أفكَار

كيف قرأ الإسلاميون المغاربة العلمانية وصيغ التعامل معها؟

إسلاميو المغرب.. مقاربات متباينة للعلمانية ولطرق التعامل معها (عربي21)

يظهر موقف الإسلاميين من العلمانية حجم التعدد مقارباتهم، ودرجة الانفتاح والمرونة في قراءتهم للمفهوم وتجاربه التاريخية، كما يعكس أثر خلفياتهم الفكرية في تكييف موقفهم من العلمانية.

فالإسلاميون المغاربة ـ حتى وإن كانوا ينتمون إلى مدرسة واحدة ـ ليسوا نمطا واحدا في النظر للعلمانية، فأدبياتهم تعكس قدرا من التعدد في تمثل المفهوم وقراءة مساراته، هذا فضلا عن تقييم تجاربه ونماذجه المتباينة.

وهم على هذا الاختلاف في التقدير والتعاطي، تجمعهم قواسم مشتركة كثيرة، أولها البحث عن أرضية مشتركة مع طيف من التيار العلماني، وثانيها النظر إلى العلمانية باعتبارها مسارا وتجربة تاريخية غير مكتملة، لا تزال تفرز العديد من الإشكالات مع امتداد الزمن، وأن الحاجة إلى الجواب عن هذه الإشكالات هو الذي سيحدد مستقبل العلمانية أم يحكم عليها بالانسداد، وثالثها النظر إلى العلمانية باعتبارها نماذج متعددة في ترسيم العلاقة بين الدين والدولة.

عبد السلام ياسين.. وضوح الموقف من العلمانية والتباس النظر إلى الديمقراطية

ينبغي الاعتراف أنه ليس من السهل البحث عن محددات موقف الشيخ عبد السلام ياسين من الديمقراطية ولوازمها، فتعدد متنه يكشف وجود أفكار مختلفة يصعب معها فهم الموقف إلا باستحضار مفاهيم فقه المرحلة، أو بالتحديد مفاهيم مرحلة ما قبل القومة ومرحلة ما بعدها.

لكن إذا كان الأمر بهذا الحال بالنسبة إلى الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة، والتعددية، وحق غير الإسلاميين في المشاركة السياسية، فإن موقفه من العلمانية كان حاسما، منذ البدايات الأولى لمساره الدعوي، فقد كتب كتابا في نهاية الثمانينيات (الإسلام والقومية العلمانية)، أودعه الموقف من القومية وخلفيتها العلمانية، ولم يتغير موقفه منها منذ ذلك الزمن، إذ كان يعتبرها صنيعة من صنائع الاستعمار، بل هي الامتداد له في بلاد المسلمين، وأن الغاية منها سلخ المسلمين عن عقديتهم وإلحقاهم بثقافة الغرب وماديته ودوابيته.

 



أما فهم اختلاف موقف الشيخ ياسين من الديمقراطية، يتوقف على دراسة متنه المختلف، وسياقات كلامه، فالديمقراطية عنده خير من الاستبداد وهي طريق نحو التحرر، وما فيها من دروس وتنظيم الخلاف وترتيب تعددية الآراء في نظام تعددية الأحزاب هو جزء من رسالة الإسلام التحريرية، وهي فكرة نبيلة باشتمالها على تعددية الأحزاب، وحرية المعارضة والرقابة والنقد وحق الشعب في اختيار حكامه، وحكم الشعب لصالح الشعب، والتمثيل النيابي الذي تقترحه، وتعاقب القوى السياسية على المؤسسات وحرية التعبير والصحافة المستقلة ودولة القانون وفصل السلط واحترام حقوق الإنسان، وهي تجربة ثرية يمكن الإفادة منها في تنظيم الخلاف وصبه في تعددية حزبية مسؤولة متعاقبة على الحكم، معبِّئة للجهود في قنوات منتظمة محكومة بدل الفوضى والعنف، وأيضا في آليات تنظيم الانتخاب والحكومة، وفصل السلط، وتوزيع النفوذ، وترتيب أجهزة الحكم والإدارة، بل يمكن الإفادة أيضا من الطابع المؤسساتي الذي تقوم عليه،  لكن في المقابل، تدر مواقف أخرى، ترسم افقا  آخر، غير الأفق التعلمي الذي يرسمه الشيخ ياسين في التعامل مع تجربة الديمقراطية ولوازمها.
 
