اقتصاد عربي

"السقوط في الفخ".. من المسؤول عن انهيار أوضاع لبنان؟

الأزمات المتلاحقة تعصف بكل مفاصل الحياة في لبنان وسط تدهور اقتصادي ومعيشي هو الأسوأ بتاريخ البلاد- جيتي

عصفت الأزمات المتلاحقة بكل مفاصل الحياة في لبنان -الذي كان يكنّى في ستينيات القرن السابق بسويسرا الشرق-، وسط تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية إلى مستويات غير مسبوقة، هي الأسوأ في تاريخ البلاد.

 

وأصبح المشهد الحالي هو الأكثر قتامة وفتكا في تاريخ لبنان المعاصر، فلم يعد أبناء لبنان هم أنفسهم قبل سنتين، فالرواتب لا قيمة لها بفعل ارتفاع الدولار بشكل جنوني وبفترة قياسية خارج حسبة مصرف لبنان المتمسك بسعر الصرف القديم 1500 ليرة للدولار الواحد في حين تبلغ قيمته الفعلية في أسواق العملة السوداء 20 ألف ليرة.

 

"السقوط الحر"

 

وكانت "عربي21" قد رصدت في تقرير موسع عن انهيار الاقتصاد اللبناني، رحلة سقوط الليرة اللبنانية في 77 عاما من 3.2 ليرات للدولار الواحد عام 1964 إلى 9000 ألف ليرة للدولار الواحد في تموز/يوليو 2020، قبل أن تواصل السقوط الحر حتى وصلت إلى مستوى 20000 ليرة للدولار الواحد في تعاملات السوق السوداء، مقابل سعر صرف رسمي ثابت عند 1507 ليرات مقابل الدولار.

 

وشهد الاقتصاد اللبناني خلال رحلة سقوطه من العصر الذهبي وصولا إلى حافة الهاوية مراحل فاصلة وأحداثا محورية، أثرت بشكل كبير سلبا وإيجابا على مساراته ومؤشراته الرئيسية، من أبرزها اندلاع الحرب الأهلية التي استمرت بين عامي 1975 و1990، مرورا بالاجتياح الإسرائيلي في حزيران/يونيو 1982، والأزمة السياسية في عهد الرئيس أمين الجميل في تشرين الثاني/نوفمبر 1987، وتشكيل حكومة عسكرية في أيلول/سبتمبر 1988، بعد تعذر انتخاب رئيس جديد للبلاد، ثم الإطاحة بها في 13 تشرين الأول/أكتوبر 1990 ليسدل الستار على الحرب الأهلية.

 

وبدأت بعد الحرب الأهلية عملية إعادة الإعمار وتشكيل الحكومة الأولى لرئيس الوزراء رفيق الحريري في تشرين الأول/أكتوبر 1992، وصولا إلى بدء الاحتجاجات الشعبية في البلاد ضد فساد الطبقة السياسية الحاكمة وما ترتب عليها من استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري المدعومة من حزب الله في تشرين الأول/أكتوبر 2019، وتشكيل حكومة حسان دياب المدعومة من تيار حزب الله في 21 كانون الثاني/يناير 2020، قبل أن تستقيل في 10 آب/أغسطس إثر فاجعة انفجار مرفأ بيروت وتصاعد الغضب الشعبي وارتفاع حدة الضغوط عليها.

 

اقرأ أيضا: "عربي21" ترصد رحلة انهيار اقتصاد لبنان (77 عاما في أرقام)

أزمات مركبة

 

وبموازاة تدهور العملة اللبنانية شهدت أسعار السلع ارتفاعا جنونيا هي الأخرى ولم يعد راتب متوسط الدخل اللبناني الذي كان يقارب سابقا بالعملة الوطنية ألف دولار شهريا كفيلا بأن يؤمن أبسط مقومات العيش بعد أن تدهورت قيمة الراتب إلى ما يوازي أقل من مئة دولار.


