مقالات مختارة

حوسة في الفضاء العربي

1300x600

ونبدأ بمعاني التعبير الكويتي حيث يقال «حوسة» عن وضع مربك يستدعي عقلانية مستندة إلى سلطان القانون، تخرج من فكر مجرب، والكويت اليوم في حوسة تولدت من تحولات داخلية من السلطة التنفيذية، ومن مسار الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جمعت ائتلافا بتوجهات مختلفة، استبدلت التوافق بقاعدة الأغلبية وتبنت أسلوب «الزحف المبرمج» على صلاحيات الحكومة التي يوفرها الدستور، مع إصرار على إخراج الدور الحكومي من انتخابات اللجان وتحييده في اختيار الرئاسة وتوجهاتها، لفرض الأولويات التي يريدها هذا الائتلاف مع تحدي أحكام القضاء إذا لم تلتق مع مشروع مجموعة الائتلاف.


كان قرار سمو الأمير في اتخاذ فترة شهر لتأجيل اجتماعات البرلمان خطوة لإفساح الوقت للتأمل والتفكير والتواصل لتقريب المسافات في المواقف، ورغم ذلك لا تبدو ملامح التقارب في هذا الفضاء، وتظل غيوم الحوسة كثيفة ومقلقة.

وليس أمام الحكومة سوى الالتزام بمبادئ الدستور والتحصن بأحكام القضاء، والتمسك بصلابة هذا الموقف، لأن الضعف سيؤدي إلى تبدلات جوهرية في مسار الدولة، وسيفتح باباً لدخول سوابق في صلب الممارسة البرلمانية، وستصبح قواعد مستجدة تتحول إلى ثوابت تحل مكان قاعدة التراضي ومبدأ التوافق وتلاقي الحرص الوطني على سلامة الدولة، وإلغاء صرح التوازن الذي يتمثل في محتوى الدستور، والأكثر خطورة هو ما ستفرزه هذه الحالة من الخروج ليس على النص وإنما على روح الولاء لثوابت الاستقرار الراسخة في ضمير كل مواطن، مع تحول المناخ السياسي الكويتي إلى حالة فزع دائم، وغياب استقرار وتقلبات في عمر السلطة التنفيذية، وإخراج محوريتها من حسابات السياسة..

في أعقاب هزيمة إيطاليا في عام 1944، وضع الحلفاء دستوراً جديداً لإيطاليا قائماً على الائتلاف الدائم والمتعمد، بحيث لا تملك أية حكومة في إيطاليا القدرة على الحصول على الأغلبية، ومن هذه الخلطة الدستورية، دخلت إيطاليا في مناخ الفوضى وغاب عنها الاستقرار السياسي وانطبقت عليها مفاهيم الحوسة الكويتية.

في الجانب الغربي - الجنوبي من المملكة العربية السعودية، ومنذ ثلاث سنوات أو أكثر تدور حرب أهلية بين فئات وطوائف من شعب اليمن، فئة «الأفندية» ورثة نظام علي عبدالله صالح، وما يطلق عليها الشرعية، وفئة أخرى مناوئة حملت اسم «الطائفة الحوثية» متحصنة بتراث يمني ديني، ومندفعة بإيمان الإنقاذ الوطني وصوت العدالة، وإعادة اليمن إلى مفاهيم القبيلة والطائفة.

ولم أتصور بأن ثورة الحوثيين على حكم الأفندية قادرة على مواصلة المقاومة والاندفاع نحو التضحية، رافضة إغراءات الحل السلمي، والاستخفاف بأثقال الحرب، رغم مساعي الأمم المتحدة وممثلها المطلع على حقائق التشريد والقتل والإذلال، ورغم تواجد التحالف الخليجي مسانداً للشرعية، تأتي الولايات المتحدة، بكل ما تملكه من سطوة، من أجل التوسط فلا تجد من يستجيب، لأن الطائفة الحوثية لم تستوعب تعقيدات الوضع.

تأتي مبادرة المملكة الآن حاملة شيئاً من أضواء الأمل في مخرج من حوسة اليمن الدائمة وربما يأتي الحل الجامع النهائي لمشكلة اليمن التي بدأت عام 1962 في انقلاب دبره بعض الضباط على نظام الإمامة الجامد والمغلق، وتأتي مصر الناصرية دعماً لثورة رأت فيها القاهرة تعويضاً عن نكسة الانفصال وتجاوزاً على الانكماش الثوري الذي تمثل في الانفصال السوري عن الجمهورية العربية المتحدة.

