كتب

محمد عمارة: الإسلام يرى في الحرية جوهر الحياة لدى الإنسان

محمد عمارة: الإسلام دين أصل لحقوق الإنسان بكل مستوياتها

الكتاب: "الإسلام وحقوق الإنسان.. ضرورات لا حقوق"
المؤلف: د. محمد عمارة
الناشر: دار الشروق

الشائع في الكتابات السياسية والقانونية أن عهد الإنسان بالوثائق التي بلورت حقوقه الإنسانية، قد بدأ بفكر الثورة الفرنسية التي بدأت أحداثها عام 1789م، فإبان هذه الثورة وضع "أمانول جوزيف سيس" وثيقة حقوق الإنسان، تلك التي أقرتها "الجمعية التأسيسية" وأصدرتها "كإعلان تاريخي"، ووثيقة سياسية واجتماعية ثورية في 26 آب (أغسطس) 1789م. وقد كانت المصادر الأساسية لفكر هذه الوثيقة هي: نظريات المفكر الفرنسي "جان جاك روسو"، و"إعلان حقوق الاستقلال الأمريكي" الصادر في 4 تموز (يوليو) سنة 1776م.

وقد نصت هذه الوثيقة الفرنسية على حقوق الإنسان "الطبيعية" مثل حقه في "الحرية"، وحقه في "الأمن"، وعلى "سيادة الشعب كمصدر للسلطات في المجتمع"، وعلى "سيادة القانون كمظهر لإرادة الأمة"، وعلى "المساواة بين جميع المواطنين" أمام الشرائع والقوانين.. إلخ.

ذلك هو التاريخ الشائع لنشأة حقوق الإنسان، وهو تاريخ إذا تأملناه وجدناه "التاريخ الأوروبي" لحقوق الإنسان، فليس فيه قليل أو كثير عن "الفكر" أو "الشرائع" التي عرفتها حضارات قديمة غير أوروبية عن حقوق الإنسان.

وفي كتاب "الإسلام وحقوق الإنسان: ضرورات لا حقوق" يحاول المفكر الإسلامي الكبير الراحل محمد عمارة إيضاح موقف الشريعة الإسلامية من حقوق الإنسان، وقد وهب الدكتور عمارة حياته كلها للدفاع عن الإسلام ورد الشبهات ودحضها. فلذلك ترى جميع كتبه تتصدر في هذا الصدد.

 

 



يؤكد الكاتب أن "حقوق" الإنسان التي يُطالبون بها هي في الإسلام "ضرورات" لا غني عنها للفرد المسلم أو غير المسلم، وقد بلغ الإسلام في الإيمان بالإنسان، وفي تقديس "حقوقه" إلى الحد الذي تجاوز بها مرتبة "الحقوق" عندما عدَّها "ضرورات" ومن ثم أدخلها في إطار "الواجبات". فالمأكل والملبس والمسكن، والأمن، والحرية في الفكر والاعتقاد والتعبير، والعلم والتعليم، والمشاركة في صياغة النظام العام للمجتمع والثورة لتغيير نظم الضعف أو الجور والفساد.. إلخ كل هذه الأمور هي في نظر الإسلام ليست فقط "حقوقاً لللإنسان من حقه أن يطلبها ويسعى في سبيلها ويتمسك بالحصول عليها، ويحرم من صده عن طلبها، وإنما هي أيضاً "ضرورات واجبة" لهذا الإنسان.

إنها ليست مجرد "حقوق"، من حق الفرد أو الجماعة أن يتنازل عنها أو عن بعضها، وإنما هي "ضرورات" إنسانية، لا سبيل إلى "حياة" الإنسان بدونها، حياة تستحق معنى "الحياة"، ومن ثم فإن الحفاظ عليها ليس مجرد "حق" فقط للإنسان بل هو "واجب" عليه أيضاً، يأثم هو ذاته ـ فرداً أو جماعة ـ إذا هو فرط فيه، فضلاً عن الإثم الذي يلحق كل من يحول بين الإنسان وبين تحقيق هذه "الضرورات". إنها "ضرورات" لابد من وجودها ومن تمتع الإنسان بها، وممارسته إياها، كي يتحقق له المعنى الحقيقي للحياة، وإذا كان العدوان على "الحياة" من صاحبها ـ بالانتحار ـ أو من الآخرين ـ بالقتل ـ جريمة كاملة ومؤثمة، فكذلك العدوان على أي من "الضرورات" اللازمة لتحقيق جوهر هذه "الحياة".

يرى الدكتور عمارة أن الإسلام يبلغ في تقديس هذه "الضرورات الإنسانية الواجبة" إلى الحد الذي يراها الأساس الذي يستحيل قيام "الدين" بدون توافرها للإنسان، فعليها يتوقف "الإيمان" ومن ثم "التدين" بالدين.