ووسط التدهور المالي ثمة تدهور في مجالات الحياة كلها، المحروقات بمختلف أشكالها باتت تتأرجح وسط مطالبات المُصَدرين بحقوقهم قبل تفريغ حمولة أي باخرة نفطية. وهنا يبرز دور مصرف لبنان الذي يصول ويجول ويصمت ويتكلم أخيرا فيمنّ على اللبنانيين بجرعة دعم ولكن من أموالهم المحتجزة في المصرف للسماح بتفريغ كميات نفطية مدعومة بأقل من سعرها والأفظع بأن جلها يهرب إلى سوريا كي يباع هناك في السوق السوداء.

 

حتى اللبناني الذي وضع جَني عمره في المصرف بعد رحلة عمل طويلة في الخارج، أو بفعل ميراث أو استثمار أو تعويض لنهاية الخدمة بات الآن هو الآخر مفلسا، والمصارف تقول لا أموال لدي في حين الأرقام تكشف عن تهريب أموال للخارج سنويا بمليارات الدولارات لطبقة نافذة ربما هي في الأصل لب الأزمة اللبنانية وعنوان الفساد المتحكم بها.

 

كل هذه الأزمات المتلاحقة والمركبة يخالطها جدليات وتساؤلات عن فعالية أجهزة الدولة لحماية اللبناني من جشع المتحكمين بمصيره الحياتي والمعيشي.

 

وفي زحمة هذا كله، عتمة الكهرباء تضاف إلى عتمة الضيق الذي يشد خناقه على لبنان فيما يبدو الأمل مفقودا إلا ممن وجد في فسحة أمل تشكيل حكومة جديدة بداية خلاص وبرعاية دولية.

الأمل موجود


ورأى نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي أن الوضع في لبنان كارثي غير أن الأمل ما زال حاضرا للخروج من الأزمة من البوابة السياسية عبر تشكيل حكومة إنقاذ تتصدى للملفات الثقيلة بدعم ورعاية دولية مالية وسياسية.

 

وانتقد الفرزلي في حديثه لـ"عربي21" من يصنف لبنان بأنه دولة ساقطة قائلا: "تشكيل الحكومة يشكل مناعة ويعيد الأمور إلى سكة صحيحة عنوانها معالجة الأزمات للخروج من النفق الصعب الذي نمر به".

 

وشن الفرزلي هجوما لاذعا على من وصفهم بالمشككين في إمكانية النهوض عبر تشكيل الحكومة، قائلا: "هم سبب الانهيار الحاصل وأداؤهم أدى إلى تعطيل عجلة التقدم والاقتصاد".

 

وأضاف: "كل دول العالم مرت بتجارب مماثلة وذهبت بعد التحصين الحكومي إلى الحوار مع المؤسسات الدولية في سبيل إيجاد المخارج للأزمات أيا كانت سياسية أو أمنية أو اقتصادية، ومن يتحدث بهذا المنطق ربما يأمل في أن يكون حاضرا في الحكومة كي يصفها بأنها حكومة فاعلة وقادرة على المعالجة".


وحول استحكام الفساد في مفاصل الدولة وفقا لتقارير دولية، رأى أن "الفساد ليس جديدا في لبنان وكانت هناك محاولات للتصدي له ومواجهته، وبالتأكيد هو السبب في بلوغ الأوضاع إلى هذا المستوى لكن ليس هو العامل الوحيد فهناك العديد من العناصر التي شكلت وقود الأزمة اللبنانية".

 

وتابع: "العوامل هي الإقليمية والدولية والصراع والحصار المفروض على المنطقة وعلاقات لبنان مع الدول المحيطة به أو الفاعلة إضافة إلى العنصر الداخلي المتعلق بتعطيل تشكيل الحكومة".


وحول تقييمه لأداء مصرف لبنان حيال الأزمة، أكد أن "المصرف يقوم بما هو متاح أمامه من خيارات، وبالتالي لا يستطيع اجتراح حلول سحرية".

 

ورغم تشاؤمه من قدرة نتائج الانتخابات القادمة على إحداث تغيير في المشهد السياسي الحالي، لكنه أعرب عن إيمانه بالغد اللبناني وذلك بناء على المعطيات المتوفرة فأي انفراج إقليمي سينعكس إيجابا وحتما على الوضع اللبناني.


وعن موقفه من مشاهد معاناة اللبنانيين في طوابير محطات البنزين وأمام الصيدليات، قال: "هذه المشاهد تدفعني إلى التأمل والقناعة بضرورة محاكمة من وقف حائلا دون تشكيل الحكومة".