لكنه في المقابل لا يخفي نقده للخلفية العلمانية الإلحادية للديمقراطية، وانتصاره للبعد الأداتي فيها، والتعامل البراغماتي مع ما يمسه بالحكمة البشرية التي وفرته التجربة الديمقراطية، ويعتبرها مكسبا مرحليا، وطريقا نحو التحرر، وليس أفقا لنظرته السياسية، فالأفق هو دولة القرآن ودولة الشورى، والديمقراطية توفر المهارات التنظيمية وهي أحسن الطرق للتسيير الشأن العام التي ينبغي الاستفادة منها.

يرسم الموقف صورتين متناقضتين، يفترضهما الشيخ ياسين افتراضا، الأولى قبل القومة، وتخص الحركات التي تتبنى الخيار الإسلامي، والثانية بعد القومة تخص الأحزاب التعددية الأخرى، ففي الصورة الأولى، يقبل الشيخ ياسين افتراض فشل الإسلاميين في إقناع الشعب، وبالتالي الوصول إلى الحكم، وتقبلهم لنتائج الديمقراطية، وأن الفشل يدفع نحو الرجوع إلى الذات ومساءلة أسباب التقصير والتراجع ، وفي الثانية، أي ما بعد القومة، وبعد أن قيام الدولة الإسلامية، يطرح سؤال قبول التعددية الحزبية، فيجعل القبول خارج المبدأ، بحيث يسمح لها فقط حتى يفتضح أمرها وتموت موتتها الطبيعية ، بل إنه يجعل للدولة وصاية على التعددية السياسية الإسلامية، فتقر منها ما كان تعاونيا، وتمنع منها ما كان عدائيا يفضي إلى شتات الأمة .

ليس ثمة تفسير لهذا الالتباس، إلا باستحضار السياقين، وإعمال فقه المرحلة، فمرحلة ما قبل القومة يحكمها نظر، يميل إلى توظيف فوائد الديمقراطية ومكاسبها في مواجهة الاستبداد، وتوظيفها آلية للتحرر، مع الإقرار بمختلف لوازمها التنظيمية والأداتية سوى ما يتعلق بلازمتها العقدية المادية الإلحادية، في حين، ترسم مرحلة ما بعد القومة، افقا آخر للنظر، يرتكز على مقومات دولة القرآن واجتهاد رجال الدعوة في التعامل مع الأحزاب السياسية والتعددية وغيرها من لوازم الديمقراطية المختلفة.

سعد الدين العثماني.. في التأصيل للتميز بين السياسي والدعوي

يميل الدكتور سعد الدين العثماني إلى تبني رؤية أخرى للعلاقة بين الديني والسياسي، فبدل رؤية الإسلاميين التي تؤمن بالوصل، أو بعدم وجود فصل بين الدين والسياسة، وأن الدين شامل، يغطي كل مناحي الحياة، بمقابل رؤية العلمانيين التي ترى ضرورة الفصل بين الدين والسياسة، يختار سعد الدين العثماني خيارا آخر، هو التمييز بين الديني والسياسي، فلكل وظيفته، ولكل مجاله، ولكل خطابه وآليات اشتغاله، فما يؤطر الدين هو النص الديني، الذي يربط الإنسان بآخرته ويتقصد الخلاص، وما يؤطر السياسة هو النظر المصلحي، الذي يعود على الأمة بالنفع والخير والمصلحة والعدل.

 



بدأ الدكتور سعد الدين العثماني في كتابه "الفقه الدعوي مساهمة في التأصيل" يؤسس لمشروعه استنادا إلى ما قرره الأصوليون من تمايز مستويات خضوع مجالات الحياة للنص، أي ما سبق وأن قرره الشيخ القرضاوي من وجود منطقة تشريعية حسم فيها النص القطعي، ومنطقة تشريعية تناولها النص الظني الذي يحتمل أكثر من معنى ويتطلب اجتهادا تنزيليا يتخير المعنى الأقرب إلى الصواب، ومنطقة عفو سكت عنها الشرع ولم يؤطرها بنص، فأنيطت بالمصلحة المرسلة مهمة الإجابة عن معضلاتها.

