قضايا وآراء

محنة العثماني

1300x600
لن أقول إنها "خيبة"، ولن أتبرأ، ولن أكتفي باللوم والطعن، سأحاول أن أفهم أسباب التحول والسقوط الذي جعل رئيس الحكومة المغربية ذي المرجعية الإسلامية، سعد العثماني، يناقض نفسه وفكره ومعتقداته وينام علناً مع العدو.

الإنذار الذي قدمه لنا سقطة العثماني أكبر من أن يكون سقطة فردية، وأخطر من أن يتم الحساب عليه بالتبرؤ الفردي من شخص خرج عن ثوابت المشروع الحضاري والسياسي والحزبي المرتبط بمشروع الإسلام السياسي في عمومه.

سقوط اليسار من قبل في مصيدة التطبيع كانت له مقدمات فكرية وسياسية، باعتبار أن الفكرة الجوهرية التي سيطرت على اليسار العربي ارتبطت بشعار معولم عن وحدة الطبقة العاملة بصرف النظر عن البلدان، وبالتالي فإن أحزاب اليسار الصهيوني في "إسرائيل" مثل "راكاح" وغيره من التجمعات والحركات؛ روجت لسلام متكافئ يمكن أن يعيش فيه "الإسرائيلي" إلى جانب العربي تحت راية الاشتراكية العلمانية ورعاية العاصمة الكبرى في موسكو.

أما في حالة المشروع الإسلامي فإن المرجعية ليست شعاراً، والعاصمة الراعية ليست واشنطن ولا أي عاصمة غربية نستورد منها الفكر والمواقف والتبريرات، لذلك فإن "خطوة العثماني" تستدعي الكثير من الأسئلة التي يجب أن لا نعبر عنها تحت غطاء زاعق من المواقف التبرؤية والتطهرية على المستوى الفردي. فعندما يتداعى عمود في بناء، فإن الأمر يتجاوز الحديث الحصري عن العمود وسقوطه؛ إلى مصير المبنى كله وضمانات أمانه.

ولنتذكر أن سقوط لطفي الخولي وطابور طويل من بعده في اليسار المصري انتهى إلى تحول أحزاب وتنظيمات اليسار إلى "توكيلات أمنية"، أو تشكيلات سياسية هامشية بلا قدرة على التأثير أو إنجاز أي تغيير، فأقصى حدود الجيد منها هو التعبير، أو القيام بوظيفة "المتحف" حيث يمكن الحفاظ "الأنثربولوجي" على الخطاب اليساري من الانقراض.

لا أسعى للمقارنة بين مدارس أو نماذج أو مشاريع بطريقة التفضيل أو الإزاحة، لكنني ممن يعتبرون أن المشروع الإسلامي برغم كل الملاحظات على تشكيله البنيوي والجماهيري والفكري هو ابن البلاد ونسيج حضارتها ونبتها الطبيعي، على عكس المشاريع المستوردة من الخارج سواء كانت ليبرالية أو شيوعية.

هذا هو الفارق الجوهري بين النموذجين حتى لو تشابهت الأهداف التي تطرحها شعارات الحرية والعدالة والتنمية، فالشعارات الإنسانية تبدو صحيحة في ظارها، حتى نبدأ في وضع الخطط لتطبيقها وبيان الممارسة الحياتية لهذه الشعارات في الواقع، وبالتالي فإن فكرة "المهادنة" و"التعامل مع العدو" قد تكون مفهومة كشعار، لكن المشكلة تبدأ عند تطبيق هذا الشعار:

هل هو في صالح مشروعك أم لصالح العدو؟

هل يقتضي التعامل تفريطاً في الثوابت العقيدية والموقفية؟

هل يؤدي التحول إلى تعميق ارتباطك بمشروعك الحضاري والاستفادة من "الهدنة" أم أنه استسلام مغطى بحلو الكلام، وتخل عن الاستراتيجي لصالح جارية وبعض الثريد ووظيفة جديدة في بلاط العدو؟

الكلام الدائر في ماكينة التبرير للأنظمة الساقطة ينفي التفريط في القدس والقضية والفلسطينية، ويزعم أن احتضان نتنياهو ضرورة لإتمام الصفقة. لكن ماذا عن القراءة الأعمق لتصريحات الساقطين ودفاعهم عن سقوطهم بحجج مواكبة التغيير واللحاق بأرباح السوق المفتوح؟

الأمر خطير ومتعدد المستويات ويضع الكثير من الخمر والسم في مرق الجائعين.

