كتاب عربي 21

البرهان يقامر مجددا ويخسر مجددا

1300x600

أصبح الفريق أول عبد الفتاح البرهان القائد العام للقوات المسلحة السودانية، ثم رئيسا لمجلس السيادة في أعقاب ثورة شعبية أطاحت بنظام المشير عمر البشير، وظل منذ سقوط ذلك النظام يسعى للإطاحة بالثورة الشعبية ورموزها حتى يتسنى له إقامة نظام عسكري يكون فيه هو الآمر الناهي المطاع، بمساعدة جنرالات لا يعصون له أمرا، لأنهم أيضا وبعد سقوط حكم البشير وجدوا أنفسهم جلوسا في قصر منيف، كانوا من قبل يحلمون بأن يتم استدعاؤهم إليه لتقديم فروض الولاء والطاعة للبشير، لأنهم يعلمون أنه لولا رضا البشير عنهم لما تسنى له تخطي عتبة "عميد".

استخدم البرهان وصحبه العنف ثم المداهنة والدهاء عديد المرات للتخلص من المدنيين الذين دفعت بهم قوى الثورة إلى صدارة العمل التنفيذي، وخاب مسعاهم لأن الجماهير زلزلت الأرض تحت أرجل كراسيهم في كل مرة، فقرروا ما يسميه السودانيون "الحَفْر" لقوى الثورة، أي الإيقاع الناعم بها واستبعادها من هياكل الحكم تماما.

وجد العسكر ضالتهم في بعض القوى التي ظلت تحمل السلاح منذ مطلع الألفية الثالثة، فقرروا ركوب موجة "السلام" من خلال التفاوض مع تلك الحركات، والتي ظلت في واقع الأمر بلا أسنان خلال السنوات الست الأخيرة، فجعلوا قيادة الطرف الحكومي في المفاوضات مع تلك الحركات بيد كل من الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد قوات الدعم السريع، وهي الجيش الموازي للجيش الوطني، ويأتمر فقط بأمر حميدتي ومن يفوضهم هو بذلك، والفريق شمس الدين كباشي الذي تسميه قوى الثورة "كضباشي" لأنه ومنذ ظهوره في المشهد العام كناطق باسم المجلس العسكري الذي سعى للانفراد بالسلطة في نيسان (أبريل) 2019 ظل يدلي بتصريحات هوائية تجافي الحقائق البائنة وتستفز قوى الثورة (الكذاب في العامية السودانية كضاب، كما أن الذًنَب يصبح ضَنَب)، وما من شخصية تجمع قوى الثورة على بغضها كما هو الكضباشي هذا.

وقام حميدتي وكضباشي بسلق اتفاق سلام وجد الترحيب "العام" باعتبار أنه حتى لو لم تعد تلك الحركات نشطة عسكريا، فاتفاق السلام يعني أنها لن تعود إلى حمل السلاح، وكان استيلاء العسكر على ملف السلام تعديا صريحا على صلاحيات مجلس الوزراء، الذي ربما رأى أن أي سلام يأتي بجهد أي جهة "خير وبركة".

وأتى فرسان السلام إلى الخرطوم، وتم استقبالهم كفاتحين، ومشبعين بنشوة الاحتفاء بهم شرع بعضهم في التماهي مع عسكر السلطة، والحط علنا من إنجاز الكيان المسمى قوى الحرية والتغيير (قحت) الذي قاد الثورة الشعبية في أصعب ظروفها، ثم تم الإعلان عن كيان يسمى "مجلس شركاء الفترة الانتقالية" الذي تراضت حوله جميع القوى السياسية، ولكن إذا ببيان للبرهان حول تشكيل المجلس وتحديد صلاحياته يجعل من المجلس سلطة فوق الحكومة التنفيذية، وبديلا حتى للمجلس التشريعي الذي كان من المفترض ان يتم تشكيله قبل شهور بعيدة ليصبح رقيبا على الحكم ومصدرا للقوانين.

منح البرهان مجلس شركاء الفترة الانتقالية صلاحيات مبهمة وحمّالة أوجه مثل "توجيه الفترة الانتقالية" و"أي سلطات أخرى لازمة لتنفيذ اختصاصاته وممارسة سلطاته"، والتوجيه مهمة من يجلس على كرسي القيادة، أو من يملك صلاحية تحديد المسارات، بينما عبارة "تنفيذ اختصاصاته" تشي بأن للمجلس اختصاصات غير معلنة، أو لم يحن وقت الإعلان عنها.

