مقالات مختارة

هل حرية الصحافة تكفي؟!

1300x600

عام 1986 استقبل السيد أحمد المستيري زعيم المعارضة التونسية آنذاك ومدير جريدة "المستقبل" الأسبوعية الهيئة المديرة لجمعية الصحافيين التونسيين وقد كنت من بينها.


تحدث وقتها هذا المناضل ضد الاستعمار الفرنسي وأول وزير للعدل في حكومة الاستقلال عام 1956 قبل أن ينتقل إلى مناصب عليا مختلفة في تونس وخارجها عن أهمية حرية الصحافة في أي بلد، إلى درجة أنه قال إنه إن خيّروه بين هذه الحرية وباقي الحريات كلها لاختارها هي دون تردد، لأنها هي التي يمكن أن تقود إلى غيرها.


كان المستيري، أطال الله في عمره، أول من اصطدم بدايات سبعينيات القرن الماضي، مع ثلة من الشخصيات الوطنية الأخرى، بالرئيس الحبيب بورقيبة والسبب مسألة الديمقراطية داخل الحزب الحاكم وفي البلاد، مما جعله ينتقل إلى المعارضة منذ ذلك التاريخ إلى أن قرر في السنوات الأولى لحكم زين العابدين بن علي ترك السياسة.


في الذكرى الثلاثين لليوم العالمي لحرية الصحافة في الثالث من مايو/ أيار الحالي، تذكرت ما قاله المستيري وكنت أتمنى أن أعرف إن كان ما زال يحتفظ بنفس هذا الرأي في ضوء ما تعيشه تونس منذ الاطاحة ببن على قبل 11 عاما من حرية صحافة تبدو بلا حدود. قابلته في بيته في ضاحية المرسى، والذي لم يعرف غيره طوال هذه السنوات، في أوج حالة النشوة التي أعقبت الثورة التونسية فبدا وكأنه استعاد شبابه مفعما بالآمال بل وراغبا في المساهمة في هذه الأجواء الجديدة قبل أن يتوارى بسرعة من جديد.


مرد رغبتي في طرح هذا السؤال عليه هو أن حرية الصحافة في تونس وإن أطاحت تماما بكل ما عرفته لعقود من قيود فلم يعد أحد، مهما كان، خارج النقد أو الهجوم إلا أنها لم تهتد بعد، إلى الآن على الأقل، إلى هذه الحرية وفق الأصول المهنية المتعارف عليها ووفق الأخلاقيات التي تنظم هذه الحرية حتى في أعرق الديمقراطيات. كما أن هذه الحرية الجارفة لا تبدو، إلى حد الآن على الأقل، أنها بصدد التأسيس لحريات أخرى وتصليب عودها وإرساء الحكم الرشيد الملتزم بالقانون والبعيد عن شبهات استغلال النفوذ أوالفساد بشكل خاص.


طبعا، عمليات الانتقال الديمقراطي ليست يسيرة، لا في تونس ولا في غيرها، ومن غير المتوقع استقرار تقاليد حرية صحافة حقيقية بسرعة خاصة بعد عقود من الكبت والقمع، لكن ذلك لا يمنع من التنبيه إلى واقع يخشى أن يترسخ فيصبح هو القاعدة. يزداد الأمر تعقيدا عندما ترى أن هذا الإعلام في تونس، وأغلب "نجومه" إلا ما رحم ربك، متورط في لعبة لوبيات المال والفساد، الداخلي والخارجي على حد سواء، بحيث بات همّه الأول ليس إنارة الرأي العام وإنما توجيهه وفق خطط وتعليمات أسوأ من يوجد بين أهل السياسية والأعمال ومن يقف وراءهم بتلويناتهم المختلفة، من داخل دائرة الحكم نفسها ومن خارجها.


لا أعرف ما الذي يمكن أن يفكر فيه الآن السيد أحمد المستيري وما إذا كان غيّر رأيه الذي قاله لنا قبل 35 عاما لكن ما أعرفه قطعا الآن، في تونس على الأقل، أن حرية الصحافة وإن ساهمت بلا جدال في فضح الكثير من القضايا التي كان يمكن أن تُقبر لولا الإعلام وساهمت كذلك في مزيد انخراط الناس في قضايا الشأن العام التي كانوا يتحاشون الخوض فيها من قبل، إلا أن المشكل أن هذه الحرية إن أمسك بخيوط لعبتها أناس لا همّ لهم سوى توظيفها لأغراض شتى فإنها لن تقود بالضرورة إلى تدعيم ركائز باقي الحريات بل قد تتحول إلى سلاح لتصفية الحسابات بين مراكز فساد مختلفة آخر ما تريده هو نجاح التجربة التونسية الغضة.


في دول عربية أخرى كلبنان أو العراق مثلا بإمكان الصحافيين أن يكتبوا ما يريدون، أو استضافة من يريدون ليقولوا ما يريدون، لكن ذلك لم يقد إلى ترسيخ شيء ذي قيمة في بلادهم من زاوية باقي الحريات وحكم القانون لأن الفساد أمسك بكل مفاصل الدولة فلم تعد لهذه الحرية الصحافية من معنى حقيقي، بل إن هناك من دفع حياته ثمنا لآرائه لأنها اصطدمت بحسابات ومصالح طائفية وإقليمية لا ترحم.


تونس وإن كانت، ولله الحمد، لا تعاني من هذه الإشكالات الطائفية وليست في قلب معادلة إقليمية ملغومة بالحسابات الإيرانية والإسرائيلية والدولية إلا أن تجربتها يمكن أن تقودنا إلى نفس الاستنتاج وهو أن حرية الصحافة إذا لم ترفدها بالتوازي طبقة سياسية ناضجة ومحترمة ومناخ يعلي من شأن القانون وضرورة المحاسبة وتجنب الإفلات من العقاب فقد تتحول إلى حرية لا معنى لها، بل وقد تتحول إلى صداع يتذمّر منه كثيرون حين يلمسون أن لا شيء من حولهم يتحرك نحو الأفضل وأن لا صوت يُسمع في النهاية إلا هذه الثرثرة في وسائل الإعلام التي يزيدها سوءا الموتورون الردّاحون في مواقع التواصل.

 

(القدس العربي اللندنية)