الخزانة الأمريكية، جوناثان شانزير: "بالنسبة لأولئك الذين يتابعون الاقتصاد اللبناني و"حزب الله"، سيتلقون أخباراً رئيسة هذا الأسبوع. فقضية بارتليت تمضي ضد المصارف اللبنانية، وسيتم الكشف عن بعض الأمور القبيحة في القطاع المصرفي اللبناني. ويأتي هذا في وقت سيء للبلاد".

إن هذا الواقع المستجد يمثل المزيد من الضغط على المصارف اللبنانية التي تزداد مشاكلها مع الدولة والمودعين، لتوضع في عين عاصفة الصراع الملتهب داخليا وإقليميا ودوليا.

الضغوطات المستمرة

إن القادم من الأيام سيشكل أرضية خصبة لمزيد من التخبط في كافة القطاعات الاقتصادية والمالية، وتحديدا المصرفية في ظل الضغوطات التي ستستمر أمريكيا حتى مع الإدارة الجديدة للرئيس المنتخب جو بايدن، مضافة إليها الضغوطات القادمة أوروبيا مع التصنيفات الجديدة في عدة دول لوضع حزب الله على لوائح الإرهاب، مع حالة القرف الفرنسية من التعاطي المتمادي للساسة اللبنانيين في كافة المواضيع الحرجة، خصوصا تشكيل الحكومة العالق في المعايير الكاذبة بين القصور.

إن هذه الذهنية لم ولن تنجز حكومة ضمن هذه الآليات من التفاوض، ولن تبلغ حكومة اختصاصيين أكفاء يبعثون الثقة في الداخل والخارج. كذلك إن الفرنسيين ممتعضون من حالة التحقيق في "بيروتشيما" (انفجار المرفأ) التي حتى الساعة لم تجرؤ على مسؤول واحد في انفجار العصر المودي بمئتي ضحية وستة آلاف جريح مع خسائر تعدت ثمانية مليارات دولار، إضافة إلى كوارث القطاعات الخاصة والتأمينية، وتشريد مئات الألوف من اللبنانيين في فصل البرد الذي ضرب بعض الضمائر قبل أن يضرب جنوب اللبنانيين وجيوبهم.

العجاف أيام وأيام..

إن الناظر إلى القادم من الأيام يدرك أن السنوات العجاف قادمة، ويكفي التذكير بأننا لامسنا الاحتياطي الإلزامي للعملات الأجنبية في المصرف المركزي عند عتبة 17.1 مليار دولار، وما تبقى مع سياسة الترشيد قد لا يكفي شهرا ونصف الشهر من الدعم للسلع الأساسية قبل المساس بالاحتياطي فعليا. ولا بأس من التذكير بتقرير البنك الدولي الذي حذّر من أنّ لبنان "يعاني استنزافا خطيرا للموارد، بما في ذلك رأس المال البشري، حيث باتت هجرة العقول تُمثل خيارا يائسا على نحو متزايد". ورأى أنّ "عبء التعديل الجاري في القطاع المالي يتركّز بشكل خاص على صغار المودعين" إضافة إلى القوى العاملة المحلية والشركات الصغرى.

ومنذ خريف 2019، تفرض المصارف قيودا مشدّدة على عمليات السحب بالدولار، بات معها المودعون عاجزين عن الحصول على أموالهم ومدّخراتهم. وبرزت سوق سوداء سجّل فيها سعر صرف الليرة معدلات قياسية لامست 9000 ليرة مقابل الدولار بينما لا يزال السعر الرسمي مثبتا على 1507 ليرات.

وتخلّف لبنان هذا العام للمرة الأولى عن سداد ديونه الخارجية في آذار/ مارس 2020 مما هبط بتصنيفاته الائتمانية. ورجّح البنك الدولي تراجع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بشكل حاد إلى -19,2 في المئة (سلبي) عام 2020، بعد انكماشه بنسبة -6,7 (سلبي) في المئة عام 2019. وقال إنّ انهيار العملة أدى إلى معدلات تضخم تجاوزت حد المئة في المئة، أما مؤشر ستيف هانكس فيؤكد بلوغ التضخم 365 في المئة، حيث أصبح لبنان قابعا خلف فنزويلا، والخوف كل الخوف من بلوغ الحال النموذج الفنزويلي.

الخلاصة: بين مؤتمر تحت الرعاية الأممية بالصيغة الإنسانية، وتواصل العقوبات الأمريكية، وشبه موت المبادرة الفرنسية، وظلمة النتائج الصادرة عن التقارير الدولية الاقتصادية، والإغلاق الحاصل لخروج التشكيلة الحكومية، الممزوج بقرب رفع الدعم عن السلع الأساسية المتزامن مع الشكوك في كل أرقام المالية اللبنانية.. فلم يبق للبنانين للأسف إلا أيام عجاف رديئة!!