كتاب عربي 21

عن خرافة الأسلمة في العالم العربي

1300x600
لا تعدو فكرة الأسلمة عن طريق الهيمنة في العالم العربي عن كونها أسطورة روجتها الأنظمة الدكتاتورية الما بعد كولونيالية، للتخلص من استحقاقات الإصلاح والتحول الديمقراطي، وهي أسطورة ثقافوية استشراقية اخترعها الغرب الإمبريالي لاستدامة السيطرة والهيمنة على مستعمراته السابقة بالتحالف مع نخب دكتاتورية تابعة.

وقد ساهمت خطابات حركات الإسلام السياسي المبكرة في تعزيز خرافة الأسلمة، ولم تلتفت إلى التغيرات البنيوية التي طالت تصورات الإسلام السياسي وسلوكياته حول الدولة والمجتمع. فتصوير جماعة الإخوان على أنها متشوفة للسلطة وقادرة على الاستيلاء عليها وفرض نسختها من الشريعة على المواطنين غير الراغبين؛ إنما يشكل صورة كاريكاتورية تبالغ في تضخيم سمات مخصوصة للإخوان في حين تتجاهل أخرى، وتقلل من مدى التغير الذي مرت به الجماعة بمرور الوقت حسب كاري ويكهام.

إن الإشكالية الرئيسية للأنظمة الدكتاتورية العربية التي ترعاها الإمبريالة الغربية مع الإسلام السياسي، تقوم على أسس جيوبوليتيكية تتعلق بالاستقلالية والتبعية. فالحركات الإسلامية تتوافر على أجندة تؤسس لكينونة مناهضة لسياسات ومصالح الغرب، وجماعة "الإخوان المسلمين" التي تعد أهم الحركات الاجتماعية الدينية المحافظية في العالم العربي؛ تنشد الحفاظ على هوية المجتمعات الإسلامية وفك التبعية والتحرر.
إشكالية الرئيسية للأنظمة الدكتاتورية العربية التي ترعاها الإمبريالة الغربية مع الإسلام السياسي، تقوم على أسس جيوبوليتيكية تتعلق بالاستقلالية والتبعية

فقد نشأت "الإسلاموية" كرد فعل على الاجتياح الكولونيالي والإمبريالي للعالم الإسلامي، ونشوء الحركة الصهيونية وتأسيس وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، وعلى وقع صدمة انهيار وسقوط الخلافة الإسلامية (العثمانية). وقد تطورت الإسلاموية كأيديولوجيا سياسية في إطار الدولة ما بعد الكولونيالية، وتشكُل الدولة الوطنية (العلمانية)، وأصبحت أهداف وغايات الإسلاموية مناهضة للدكتاتورية والإمبريالية والصهيونية، واستعادة "الخلافة" كرمز للهوية السياسية الدينية الإسلامية.

استخدمت الدكتاتوريات العربية ذريعة الأسلمة والهيمنة للانقضاض على منجزات الربيع العربي، والتخلص من استحقاقات الديمقراطية، وبدا كأن الديكتاتوريات المحلية أعادت اكتشاف الإسلام السياسي وأهدافه وغاياته النهائية، باعتبارها مطابقة لحد "الإرهابوية". لكن الحركات الإسلامية لا تخفي أهدافها وغاياتها، فهي تسعى إلى استئناف حياة إسلامية مطابقة لتصوراتها الأيديولوجية حول الحكم المثالي للشريعة، باتباع استراتيجيات الهيمنة وسياسات الأسلمة.

ورغم مشروعية مطالبها النهائية بتأسيس "دولة إسلامية" من خلال استراتيجية إصلاحية سلميّة متدرجة تعمل على أسلمة الفرد والمجتمع، فالدولة باتباع طرائق الدعوة والتربية والإرشاد واستخدام آليات السيطرة ووسائل الهيمنة على مؤسسات "المجتمع المدني"، إلا أنها مستحيلة التحقق في واقع الدولة القومية الحديثة في العالم العربي عموماً. فلا تعدو مقولات الأسلمة والهيمنة عن كونها أسطورة ثقافية سياسية طوباوية لا تستند إلى سابقة تاريخية متحققة، أو تجربة واقعية ممكنة.
استخدمت الدكتاتوريات العربية ذريعة الأسلمة والهيمنة للانقضاض على منجزات الربيع العربي، والتخلص من استحقاقات الديمقراطية، وبدا كأن الديكتاتوريات المحلية أعادت اكتشاف الإسلام السياسي وأهدافه وغاياته النهائية، باعتبارها مطابقة لحد "الإرهابوية"

إن الإسلامويّة، وهو مصطلح يستخدم للإشارة إلى الأفكار والحركات التي تسعى لإقامة "نظامٍ إسلامي" يتمثّل في دولة دينية تُحكَم بالشريعة وتفرض القوانين الأخلاقية الخاصة بها في المجتمعات الإسلامية، تمارس أنشطتها في إطار دولة قومية حديثة تتناقض في أبسط تعريفاتها مع مفاهيم الحكم الإسلامي، ودولة الشريعة، ومنظومة "الخلافة"، بينما تستند الأسس الفلسفية للدولة القومية إلى مفهوم السيادة، وحق احتكار العنف والتشريع والقانون وضبط الحياة اليومية. إذ يشكل الدين أحد مكونات الهوية القومية للدولة، التي تفترض استقلال النسق السياسي عن النسق الديني، وحصر الدين في المجال الخاص. فالسيادة القانونية تعد أهم مميزات الدولة الحديثة، بينما تعود السيادة إلى الشريعة الإلهية في نظام الحكم الإسلامي.