غير أن هذه الرؤية التي تقاسمها كل الإسلاميين، ما لبثت أن تطورت في فكر العثماني، لما اشتغل على تصرفات النبي عليه السلام، ولاحظ تفصيلات الأصوليين لمقامات مختلفة لهذا التصرف (تصرفه باعتبار الإمامة، وتصرفه باعتبار الفتوى، وتصرفه باعتبار القضاء، وتصرفه باعتبار كونه بشرا، وتصرفه باعتبار كونه مبلغا عن الله)، فجعل من اختلاف تصرفات النبي قاعدة لبناء تصوره حول علاقة الدين بالمجال السياسي، وهو التصور الذي لم يبق جامدا، إذ تطور مع السنوات ليصل إلى أبعد مدى مع كتابه "الدولة الإسلامية: المفهوم والإمكان" والذي ذهب فيه إلى أن ما يؤطر المجال السياسي برمته هو المصلحة، وأن النص الديني، يخدم علاقة الإنسان بربه، ويؤطر سعيه نحو الآخرة، وأن أقصى ما يوفره في حقل السياسية هو البواعث القيمية والأخلاقية التي يتم الاستناد إليها لتخليق السياسة، وتأصيل الاستقامة السياسية والسلوك الشفاف والحكامة وغيرها من القضايا التي أصبحت اليوم تمثل معضلة السياسة.

يقترب الدكتور سعد الدين العثماني كثيرا من رؤية العلمانيين، في إبعاد النص الديني عن المجال السياسي، وما يمكن أن يسجل من فرق بينهما، أن مجال تدخل الديني في السياسة في رؤية العثماني، لا تتجاوز قضايا القيم، ويتفقان في إبعاد النص بصفته حكما شرعيا عن تأطير الواقع السياسي، سوى ما كان من قطعيات، فإن نظر العثماني، يتوجه نحو اعتمادها من بوابة المرجعية الدستورية التي تقر بإسلامية الدولة، أو من بوابة الاجتهاد في التنزيل.

المقرئ أبو زيد الإدريسي: لا خيار لحل معضلة الخلاف بين الإسلاميين والعلمانيين سوى الاحتكام لصناديق الاقتراع

يتبنى المفكر الإسلامي المقرئ الإدريسي أبو زيد التمييز الذي أقامه الدكتور عبد الوهاب المسيري بين العلمانية والمعتدلة والمعتدلة الشاملة، العلمانية علمانيتان، فالعلمانية المعتدلة، يمثلها ـ حسب المقرئ أبو زيد ـ تيار قليل، لا زال يعبر عن نقطة تخوف واحدة من الحركة الإسلامية، وهو أنه إذا ما وصلت إلى السلطة، فيمكن أن تعيدنا إلى تجربة الدولة الثيوقراطية.  

ويرى أبو زيد أن هذا التخوف مشروع يتقاسمه حتى الإسلاميون المستنيرون، فالدولة الثيوقراطية هي موضوع تخوف الجميع، وهي مرفوضة بالتجربة التاريخية أولا، لأنها كانت دولة شمولية إرهابية مستبدة وفاسدة تمارس الحكم باسم الله، وتقدس أفعال البشر، ولا تؤمن بالنسبي ولا بخطأ الأشخاص، ولا تقبل محاكمة ولا محاسبة ولا عقلا ولا اجتهادا ولا مشاركة ولا أي شيء.  

 



ثم هي مرفوضة دينيا وإسلاميا لأنه لا يوجد في التصور الإسلامي ما يسمى الدولة الثيوقراطية، وذلك لأن الإسلام فصل فصلا مبدئيا بين قدسية النص، وبين بشرية المسؤولين عن فهمه وتنزيله، وأسس بدلا عن ذلك، لسلطة تعطي الحق للمراقبة والمحاسبة وكل أشكال المتابعة والتقويم، هي سيادة الأمة حسب تعبير الدكتور أحمد الريسوني، ويرى أبو زيد أن التمييز بين المقدس والنسبي مدخل حقيقي لفهم علاقة الديني بالسياسي، وأن مدخل ذلك هو الرجوع إلى شخص النبي صلى الله عليه وسلم،  حيث الالتباس الفعلي بين المقدس والبشري، بين الوحي والفكر البشري في شخصه، ومع ذلك، يضيف أبو زيد فلأنه كان نبيا و حاكما، فقد قام بمجموعة من التوجيهات الدقيقة والواضحة في أحاديثه في معاملاته وفي ممارساته كحاكم، وقام بعملية تشريح عمودية دقيقة بمشرط منهجي مضبوط للتمييز في شخصه بين النبوة والمقدس وهي الوحي، وبين الحكم وممارسة السلطة وهي البشري والنسبي. 

فإذا كانت الشخصية الأكثر التباسا بالمقدس وهو النبي صلى الله عليه وسلم، الموحى إليه، قد ميز بين ما هو مقدس، وما هو بشري، فهذا يعني أنه كحاكم لم يكن عنده أي شكل من أشكال الحصانة أو التقديس، وإنما فقط كمبلغ للدين، كان مصدقا بأمانته وصدقه، كان ناقلا للوحي، وكان مفسرا له جزئيا، وإلا فإن فراغا كبيرا ملأه العلماء المسلمون بتفسيراتهم وتأويلاتهم، ثم تطور الزمن ففتح مجالات أخرى. 