ضرورة الحرية:

الحرية الإنسانية في عرف الإسلام واحدة من أهم "الضرورات"، وليس فقط "الحقوق" اللازمة لتحقيق إنسانية الإنسان، فالإسلام يرى في "الحرية" الشيء الذي يحقق معنى "الحياة" للإنسان، فيها حياته الحقيقية، وبفقدها يموت، حتى لو عاش يأكل ويشرب ويسعى في الأرض كما هو حال الدواب والأنعام. 

يقول المؤلف في صفحة (20): "ظهر الإسلام في مجتمع تعددت فيه جنسيات الأرقاء، زنجاً وروماً وفرساً.. إلخ، وأهم من ذلك تعددت فيه المصادر والروافد التي تمد "نهر الرقيق" بالمزيد والمزيد من الأرقاء، والتي تجعل من هذا النهر دائم الفيضان، فلما جاء الإسلام اتخذ من هذا "النظام العبودي" الموقف "الثوري ـ الممكن"، الضامن إلغاء الرق، ولكن بالتدريج، لقد وجد الحروب القبلية التي لا تنتهي مصدراً من مصادر الاسترقاق، والغارات القبلية والفردية مصدراً ثانياً، والفقر المتفشي الذي يلجئ إلى الاستدانة مصدراً ثالثاً، وكان الربا الذي يقرضه المرابون أضعافاً مضاعفة، في مجتمع فقير اختلت فيه موازين العدل الاجتماعي اختلالاً فاحشاً، كان هذا الربا باعثاً على ازدياد حدة الفقر الذي يفضي بالبعض إلى السقوط في "نهر الرقيق".. 

جاء الإسلام فواجه هذا "الواقع" بالإجراء الثوري الممكن، فأغلق كل المصادر والروافد التي تمد "نهر الرقيق" بالمزيد والجديد من الأرقاء، ولم يبق منها سوى الحرب المشروعة، بل وحتى أرقاء هذه الحرب وأسراها شرع لهم الفداء سبيلاً لحريتهم، ثم ذهب فوسع المصاب التي تؤدي إلى تجفيف نهر الرقيق بالعتق والتحرير".

 

الحرية الإنسانية في عرف الإسلام واحدة من أهم "الضرورات"، وليس فقط "الحقوق" اللازمة لتحقيق إنسانية الإنسان، فالإسلام يرى في "الحرية" الشيء الذي يحقق معنى "الحياة" للإنسان، فيها حياته الحقيقية، وبفقدها يموت، حتى لو عاش يأكل ويشرب ويسعى في الأرض كما هو حال الدواب والأنعام.

 



لقد رغب الإسلام المسلمين في عتق الأرقاء، بأن جعله قُربة يتقربون بها إلى الله، كما شرع لتحرير الرقيق تشريعاً جعله مصرفاً دائماً من مصارف الصدقات وبيت المال العام "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" (التوبة 60)، فهي "فريضة واجبة" فرضها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم، كما كانت إعانته "للغارمين" على سداد ديونهم، وكذلك تكافله الاجتماعي السياج الوقائي الحامي لعامة الناس من الوقوع في هاوية الاسترقاق.

يقول المؤلف في صفحة (22): "والذين ينظرون في آيات القرأن الكريم لابد أن يستلفت بصيرتهم أن المصطلح القرآني الذي تناول الرقيق هو مصطلح "الرقبة"، وليس "العبد"، وأن هذا المصطلح مقترن دائماً في القرآن بالتحرير (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً ۚ وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا ۚ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء 92)...." وهديناه النجدين، فلا اقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة، فك رقبة" (البلد: 10ـ13)".

وإذا تأملنا تشريع القرآن الكريم "تحرير رقبة" بحسبانه كفارة عن "القتل الخطأ" أدركنا كيف تساوت "الحرية" في هذا التشريع "بالحياة"، يقول الله سبحانه وتعالى: "ومن قتل مؤمناً خطئاً فتحرير رقبة مؤمنة" (النساء 92)، ففي مقابل "إعدام حياة" إنسان بالقتل، يكون "إحياء ذات" رقيق بالحرية، لأن رقه يساوي موته، بينما تحريره هو الحياة. ولأن القاتل عندما أخرج نفساً مؤمنة من جملة الأحياء، لزمه أن يدخل نفساً مثلها في جملة الأحرار، لأن إطلاقها من قيد الرق كإحيائها.

ضرورة الشورى:

لم يقف الإسلام من "الشورى"، عند حد حسبانها "حقاً" من حقوق الإنسان، وإنما ذهب فيها إلى الحد الذي جعلها "فريضة شرعية واجبة" على الأمة كافة، حكاماً ومحكومين في الدولة وفي المجتمع، وفي الأسرة، وفريضة حتى على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في شئون الحكم والسياسة والعمران الدنيوي، لأنه في هذا الميدان كان مجتهداً غير معصوم، فما بالنا بالحاكم إذا لم يكن نبياً ولا رسولاً، فيقول الله سبحانه، مخاطباً رسوله: "..وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين" (آل عمران 159).
 