يجب الابتعاد عن المقاربات الجوهرانية لفهم الإسلام السياسي، حيث تشير التحولات الأيديولوجية والسياسية التاريخية التي تعاقبت على الإسلامية إلى أهمية النظرة السياقية، والتأويلات المجسدة للتقاليد الخطابية، فجماعة الإخوان المسلمين التي تعتبر الممثل الأبرز للأسلمة، قولبت أيديولوجيتها مرات عديدة وعدّلت من مواقفها وتصوراتها حول الدولة والمجتمع عبر مراحلها التاريخية.

ورغم أنها لا تزال على اختلاف مكوناتها وتياراتها تحتفظ بهدف إقامة "دولة إسلامية"، إلا أن مفهوم الدولة الإسلامية الذي تنشده يتموضع في بينية الدولة القومية، وعلى مدى عقود تشكلت تيارات عديدة داخل جماعة الإخوان المسلمين؛ تختلف اجتهاداتها ومنظوراتها حول طبيعة الوسائل والآليات التي يجب سلوكها لتحقيق أهدافها وغاياتها النهائية باستئناف حكم إسلامي يقوم على تطبيق الشريعة.
التيار الأساس السائد داخل الجماعة هو الاتجاه الديني المحافظ، وعلى أطرافه توجد التوجهات الراديكالية والإصلاحية. وتعود أسباب هيمنة التيار الديني المحافظ إلى بنيتها ومكوناتها التاريخية وظروف نشأتها كجماعة دينية إحيائية إصلاحية محافظة؛ تحولت إلى حركة سياسية

فالتيار الأساس السائد داخل الجماعة هو الاتجاه الديني المحافظ، وعلى أطرافه توجد التوجهات الراديكالية والإصلاحية. وتعود أسباب هيمنة التيار الديني المحافظ إلى بنيتها ومكوناتها التاريخية وظروف نشأتها كجماعة دينية إحيائية إصلاحية محافظة؛ تحولت إلى حركة سياسية ترتكز اهتماماتها على إعادة تأسيس كينونة سياسية واجتماعية، تؤكد على مركزية بناء هوية دينية إسلامية، ومناهضة المركزية الغربية التي هيمنت تصوراتها على العالم الإسلامي، وشكلت نموذجاً إرشادياً للدولة الوطنية ما بعد الكولونيالية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

لقد أفضت التطورات التاريخية، والجدالات الأيديولوجية والمناظرات الفقهية داخل هياكل جماعة الإخوان المسلمين، إلى بروز ثلاثة نماذج رئيسية حول نظرية العمل داخل أطر الدولة الوطنية: يتبنى النموذج الأول مفهوم الحزب من النمط اللينيني، حيث يقدم نفسه على أنه طليعة تهدف إلى الاستيلاء على السلطة بالقوة، وينكر شرعية الدولة الوطنية، والعملية السياسية والمسالك النقابية، ويتبنى نهج "حرب الحركة" لتغيير النظام من أعلى وفرض الحكم الإسلامي. ويعدّ سيد قطب المنظر المرجعي للتيار الراديكالي داخل الجماعة، ومن رحمه خرجت الجماعات الجهادية المعاصرة.

ويتبنى النموذج الثاني مفهوم الحزب السياسي على النمط الغربي، ويسعى للعمل من داخل الإطار الديمقراطي الانتخابي ومتعدد الأحزاب لتمرير الحد الأقصى من عناصر برنامجه السياسي.

ويتبنى النموذج الثالث مفهوم الجمعية الدينية، التي تسعى إلى ترويج القيم الإسلامية وتغيير العقليات والمجتمع عبر استحداث حركات تشاركية والتغلغل في أوساط النخب.

وينتمي أنصار النموذجين الأخيرين إلى التيار "الإصلاحي"، الذي يتبنى نهج "حرب المواقع" وفق استراتيجية "غرامشي" في بناء هيمنة أخلاقية وسياسية في المجتمع، تفضي إلى أسلمة المجتمع، متوقعة أن الدولة ستصبح إسلامية على المدى الطويل، تدريجياً وسلمياً من خلال الأطر الدستوريّة للدولة القومية، عبر تبني الإجراءات الديمقراطيّة، وآليات تعبئة المجتمع المدني من خلال الروابط المهنية والمنظمات غير الحكوميّة والمساجد والجمعيّات الخيريّة.