أما العلمانية الشاملة، فيرى أبو زيد أن التيار الغالب هو الذي يتبناها، وأن قضيته، ليست التخوف من قيام دولة ثيوقراطية، وإنما قضيته مرتبطة برؤيته للدين وتصوره للدنيا، إذ ينظر إلى الدين كعنصر مضر يجب استئصاله كليا من الحياة، أو يجب تضييق مجاله إلى ابعد الحدود حتى يبقى في القلوب والمعابد فقط.

ويدخل أبو زيد في مساجلة مع العلمانيين، ويرى أن لكل تيار مطلقه الذي يدافع عنه، وأن الاستناد إلى المطلقات ليس حكرا على الإسلاميين، بل هو ديدن العلمانيين أيضا، فالعقائديات الماركسية عقائديات مطلقة، تقضي الآخر، والفكر العلماني الذي يستند إلى الأطروحة الليبرالية له مطلقاته أيضا، فرغم إيمانيه بالعقل والاختلاف والنسبي، فهو يحتفظ أيضا بمطلقاته التي يسميها بمسميات مختلفة، مثل الخوف على العلمانية أو حماية قيم الجمهورية، حين يتعلق الأمر بممارسات بسيطة تتعلق بالحق في ارتداء زي من الأزياء (الحجاب) كما هو الشأن في النموذج الفرنسي. 

ويرى المقرئ أبو زيد أن الفوارق الموجودة بين مطلقات الإسلاميين والعلمانيين، هي في النوع والدرجة فقط،  فالإسلاميون ينطلقون من نصوص واضحة ينسبونها إلى الوحي، وفيها أحكام وتشريعات، أما الآخرون فينطلقون من مفاهيم بشرية هلامية مبهمة وقابلة لأي تفسير وتأويل، يضفون عليها ـ وهم يدعون أن مصدرها بشري ـ هالة من التقديس، ويحولونها إلى طابو، ثم يرتدون بها على خصومهم إقصاء وتهميشا.  

ويضرب بذلك مثلا، ويرى أن القاسم المشترك بين كل العلمانيين، عندما ينزلون إلى أقصى درجة التسامح مع الإسلاميين، فذلك عندما يصرحون بأقصى ما يتحمله العلماني المغربي وهو: ''إننا نقبل بحق الإسلاميين في المشاركة السياسية، في تدبير الشأن العام والاحتكام إلى صناديق الاقتراع للوصول إلى السلطة''، ثم يضعون استثناء، عبارة عن خط أحمر( مطلق) فيقولون: ''إلا ما كان وجود خط أحمر في مقابل خط أحمر، فالإسلامي يقول: أنا أقبل بالديمقراطية، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، ومن تصوت عليه الجماهير، وبما ينتج عن المؤسسة التشريعية من قوانين وأحكام، إلا ما خالف أحكام الشريعة الصريحة، أو معلوما من الدين بالضرورة، أو ما كان مخالفا لمقاصد الشريعة وكلياتها العامة. والآخر يقول: إلا ما خالف المواثيق الدولية الحقوقية. 

معنى ذلك ـ حسب أبي زيد ـ أن كليهما يمتلك خطا أحمر، علما بأن الأول وحي (على الأقل في اعتقاد أصحابه) وهو وحي تقبل الجماهير أنه وحي، فالإسلامي بهذا الاعتبار ينطلق من أرضية مشتركة تجمعه بالجماهير بالمنطق الديمقراطي، فهو وحي واضح ومفصل في أحكام تشريعية، وليس فيه أي شيء هلامي. في حين المواثيق الدولية، التي يسوقها العلماني كاستثناء وكمطلق وكخط أحمر وكأنها مسلمة، يكتنفها الكثير من التناقض والالتباس، وهي في تحول وتطور، والهيئات الأممية تنعقد بشكل متواصل، وتصدر المواثيق بشكل متواصل، وتخضع لتأويلات متضاربة.

ويرى المقرئ أن أفق الحوار والتعايش بين الإسلاميين والعلمانيين، ممكن، وذلك ببناء الديمقراطية، وحكم الإرادة الشعبية المعبر عنها في صناديق الاقتراع، وأن خوض المعارك باسم نسف المطلقات، أمر لن ينتهي بطائل، بل سيدفع الأمة نحو مزيد من الاحتراب وتبديد الطاقات، وأنه ليس هناك من خيار سوى بالنزول إلى الجماهير والاحتكام إلى صناديق الاقتراع.