السؤال الأول الذي شغلني في موقف العثماني هو كيفية الحساب عند تعارض الوظيفة مع العقيدة. بحكم الوظيفة فإن العثماني لا يملك أكثر مما فعل، فإذا كان لديه موقف سياسي أو إنساني أو أخلاقي أو ديني مختلف فإنه لا يستطيع أن يحتفظ بالتفاحة بينما هو يعلن بنفسه أنه سيقدمها على طبق من فضة للملك نتنياهو كفاتحة للعمل الحر والمثمر وانتعاش طرق التجارة والدعارة..

يبدو واضحا أن الوظيفة صارت هي المرجعية وليست الفكر أو المعتقد أو مواقف الرجال المعلنة من قبل، فالرجل غير موجود، الموجود هو الموظف المستخدم بدرجة رئيس وزراء، والمستخدم ليس حراً إلا في حدود إرادة من يستخدمه، لكن إذا كان الرجال رجالاً، فلماذا يقبلون بالاستخدام الخاطئ على غير معتقداتهم وخلافا لأفكارهم ومشاريعهم المعلنة؟

إذا رغبنا في توضيح أكثر يمكننا السؤال أبعد من موقف العثماني وكل الأفراد "الساقطين" أو "المتحولين" من هذه العينة الضعيفة، بحيث نهتم بالتعرف على موقف الدول الإسلامية من القضية برمتها بعيدا عن الشعارات، لنعرف مثلا كم دولة تقيم علاقات تجارية وسياسية مع إسرائيل ثم توهمنا (بطريقة كلام العثماني) أنها ترفض "إسرائيل" وتواصل الدفاع عن القضية الفلسطينية؟

في تاريخنا المجيد استباحت بعض الممالك التعاون مع الأعداء للتغلب على الممالك الإسلامية المجاورة، وذهب أمراء بني حمدان المتأخرين مثلا إلى أبعد من ذلك في تعاونهم الاستراتيجي مع الدولة البيزنطية ضد الخلافتين السنية والفاطمية، وتكاثرت التبريرات عن التعاون مع الأعداء ضد الأشقاء من نفس الملة، وأحيانا من نفس الأسرة، فسقطت الأندلس وتفككت الحضارة التي كانت تحكم الأرض والبحر في تلك الأزمنة، وصارت إلى هذا المصير المهين.

اليوم يبدو أن التطبيع ليس مجرد "تحول سياسي" يكفي أن ندينه ونتبرأ منه على المستوى الفردي، لكنه "وباء سريع العدوى"، ولا تمكن معالجة الوباء إذا اكتفينا بتوجيه اللعنات لمن يصاب به، فهناك ظروف أخرى غير الظروف الذاتية التي تخص هذا الشخص أو ذاك، ظروف أكبر من حكام الإمارات والبحرين والسودان والمغرب وإندونيسيا وماليزيا وباكستان (إذا استمر الغزل على نفس المنوال).. ظروف في البيئة وطبيعة العلاقات الإسلامية- الإسلامية وطريقة النظر للعالم والتفاعل مع القزة الكبرى فيه.

باختصار، لا بد من قراءة وقائع السقوط المتوالي بنظرة أشمل تتجاوز ردود الفعل الفردية أو الاحتجاج المؤقت على ساقطين كانوا بيننا ومتحولين ملأوا أسماعنا بالحديث عن الصمود والتمسك بالثوابت.

الأمر خطير، والقضية أكبر من السيسي وابن زايد وابن سلمان وابن العثماني.

وللحديث بقية..