 

اقرأ أيضا: "صراع الجبابرة".. هذه أسباب انفجار الأزمة الاقتصادية بلبنان

"الفخ الكبير"


وتحدث الخبير الاقتصادي الدكتور أيلي يشوعي عن صعوبة خروج لبنان من أزمته الخانقة في ظل المعطيات الراهنة. وقال خلال حديثه لـ"عربي21": "وقعنا في فخ كبير عندما باتت الدولة اللبنانية مفلسة وفي الوقت عينه وقع المودعون في المصارف اللبنانية في فخ أكبر عندما فقدوا جني عمرهم وذلك استنادا إلى لغة الأرقام حيث لم يتبق من أموال المقيمين والمغتربين البالغة 120 مليار دولار سوى 10 مليارات موجودة في المصرف المركزي فضلا عن قضية مركزية هامة تتعلق بإفلاس الخزينة اللبنانية".

 

وكشف يشوعي عن أن "المورد المالي للبنان مفقود ومنهوب"، لافتا إلى أن "التدقيق المالي الجنائي للكشف عن المتسبب في ضياع أموال المودعين معطل من قبل المصرف المركزي بشخص حاكمه رياض سلامة"، متهما إياه بوضع "العراقيل للحيلولة دون الكشف عن حقيقة ما حصل من سرقة ممنهجة ومنظمة لأموال المودعين".

 

وأعرب عن تشاؤمه في إيجاد حلول للخروج من الأزمة المالية الخانقة، منتقدا الاستخفاف بمطالب مودعين وصفهم بالمساكين أغلبهم ممن قضى سنين عمره يستثمر من أجل مستقبله وهذا يعني بأن الفقر ضرب شريحة واسعة من اللبنانيين ولا يزال يفتك بغيرهم مما يهدد فعليا بتغيير الوضع السابق للبنان كليا من النواحي كافة الاقتصادية والمعيشية والأمنية وليصبح اللبنانيون بسوادهم الأعظم فقراء من دون موارد مالية جدية".


ورفض يشوعي منطق الدعم لبعض السلع وللمحروقات الذي يتبناه المصرف المركزي "لكونه يستنزف ما تبقى من أموال المودعين ومصيره إلى جفاف"، واصفا حكومة تصريف الأعمال التي يرأسها حسان دياب بـ"الغبية" لأنها لم تدفع موجبات الدين العام اللبناني لعام 2020 والبالغة في قيمتها السوقية 1.8 مليار دولار في حين بلغت قيمتها الخارجية 2.5 مليار دولار فيما قام المصرف المركزي بنهب أموال المودعين بدءا بالتفريط بـ11 مليار دولار بذريعة الدعم الذي لم يوجه فعليا إلى اللبنانيين، بل بات واضحا استغلاله من قبل سماسرة سياسيين من مهربين ومنتفعين وغيرهم بينما بقي اللبناني المعدم يرزح تحت وطأة المعاناة".

 

"خارطة النفوذ"

 

وأوضح أن بدايات الأزمات في لبنان "منذ عهد رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري ومعه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة"، محملا الأحزاب اللبنانية المسؤولية الأكبر لما وصلت إليه الأوضاع في البلاد.

 

واستطرد: "صنعت تلك الأحزاب 5 مناطق نفوذ في لبنان مما أثبت بالوجه القاطع بأن الولاء الحزبي ليس للبنان وإنما للزعماء وللجهة الخارجية الموجهة والداعمة لكل حزب على حساب أمن واستقرار واقتصاد ومالية لبنان".

 

وتابع: "خارطة مناطق النفوذ تتشكل وفقا لما يلي: الأمريكية، والروسية- السورية والسعودية والفرنسية والإيرانية".

 

وشدد يشوعي على أهمية أن تتوافق الدول المعنية فيما بينها على الملفات اللبنانية المعقدة بما فيها الوضع الداخلي وعلاقات لبنان الخارجية وملف استخراج النفط والغاز، مؤكدا أنه في حال تعذر هذا التوافق فإن الوضع اللبناني يتجه نحو التقسيم وفقا لخارطة النفوذ.