آراء ثقافية

"قيد مجهول".. المهزوم بطلًا

مسلسل سوري

لم نتفاجأ، إنما غمرتنا الدهشة، إذا ليس غريبًا عن الدراما السورية  تقديم أعمالٍ تحترم مشاهديها، وتمتعهم بالكثير من الحكايا رائعة الصياغة، عميقة المعنى والفكرة، رغم الظروف الصعبة التي مرت بها خلال السنوات العشر الماضية، والتي تسببت بهجرة فنانيها، وغياب الدعم المادي والفنيّ، إضافة إلى انقسام الصفوف.

 

فقد عادت هذه المرة طارقة أبواب الشاشة الصغيرة بمسلسل "قيد مجهول" المعروض مؤخرًا على منصة OSN، والذي لاقى ترحيبًا وإعجابًا لم تحظ به الأعمال الأخيرة في السنوات الماضية، فقد أظهر العمل القدرة الفائقة التي لازال يمتلكها أبناء سوريا من مخرجين وكاتبين وفنانين، والتي تمكنهم من شق الطريق إلى العالمية، فظهر العمل وكأنه فينيق الدراما السورية الذي أعاد خلق وإحياء نفسه من الرماد، وحلق عاليًا، بعيدًا عن التكرار والإسهاب الذي يطغى على الأعمال الدرامية التي لا تقل حلقاتها عن الثلاثين عادةً، فحصد التقدير والإشادة بحلقاته الثمانية فقط.

وسيناريو قيد مجهول عملٌ مشترك، من تأليف لواء يازجي ومحمد أبو اللبن، وإخراج السدير مسعود، وقد أظهر الأخير احترافية عالية استطاعت أخذ المشاهدين في جولةٍ هولوودية.

أدى الفنان عبد المنعم عمايري دور "سمير"، عامل الخياطة صباحًا وسائق التاكسي مساءً، وسمير شخصية طحنت عُمرَها الحياة، فجعلت منه رجلًا مهزومًا لا يُطيق رفع رأسه، ولو كان بيده الأمر لما اختار أن يكون بطل الحكاية، لكنه كان رغم ملامحه المنكسرة، وصوته الضعيف، وظروفه المادية الصعبة. 

إن المقومات المحيطة بطبيعة بطلنا لا يمكن لها بأي شكل من الأشكال أن تجعله سيّد الحكاية من دون حائطٍ صلب يستند عليه، ويظل يدفع به نحو عرشِ البطولة ليتوجّه ملكًا لمصيره وفاعلًا ومؤثرًا قويّا في أحداث عالمه الحكائي، وهذه الشخصية هي التي لعب دورها الفنان باسل خياط "يزن"، وقد مثّل النقيض التام تماما لسمير، فوجد الأخير فيه اكتمالًا وقوة لا مثيل لهما، فيحاول يزن، بنظرته الثاقبة الواثقة، وصوته الحاد، وثقته اللامحدودة أن يصنع من سمير رجلًا حقيقيّا لا يهاب من حوله، بل يهابه من حوله. 

إن الحكاية التي يقوم عليها هذا المسلسل محبوكة بطريقة شديدة التعقيد، لكنها تبدأ بالانحلال شيئًا فشيئًا، وهذه الحبكة ظهرت في المشهد الأول حين قُتل أحد أهم رجال الأعمال والسلطة في منزله، دون الكشف عن هوية المجرم، ثم تبدأ الجرائم بالتوالي ضد شخصيات مقربة من الضحية الأولى، مما يضع "النقيب خلدون" في دائرة محدودة من المشتبه بهم ممن لهم مصلحة بالتخلص من الضحايا، لتظهر لنا نهاية لم تكن متوقعة بتاتًا، لا تكشف عن القاتل فحسب، بل تعيد بناء تركيب أجزاء اللوحة كاملة بدءًا من معرفة المجرم الحقيقي إلى إعادة تكوين وبناء العلاقات بين الشخصيات الأساسية، فتظهر الصورة مكتملة، تعكس حكاية مريرة يعيشها سمير البطل المشؤوم. 