إن فكرة أسلمة المجتمع المدني التي يتبناها الإسلام السياسي من خلال استراتيجية حرب المواقع وفعاليات الهيمنة، تبدو مستحيلة، ولا تعدو عن كونها فكرة خيالية طوباوية. إذ لا يعمل المجتمع المدني الذي وصف يوماً بـ"الفكرة العظيمة" خارج الأطر السيادية القانونية للدولة الوطنية، ولا تشكل الإسلاموية سوى أحد التوجهات الأيديولوجية الناشطة في إطار المجتمع المدني. وقد شهدت أسطورة المجتمع المدني وأهميته تراجعاً في الأعوام الأخيرة، كما أن المجتمع المدني فقد بريقه مع استخدامه من قبل الدول العظمى كأداة سياسية للهيمنة والسيطرة على المجتمع وأداة لتغيير الأنظمة السياسية، حيث غزت أمريكا العراق تحت شعار "دعم المجتمع المدني" وتحقيق الديمقراطية.
شهدت أسطورة المجتمع المدني وأهميته تراجعاً في الأعوام الأخيرة، كما أن المجتمع المدني فقد بريقه مع استخدامه من قبل الدول العظمى كأداة سياسية للهيمنة والسيطرة على المجتمع وأداة لتغيير الأنظمة السياسية

تبرز خرافة الأسلمة والهيمنة بوضوح في العالم العربي، فمنذ تسعينيات القرن الماضي فرض الإخوان هيمنتهم على النقابات المهنية المهمة في الأردن وفي مصر وغيرهما، دون أن تنجز الأسلمة، بل إن الجماعة تحولت نحو نوع من الدمقرطة.

وقد كشفت أحداث "الربيع العربي" عن أسطورة أسلمة الدولة الوطنية من خلال استراتيجيات الهيمنة والسيطرة على مؤسسات المجتمع المدني، وأظهرت مآلات الانتفاضات العربية حجم المبالغة في تقدير قوة الإخوان المسلمين وخصائصهم البنيوية.

فالدولة الوطنية بأجهزنها القمعية والأيديولوجية برهنت على رسوخها وقوتها، وصعوبة تغيير أبنيتها العميقة العسكرية والقانونية التي تشكل مظاهر السلطة السيادية. فقد أزيحت جماعة الإخوان المسلمين في مصر عن الحكم بسهولة بالغة عن طريق قوة الجيش وسلطة القانون التي تعتبر الأساس الروحي للسلطة. فالجيش والقانون هما من المجالات التي لا يسمح للإسلاموية أصلاً باختراقهما؛ فضلا عن السيطرة عليهما. إذ لم تقتصر عملية استبعاد الإخوان في مصر عن مراكز السلطة التشريعية والتنفيذية في الدولة، بل تم نزع شرعية الجماعة سياسياً وقانونياً، وجرى تجريدها من كافة مؤسساتها الدعوية ومصادرة كل مؤسساتها الاقتصادية والاجتماعية، بل تم حظر الجماعة وتصنيفها بقوة القانون منظمة "إرهابية".
الأسلمة والهيمنة لا يمكن أن تفضي إلى تأسيس دولة إسلامية، ليس بسبب تناقضها مع الأساس الفلسفي للدولة القومية فحسب، بل بسبب طبيعة الدولة القومية العربية الدكتاتورية التي تستند إلى قوة المؤسسات العسكرية والقانونية

خلاصة القول أن الأسلمة والهيمنة لا يمكن أن تفضي إلى تأسيس دولة إسلامية، ليس بسبب تناقضها مع الأساس الفلسفي للدولة القومية فحسب، بل بسبب طبيعة الدولة القومية العربية الدكتاتورية التي تستند إلى قوة المؤسسات العسكرية والقانونية في هذا السياق. فتمدد الإسلام السياسي وانكماشه في العالم العربي، لا ينفصل عن السياسات العامة للدولة، والسياسات الدينية. إذ لم يكن تغلغل الإسلام السياسي في مؤسسات المجتمع المدني بعيداً عن الإطار السياسي والقانوني للسلطة، وعن دعم ورعاية الأنظمة معظم الأوقات، ذلك أن النشاط الاجتماعي برمته يتطلب الموافقة القانونية، وبالتالي موافقة الدولة- الأمة.

فمجمل الأعمال التي عملت الجماعة من خلالها على التمدد والهيمنة من خلال تحسين الظروف الاجتماعية، عبر إنشاء الجمعيات والمستوصفات والمدارس في المناطق المحرومة، كانت مرتبطة بموافقة ورضا السلطة ورعايتها في ظروف محددة، وذات الأعمال كانت مهددة عند الحاجة بتهمة عدم الشرعية السياسية والقانونية. فقد استخدمت السلطة السيادية القانونية للدولة للحد من نشاط الإسلام السياسي، ولنزع شرعية وجود الإسلام السياسي أحياناً، تحت ذريعة مخالفة القانون حيناً، أو تقويضه بذريعة الإرهاب حيناً آخر.

twitter.com/hasanabuhanya