لم ينعم اليمن بالاستقرار منذ ثورة السلال وجماعته، فمن حكم الضباط ومن تبعهم إلى القاضي الأرياني ورفيقه أحمد محمد النعمان، ثم مجموعة البعثيين والقوميين وتمدد علي عبدالله صالح في ضلوع الحكم، لم يعش اليمن بالهدوء والاستقرار والسبب غياب النظام الذي يرضي كل الطوائف ويتمتع بدعم شعبي عام، وإنما كان الوضع تقلبات واهتزازات مع التظاهر بدعم داخلي قوي والتمتع بنعمة الصداقات مع الجميع من العرب المحيطين، والعرب البعيدين، وتبني إدارة تحتضن الثوريين وتتجاهل الأحزاب الدينية وتتناغم مع الخليجيين وتتحزب مع الثوريين في العراق وليبيا، وتهادن بالثناء، وتنتعش بصحبة الرفقاء الطامحين مثل صدام ومعمر القذافي، بينما الواقع اليمني غير ذلك، فمهما تجلت التحسينات على مظهرية الحكم في اليمن كان الواقع ملتهباً منذ عام 1962.

لم تتمكن جميع الأنظمة بعد الثورة من الحكم الحقيقي لليمن، كانت الطوائف مستمرة في التعبئة للوقت المناسب لأن كل الأنظمة عجزت عن الوصول إلى التوافق الوطني الجماعي الذي يريح كل طرف ويحرص الجميع على حمايته وترسيخه.

وجاءت مبادرة المملكة العربية السعودية حاملة الإدراك لهذه المعاني في ضرورة الوصول إلى جماعية الخطة التي تعطي كل طرف دوراً في السياسة، واحتراماً في المقام، وتقديراً في الإدارة.

لم يكن حكم «آل حميد» مجرد حكم أسرة مرت بتاريخ اليمن من دون قاعدة مثل العثمانيين أو غيرهم ممن أراد تطويع اليمن، فالكل فشل، لأن اليمن لا يقبل العيش في قيود التطويع، ولا شك بأن المبادرة تفتح الفضاء اليمني لأهل اليمن جميعاً في حوار وتواصل وبحث حتى الوصول إلى نظام يتناغم مع اليمن بتاريخه وطوائفه، وعناده وصلابته، ويوفر له في النهاية التراضي ومنها الانطلاق إلى اليمن الموحد معتمداً على دستور يتقبل الاجتهاد ويحتضن الفكر البناء ويضم كل السواعد للبناء.

جاء الاعتراف بالاستثنائية اليمنية من قبل المملكة، دولة الجوار والسخاء والرعاية والاستضافة والسند التاريخي، هنا صوت التاريخ يدعو أهل اليمن إلى فتح كتاب اليمن الجديد بتاريخ واعد، وتوجه يحرص عليه عقل راجح، وللعلم فإن فرصة التاريخ نادرة لا تتجدد..

كنا في ندوة منذ سنوات في جامعة الدوحة في قطر، وكان اللقاء حول اليمن، ومن الأفكار التي جرت مناقشة حولها، إمكانية عودة أسرة حميد الدين في نظام دستوري كما هي الحال في أسبانيا ودول ترى في النظام الملكي دوراً مميزاً للاستقرار والاستدامة، وكنت أحد المؤيدين، مع إشارات نحو تجارب دول الخليج في احترام الشرعية التاريخية، وتطوير آلياتها للمزيد من المشاركة لترسيخ أعمدة الأمن والطمأنينة. فاليمن الآن أمام حكم الزمن..

والموطن الأخير حول «الحوسة» في الفضاء العربي هو حالة سوريا، ثورة شعب على نظام طائفي مغلق محتكر السلطة ومتفرد بالتصرف، ومتمتع بالنفوذ مع صوت شعبي هادر في الداخل والخارج، وقرارات صاغتها الأمم المتحدة لحل جماعي عبر دستور تضعه لجنة يشارك فيها ممثلون للسلطة، ورغم ذلك فالنظام يتحصن بالقوات المسلحة الروسية وطائراتها وبحريتها وجنودها، جاءت موسكو مكان دمشق في مناقشة مصير سوريا ومستقبلها، ويتجول وزير خارجية روسيا حاملاً الملف السوري وراسماً خطوط المستقبل له، بينما تحول نصف الشعب إلى مشردين في بقاع العالم، والنصف الآخر مقهور تحت الاستبداد الطائفي، ووقود للمدفعية وملاحق من المباحث وتعذيب الجلادين، فلا مجال لتعويم نظام مرفوض شعبياً وإقليمياً ودولياً، ولن تنجح مساعي تجميلاته وتلميعه ليعود إلى القبول العربي، فلا يمكن للضمير العربي تجاهل تضحيات الشعب في رفضه للنظام الذي يستند إلى رماح الجيش الروسي، تشاركه الكتائب الإيرانية الحامية للوجود الإيراني المتنفذ والداعم للنظام.

وأقل ما يمكن عمله للشعب السوري مواصلة عزل النظام، والحفاظ على الضغط الدولي واستمرار محاصرته سياسياً ودبلوماسياً، مع تأييد خريطة الطريق التي رسمها مجلس الأمن، فما زالت الوثيقة الوحيدة المقبولة رغم التباين والتفسيرات.. بهذا الموقف العربي العالمي الجماعي تخرج سوريا من الحوسة الشامية المدمرة.

(القبس الكويتية)