محمد يتيم: السياسة الشرعية صيغة ثالثة بين الثيوقراطية وبين العلمانية

ينطلق الأستاذ محمد يتيم في رؤيته من التعاطي مع الثيوقراطية والعلمانية الشاملة باعتبارهما وجهان لعملة واحدة، إذ هما في الواقع فصل للدين عن الدولة وفصل للدين عن الحياة. 

يبدد يتيم الالتباس الوراد في حكمه، ويرى أن صحة هذا الحكم بالنسبة إلى العلمانية الشاملة لا يطرح أية مشكلة، كما يطرحه بالنسبة للثيوقراطية، ويرى أن الثيوقراطية هي حكم بشري يضفي على نفسه صفة القداسة، ويعطي لنفسه الحق في أن يحكم باسم الله. والأسوأ من ذلك أنه يتقمص صفة النطق الرسمي باسم الله، والنيابة عنه من أجل إعطاء تسويغ ديني لأهواء ومصالح أصحابه.

 

 


ومعنى ذلك أن الثيوقراطية مثلها مثل العلمانية في كونهما حكمان زمنيان يفصلان بين الدين والحياة وبين الدين والدولة، على فرق بينهما في الخطورة، إذ أن العلمانية الشاملة تصرح بذلك تصريحا واضحا وتناصب العداء للأديان، وإن كانت استبدلت بذلك دينا آخر، في حين أن الحكم الثيوقراطي، وهذا أخطر، هو في الجوهر حكم زمني علماني يلبس لباسا دينيا ويوظف الدين من أجل الأغراض والمنافع الشخصية.
 
ويعتبر محمد يتيم أن السياسة الشرعية التي جعلها الفكر الإسلامي أداة لتأطير الحقل السياسي، هي شيء آخر غير الثيوقراطية وغير العلمانية الشاملة، لأن مبناها على الاجتهاد وقوامها طلب المصلحة، فهي بهذا الاعتبار اجتهادات من ولاة الأمور من أجل جلب المصالح ودرء المفاسد، فهي وإن كان لا ينبغي أن تخالف نصا قطعيا، فهي لا تأخذ شرعيتها من النص، وإنما تستمد شرعيتها من إعمال مبدأ المصلحة المرسلة.

ويستند يتيم إلى رأي ابن القيم، ويرى أن الاجتهادات المندرجة في إطار السياسة الشرعية هي من الشريعة، ولو لم يرد التنصيص على أحكامها التفصيلية، أي ولو كانت من إبداع الاجتهاد العقلي الإنساني، مادام ذلك الإبداع يأخذ بعين الاعتبار أصول الشريعة وأحكامها ومقاصدها الكلية. ومعنى ذلك أن الاجتهاد هو الذي يضمن صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان ويضمن أن تبقى حركة الحياة موصولة بأصول الدين ومقاصده ويحول دون "علمنة" الدولة والمجتمع.

وبخصوص العلاقة الممكنة بين الإسلام والعلمانية، فينيما يتيم إلى تبني مفهوم التمييز، بدل الوصل أو الفصل،  أي التمييز بين الدين باعتباره عقيدة وقيما تدبر علاقة الإنسان بربه وبين الدنيا التي هي مجال التدبير البشري المنوط بإعمال المصالح، فالتصرفات السياسية، حسب يتيم، أي التصرفات بالإمامة والخارجة عن مسمى الدين، هي تصرفات قائمة على مراعاة المصالح واعتبارها، وبالتالي فهي تتغير بتغيرها، وهي لذلك مجال اجتهادي لا مكان فيه للقدسية، مما يعني أن الإسلام مع الدولة المدنية ومع نزع القداسة عن التصرفات السياسية البشرية، وضد الدولة الدينية الثيوقراطية التي تحكم باسم نظرية التفويض الإلهي كما تبين سابقا. 

وفي هذا المعنى يلتقي الإسلام مع العلمانية لولا أن هذه الأخيرة في صورتها الشاملة (العلمانية الشاملة) تتجاوز الدعوة إلى قيام نظام سياسي عقلاني مدني تعاقدي كي تصادر حق المسلمين في أن يصدروا عن المرجعية الإسلامية وفي أن يقيموا نوع وصل بين الدين والدولة وبين الدين والسياسة، أي الوصل على مستوى المرجعية، مع التأكيد في الوقت نفسه على الطبيعة المدنية للدولة والفصل بين الدين والدنيا أي في ما ليس فيه وحي أو حكم شرعي قطعي.