لكن مظالم الفردية والاستبداد التي جنحت بعيداً عن هذه الفلسفة للحكم، قد أثمرت عصورها المظلمة وتطبيقاتها الظالمة فكراً هزيلاً، ويرد الدكتور عمارة على فقهاء الملوك والأمراء والسلاطين الذين زعموا أن الشورى غير ملزمة للحاكم، وأنه عليه أن يستشير ثم بعد ذلك يمضي ما رآه حتى لو خالف الأمة جمعاء، فيقول في (صفحة 39): "لقد حاول هذا النفر من فقهاء السلاطين تزوير نسب هذا الفكر الشائه إلى الإسلام، فقالوا إن هذا ما يعنيه قول الله سبحانه في هذه الآية: (فإذا عزمت فتوكل على الله).. فإذا استشار الحاكم كان قد أدى ما عليه، وله بعد ذلك أن يعزم، أي يقرر ما يشاء، ونسوا أن هذا "العزم" (القرار) هو في سياق الآية ثمرة الشورى، فالشورى إذا جردت من ثمرتها، وهو القرار (العزم) كانت عقيماً، بل كانت "مسرحية عبثية" يجب أن يتنزه عنها الفكر الذي يعرض لآيات الله سبحانه بالنظر والتفسير".

 

كانت الشورى سبيل اجتماع الكلمة على القرار الذي اتخذه الخليفة الأول بمحاربة الذين ارتدوا عن "التوحيد الديني"، والذين ارتدوا عن "وحدة الدولة"، وكذلك استمرت سنة الشورى في عهد عمر بن الخطاب، فهو قد استشار الناس في تطوير جهاز الدولة على النحو الذي يلائم اتساعها بعد فتح ما فتح الله عليهم من البلاد،

 


ثم يكمل في (صفحة 47): "نجد الشورى فريضة متبعة، ونهجاً يلتزمه النبي (صلى الله عليه وسلم)، في كل شؤون الحرب والقتال، ففي اختيار موقع نزول الجيش بغزوة بدر، عدل الرسول عن رأيه، وأخذ برأي الصحابي الحباب بن المنذر، وفي قتال المشركين يوم بدر، ولقائهم خارج المدينة، سلك الرسول سبيل الشورى، لأن هذا اللقاء كان يتطلب تطوير التعاقد السياسي الذي تم بينه وبين الأنصار في بيعة العقبة، فلقد عاهدوه يومئذ على حمايته بمدينتهم، ولم يعاهدوه على الخروج للحرب فيما وراء المدينة... وفي أسرى غزوة بدر استشار رسول الله أبا بكر وعلياً وعمر في أسرى المشركين... وكما كان هذا موقف الرسول من الشورى في شئون الحرب والقتال، كان له منها ذات الموقف في سياسة أسرته وأهل بيته، ففي حادثة الإفك الذي رميت به أم المؤمنين عائشة، دعا رسول الله علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد ليستشيرهما في فراق أهله".

هذه الشورى الإسلامية التي استقرت في القرآن الكريم وفي السنة النبوية الشريفة فلسفة للحكم وسبيلاً لسياسة الرعية، لم تذهب بانتقال الرسول إلى جوار ربه، بل استمرت في دولة الخلافة الراشدة، التي تأسست بالشورى، فكانت الشورى سبيل الاختيار والبيعة لأبي بكر أول خليفة على المسلمين بعد وفاة الرسول عليه السلام. 

وكانت الشورى سبيل اجتماع الكلمة على القرار الذي اتخذه الخليفة الأول بمحاربة الذين ارتدوا عن "التوحيد الديني"، والذين ارتدوا عن "وحدة الدولة"، وكذلك استمرت سنة الشورى في عهد عمر بن الخطاب، فهو قد استشار الناس في تطوير جهاز الدولة على النحو الذي يلائم اتساعها بعد فتح ما فتح الله عليهم من البلاد، فدونت الدواوين، وأصبح للدولة جيش نظامي، وجعل الأرض الزراعية في البلاد المفتوحة ملكاً للأمة جمعاء، الحاضر من أجيالها والقادم، ورفض توزيعها على الجند الفاتحين، وقد صنع هذا التحول الهائل والتغييرات الجذرية في الأوضاع الاقتصادية للدولة بالشورى التي اتخذت أشكالاً وسبلاً كثيرة منها التحكيم.

تلك هي الشورى الإسلامية، الأمة فيها وبها هي مصدر السلطات وصاحبة السلطان في سياسة الدولة وتنظيم المجتمع وتنمية العمران.