لم تعتد الدراما السورية على أعمال مشابهة للعمل المذكور، فقد كان مختلفًا في العديد من الجوانب عن ما تم تقديمه سابقًا، فالموضوع التي طرق الكاتبان بابه لم يطرقه أحد من قبل، وقد فُتح أمامنا باب يكتنفه الغموض حول واقع الاضطرابات والأمراض النفسية التي تعيشها شريحة لا يستهان بها في العالم العربي، والتي قلما يُعترف بحقيقة وجودها، فتزداد وطأتها حدّة على المريض ومن حوله، مشكّلة كارثة تتوقف بعد فوات الأوان، وقد نوّه العمل للآثار السلبية والنفسية المدمرة التي خلفتها الحرب السورية على المواطن السوري، فجعلت من حياته جحيما لا يُحتمل، وجرّته إلى أفعالٍ لم تكن لتمثله في ظروف مغايرة، فإن كان إنسانا مستقر النفس متزنا فإنها ستزلزل استقراره ذاك، وإن كان يحمل عقدا واضطراباتٍ أزلية فإنها حتما ستزيد شرارتها اشتعالًا وتُغرق صاحبها في الجحيم. 

بالحديث عن "قيد مجهول" لا بد من التطرق إلى الأداء المبهر لكل من عبد المنعم وباسل، وهما فنانان محترفان بلا شك، ومن المعروف بأن الفنان باسل طرق باب النجومية بالفترة الأخيرة، فخاض التجربة اللبنانية والمصرية وخرج منهما بنجاح ساحق، وكان فنان الشاشة الكبيرة والصغيرة بشهادة النقاد، وقد أضاف مسلسل قيد مجهول من رصيده الإبداعي خلال رحلته التي كانت مكللة بالنجاح سواء بحصوله شبه الدائم على البطولة، أو أدائه المحترف، أو تنوع وشمولية أدواره التي يحظى بها. 

لكن الأمر كان مختلفا بالنسبة لعمايري، الفنان الذي أظهر المسلسل كمية الظلم الواقع عليه إعلاميا وفنيا، فقدرته الفائقة التي كللت المسلسل بالنجاح لم تكن خافية على أحد ممن شاهد العمل، فقد أدى البطولة بطريقة تجعل منه مستحقا لخوض تجربة فنية عالمية تحظى بإعجاب الجميع دون خلاف، فكانت هذه المرة مختلفة تماما عن أدواره السابقة والتي تتشابه تقريبًا، مما يجعل أداءه يظهر بالملامح واللغة الجسدية نفسها نظرا لتشابه المواقف الدرامية له في كل مرة، فكان قيد مجهول بمثابة إنصاف حقيقي لهذا الفنان الرفيع المستوى، وكذلك الأمر بالنسبة للفنانة ناظلي رواس التي أبدعت في تجسيد الشخصية وإقناع المشاهدين. 

رغم النجاح الذي حققه العمل فإن ذلك لم يحجبه عن التعرض لبعض الانتقادات، حيث رأى بعض المتابعين أن العمل لا يعكس روح الأعمال السورية التي اعتدنا مشاهدتها، وربما كان ذلك بسبب بعض المشاهد الجريئة والتي لم تتجاوز المشهدين، والتي قد نجد لها مبررا درامية، إلا أنني أعتقد بأن الغرض منها هو حصد أكبر عدد من المتابعين وزج العمل في صف الأعمال العالمية، إضافة إلى اتهام العمل باقتباس الحكاية من الفيلم الشهير FIGHT CLUP المأخوذ عن رواية تحمل نفس الاسم. 

لكن يظل مسلسل قيد مجهول تجربة جديدة في عالم الدراما السورية تستحق الإعجاب والمشاهدة.