البرهان أصدر بيان شركاء الانتقال بوصفه رئيس مجلس السيادة، وجعل من نفسه رئيسا له، رغم ان الشركاء لم يجتمعوا لاختيار رئيس وتوزيع "المكاتب"، ورئاسة البرهان لمجلس السيادة موقوتة لتنتقل الرئاسة إلى شخص مدني خلال الفترة الانتقالية، ولكنه جعل نفسه رئيسا دائما لمجلس الشركاء، وجعل من رئيس الوزراء عبد الله حمدوك عضوا عاديا، وما هو أغرب من كل ذلك أن مجلس الشركاء هذا خصص مقعدين لشرق السودان الذي يضم ملايين الناس، ومقعدين لآل دقلو (حميدتي وأخوه عبد الرحيم).

 

من المؤكد أن البرهان ورهطه لن يكفوا عن محاولات تجيير الثورة الشعبية لصالح أجنداتهم الشخصية، ومن المؤكد ان قوى الثورة الشعبية في السودان يقظة وجاهزة لإجهاض تلك المحاولات، وربك يستر، لأن البرهان صار مسنودا بأربعة جيوش غير الجيش الرسمي الذي يجلس هو على قمة هرمه، ولكن مهما أوتي من قوة، فإنه ليس بقوة عمر البشير الذي عجزت أجهزته الأمنية والعسكرية عن قمع الثورة الشعبية..

 



وهكذا اكتسب مجلس الشركاء في الشارع اسم شركاء الدم، باعتبار أنه يعطي صلاحيات واسعة وغير مقيدة كثيرا للعسكر وحلفائهم الجدد من حملة السلاح، وارتفعت الأصوات من كل التنظيمات السياسية والمنظمات المدينة رافضة تركيبة المجلس وصلاحياته الهلامية، خاصة وان بعض ممثلي القوى السياسية المدنية الذين تمت تسميتهم أعضاء في المجلس ينتمون إلى تنظيمات بلا وزن حقيقي، ومن ثم تتوق للقفز إلى الصفوف الأولى لإثبات وجودها.

سارع البرهان إلى نفي وجود أي مؤامرة للالتفاف حول مجلس الوزراء ووضع سلطاته في يد الكيان الجديد، ولكن ذكاءه خانه مجددا لأن النفي تم عبر قناة "العربية" وسمع به أهل السودان مصادفة تماما كما سمعوا بأن بلادهم طبعت العلاقات مع إسرائيل من راديو تل ابيب وقناة سي أن أن. وبعدها بيومين جاء النفي من مستشاره الإعلامي العميد الطاهر أوهاجة ولكن في شكل مقال صحفي حافل بالمغالطات والمكابرة.
 
رغم إدراكه أن مجلس السيادة الذي يتولى رئاسته كيان شرفي وليس تنفيذيا في ظل نظام برلماني لا يعطي أصلا رأس الدولة ولو كان فردا واحدا أي صلاحيات تنفيذية، إلا أن البرهان يتصرف كرئيس جمهورية في ظل نظام رئاسي، وما زال ينفرد بملف العلاقات مع إسرائيل ويرسل برقيات التهنئة والشكر لرؤساء الدول، وبادر من ثم بتهنئة جو بايدن بالفوز بالانتخابات الرئاسية الأمريكية، وبعقلية "مفيش حد أحسن من حد" طالما أنه لا تعويل على الضوابط المراسيمية، قام نائبه حميدتي أيضا بإرسال برقية تهنئة الى بايدن.

صار مجلس الشركاء ذاك موضع تفاوض مجددا، ولن يكون بالصورة التي يشتهيها البرهان لأنه سيكون بلا أسنان، ومن المؤكد أن البرهان ورهطه لن يكفوا عن محاولات تجيير الثورة الشعبية لصالح أجنداتهم الشخصية، ومن المؤكد ان قوى الثورة الشعبية في السودان يقظة وجاهزة لإجهاض تلك المحاولات، وربك يستر، لأن البرهان صار مسنودا بأربعة جيوش غير الجيش الرسمي الذي يجلس هو على قمة هرمه، ولكن مهما أوتي من قوة، فإنه ليس بقوة عمر البشير الذي عجزت أجهزته الأمنية والعسكرية عن قمع الثورة الشعبية..