قضايا وآراء

أطباء مصر لا بواكي لهم

1300x600
على مدار أشهر، وبإيعاز من الحكومة، اعتاد الإنجليز على الخروج إلى الشوارع والوقوف في شرفات المنازل كل خميس من أجل تحية الأطقم الطبية، التي تمثل حائط الصد الأول الذي يحميهم من تداعيات فيروس كورونا، فيستمر التصفيق الحار لمدة دقائق تعبيرا عن الامتنان لما يقوم به هؤلاء من دور بارز في ضمان أمن وسلامة المجتمع.

تذكرت هذا المشهد وأنا أقرأ أخبار الوفيات المتسارعة ببين أطباء مصر، بعد سقوط سبعة أطباء في يوم واحد خلال الأسبوع الماضي، ثم ثلاثة آخرين يوم السبت، ليبلغ إجمالي الوفيات 446 طبيبا منذ بداية أزمة كورونا. ويستمر تآكل الدرع الواقي للمصريين، في الوقت الذي تتسابق فيه دول العالم إلى توفير كافة سبل الحماية للأطباء، وتزويدهم بمعدات الوقاية، ومنحهم الأولوية في تلقي جرعات التطعيم للحفاظ عليهم باعتبارهم ثروة قومية لا تقدر بثمن.

وما بين الدكتور أحمد اللواح، أستاذ التحاليل الطبية بجامعة الأزهر ببورسعيد والذي توفي في آذار/ مارس 2020، والدكتورة أمل سطوحي، آخر ضحايا كوفيد 19، والتي توفيت الأحد في عزل مستشفى الأمل، قائمة طويلة من الأطباء الذين فقدوا حياتهم بسبب فشل المنظومة الصحية في توفير الحد الأدنى من وسائل الحماية.

أوقن تماما أن الموت والحياة بيد الله، وأعلم أن الأطباء معرضون للموت بهذا الفيروس في كل مكان بالعالم وليس في مصر وحدها، لكن الإهمال تحول إلى سياسة ممنهجة في مستشفيات مصر، وأول من دفع ثمنه بعد المرضى الأطباء، الذين يتحملون تبعات الإفلاس الفكري والتخبط الإداري لوزارة الصحة، نظرا لوقوفهم في الخط الأمامي وتعاملهم مع الجمهور مباشرة، والأرقام الرسمية تؤكد هذا الأمر تماما. فمصر تحتل المرتبة 68 عالميا في عدد الوفيات بواقع 12405 حالات، بينهم 446 طبيبا، وبنسبة تبلغ 3,6 في المائة حتى كتابة هذه السطور.

لا أسعى إلى عقد مقارنة بين ما تلقاه الأطقم الطبية في بلاد الغرب وما يحدث في بلادنا، لكنني مضطر لذلك، بعد ما شاهدته من عناية فائقة بهذه الشريحة سواء من الحكومة أو من المجتمع. فقد أعلنت المتاجر الكبرى عن تخصيص أوقات معينة لتسوق الأطباء والعاملين في المستشفيات عند بداية الأزمة ونقص المواد الغذائية ومنحهم خدمة التوصيل إلى المنازل مجانا، وفتحت المدارس أبوابها خصيصا - وقت الإغلاق العام - لاستقبال أبنائهم الذين يحتاجون إلى رعاية. وسعت منظمات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية إلى تقديم مختلف سبل الدعم والمساندة لهم دون كلل أو ملل، بينما أطباء مصر يعانون من نقص حاد في الأدوية والمستلزمات الطبية في المستشفيات، ولا يجدون من يستمع لصرخاتهم واستغاثاتهم، وعندما حاول البعض تكريمهم أطلق عليهم لقب "الجيش الأبيض"، وكأن الكرامة لا تأتي إلا بالانتساب للعسكر أو من يدورون في فلكهم.

لا يتوقف الأمر عند نقص المعدات الطبية ومستلزمات الوقاية، أو حتى الأدوية اللازمة لعلاج المرضى؛ فالطبيب غالبا ما يتحمل فشل وزارة الصحة في توفير الأماكن اللازمة لعلاج المرضى، أو استقبال حالات بعينها، كما يتحمل تنظيم الدخول والخروج من المستشفي. وتتحدث الأخبار بشكل دوري عن حالات اعتداء لفظي وبدني على الأطباء من قبل أهالي المرضى، ولا سيما في المستشفيات التي لا يوجد فيها نظام أمني يكفي لحماية الطاقم الطبي من تلك التجاوزات.

يئس الأطباء من إيصال صرخاتهم واستغاثاتهم المستمرة عبر القنوات الرسمية، فلجأوا إلى وسائل التواصل الاجتماعي لرفع الظلم الواقع عليهم وإنقاذهم من تلك الأحول المتردية، لتنتشر مقاطع الفيديو التي تظهر بوضوح أوجه الخلل في المنظومة الصحية، ويتعرض هؤلاء لسلسلة من الاعتقالات بداعي المساس بالأمن القومي، لمجرد الحديث عن تجاوزات تحدث في المستشفيات يتحمل عواقبها الوخيمة الأطباء ولا أحد غيرهم.

المنظومة الصحية في مصر أصبحت طاردة للأطباء؛ فالرواتب متدنية، ولا يمكن أن تضمن حد الكفاية لمن يفترض أنه يؤدي رسالة سامية، ويحظى بمكانة بارزة في المجتمع. ورغم المخاطر الشديدة التي تعمل الأطقم الطبية في ظلها، فلا يوجد مقابل مادي أو تعويض يناسب طبيعة العمل، أو حتى بدل عدوى يمكن الاعتماد عليه، وهو ما يفسر هجرة ثلاثة آلاف طبيب من مصر خلال العام الماضي فقط. وتتحدث بعض التقارير عن سبعة آلاف تركوا مصر بعد تداعيات أزمة كورونا، رغم النقص الحاد في الأطباء، نظرا لأن عدد الأطباء العاملين في المستشفيات المصرية يقدر بـ82 ألف طبيب، من أصل 213 ألف طبيب مسجّلين بوزارة الصحة، بواقع 38 في المائة من الطاقة القصوى للأطباء، وبنسبة تسرب تقدر بحوالي 62 في المائة من هذا المورد البشري المهم، وهي نسبة خطيرة تستدعي الوقوف أمامها طويلها.

الضغط الشديد الذي يتعرضون له، والبيئة غير المناسبة للعمل، وغياب التقدير المادي والمعنوي.. من أبرز الأسباب التي تدفع الأطقم الطبية إلى البحث عن وجهات بديلة للعمل والاستقرار خارج مصر، وهو ما يستدعي إعادة النظر في أحوالهم، لإيقاف هذا النزيف المتواصل في الكفاءات الطبية، وتحسين تلك الصورة الذهنية التي تشكلت حول أدائهم، بعد مشهد الممرضة التي تفترش أرض المستشفى في وضع الجنين وتنظر بعجز وقلة حيلة لمن حولها. كما يتعين إعادة النظر في سياسة التعتيم الإعلامي وحجب البيانات التي تنتهجها الحكومة المصرية، سواء فيما يتعلق بالأعداد الحقيقية للإصابات أو الضحايا أو الأوضاع الداخلية بالمستشفيات، فقد ولى عصر احتكار الحقيقة.