كتاب عربي 21

تحقيق "بيغاسوس" عن التجسس.. والقدس.. وديمقراطية الاحتلال!

1300x600

لم نكن بحاجة لأي دليل لنكتشف زيف ادعاء المستعمرة الصهيونية في فلسطين بأنها "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، إذ لا يمكن لنظام فصل عنصري أن يكون ديمقراطيا، حتى ولو مارس بعض إجراءات "العملية الديمقراطية" على من يعتبرهم "مواطنين من الدرجة الأولى"، واقترف بالمقابل كل أنواع الجرائم ضد السكان الأصليين، سواء من كانوا يعيشون كمواطنين من الدرجة العاشرة تحت حكمه، أو كانوا في مناطق السلطة "الفلسطينية" التي تعمل لحسابه.


وعلى الرغم من الحقائق الدامغة التي تؤكد كل يوم عنصرية هذا الاحتلال وكذب ادعاءاته عن "الديمقراطية"، إلا بعض الواهمين من عرب وغربيين وغيرهم حول العالم لا يزالون عرضة لهذه الخديعة. لمثل هؤلاء تأتي الأحداث تباعا لتثبت لهم حجم الوهم الذي يعيشون فيه.


آخر هذه الأحداث هو التحقيق الخطير الذي نشرته صحيفة "واشنطن بوست" بالتعاون مع 16 جهة مستقلة حول ضحايا برنامج التجسس "بيغاسوس" الذي تنتجه شركة "أن أس أو" (NSO) الإسرائيلية، وهي شركة تعمل برعاية ورقابة أجهزة أمن الاحتلال. يذكر التحقيق الذي ترجمته "عربي21" أن كثيرا من الضحايا هم معارضون لأنظمة ديكتاتورية وزوجاتهم وعائلاتهم، رغم ادعاء الاحتلال أن البرنامج مخصص فقط لملاحقة واختراق "الإرهابيين" والمتطرفين.


ما يكشفه التحقيق ليس جديدا، ولكنه يؤكد تحقيقات سابقة عن دور هذا البرنامج في دعم الديكتاتوريات في الشرق الأوسط، وفي أمريكا اللاتينية، وغيرها من دول العالم، وأن أكثر ضحاياه هم من نشطاء حقوق الإنسان والمعارضين وأصحاب الرأي. 


يؤكد التحقيق أن تل أبيب التي تختفي وراء مزاعم الديمقراطية والتحضر هي جزء لا يتجزأ من دعم الديكتاتورية والقمع، وأن دعمها هذا قد يؤدي في نهاية الأمر إلى قتل المعارضين الأبرياء، كما حصل مع الصحفي السعودي جمال خاشقجي، الذي كانت زوجته وخطيبته من ضحايا برنامج "بيغاسوس" التجسسي، حسب تحقيق واشنطن بوست.


في الأثناء يمارس الاحتلال يوميا انتهاكات وجرائم بحق الفلسطينيين بشكل عام والقدس خصوصا، حيث يتعرض المدنيون العزل لهجمات يومية من قبل المستوطنين المسلحين بدعم وإسناد من جنود الاحتلال، وينفذ المستوطنون حملات اقتحام همجية منظمة للمسجد الأقصى، وتجري عمليات التطهير العرقي في حي الشيخ جراح وحي بطن الهوى وسلون وبيتا ومدن النقب، في سلسلة من الأحداث التي لا يمكن أن تؤكد لأي عاقل سوى أننا أمام نظام فصل عنصري إجرامي ينتهك كل الأعراف والحقوق الأساسية للمواطن الفلسطيني.


تكشف هذه الأحداث في القدس والمدن الفلسطينية من جهة، ودور برنامج "بيغاسوس" الإسرائيلي في ملاحقة الأبرياء وانتهاك خصوصيتهم، أن الاحتلال يمارس لعبة مزدوجة تتناقض مع ادعاءاته حول الديمقراطية، فهو أولا يمارس جرائم حقوقية يوميا ضد الفلسطينيين، وثانيا يقدم الدعم لكل أنواع الديكتاتوريات وأبشعها وأكثرها توحشا في العالم.

نذكر هنا بالمناسبة موقف الاحتلال تجاه ما سمي بـ"الربيع العربي"، حيث لعبت تل أبيب دورا محوريا في محاولات منع التغيير الديمقراطي في الدول العربية، قبل أن تنضم لجهود "الثورة المضادة" التي عملت ولا تزال على إعاقة أي انتقال وإصلاح في المنطقة. ظهر الدور "الإسرائيلي" في البدايات عند انطلاق الثورة المصرية، عندما جندت تل أبيب دبلوماسييها في الغرب وخصوصا في واشنطن للحصول على موقف أمريكي يمنع سقوط نظام مبارك، في موقف تماهى في ذلك الوقت مع ضغوط دبلوماسية لدول عربية أرادت محاربة التغيير مثل السعودية والإمارات. وعندما بدأت الثورة السورية كان التيار الرئيسي من السياسيين والباحثين في دولة الاحتلال قد وصل لنتيجة وهي أن انتصار الثورة السلمية ليس في مصلحة الاحتلال، على اعتبار أن الموقف من بشار الأسد ينطبق عليه المثل القائل: "الشيطان الذي نعرفه خير من الشيطان الذي لا نعرفه"، والشيطان الأول هنا هو بشار الأسد أما الثاني فهو ما سينتج عن الثورة من تغيير ونظام سياسي جديد.

بعد زيادة نشاط وجهود "الثورة المضادة" كان موقف الاحتلال واضحا بالوقوف معها، إذ إنه ساهم في الضغوط التي روجت لدى واشنطن لقبول الانقلاب على الرئيس محمد مرسي كما ظهر في كتاب الكاتب الأمريكي ديفيد كيركباتريك وشهادة "جون كيري" وزير الخارجية الأمريكية في فترة أوباما الثانية. في الساحات الأخرى وقف الاحتلال في معسكر الثورات المضادة كما حصل في ليبيا على سبيل المثال.


موقف الاحتلال تجاه الديمقراطية في المنطقة مفهوم وواضح، فهو أولا يدرك أن الشعوب في المنطقة كلها تقف مع الحق الفلسطيني وترفض الاحتلال وتعاديه، ولذلك فإن الديمقراطية ستنتج حكاما منتخبين ممثلين لشعوبهم سيكونون بلا شك ضد الاحتلال، فيما يهرول الحكام فاقدو الشرعية الشعبية للتطبيع معه طلبا للحماية منه ومن أمريكا. ثم إن الاحتلال يكسب من غياب الديمقراطية في الدول العربية لترويج دعايته في الغرب عن "الديمقراطية الوحيدة وسط غابة من الديكتاتوريات المتوحشة"!


أما الممارسات التي تطعن بالديمقراطية الزائفة للاحتلال وسياسة الفصل العنصري والجرائم اليومية ضد الفلسطينيين، والتي يستخدم فيها الاحتلال جيشه وقواته الأمنية ومستوطنيه وقضاءه وكل أجهزته، فهي جزء لا يتجزأ من طبيعته بكونه احتلالا، فهو لا يمكن أن يقوم وأن يستمر إلا على القتل والتهجير للشعب الفلسطيني، ولذلك فقد مارس هذه السياسات منذ 1948، وسيستمر بها ما دام جاثما على الأرض والإنسان الفلسطيني.

مرة أخرى، لم نكن بحاجة لأدلة جديدة على عنصرية الاحتلال وكذب مزاعمه حول الديمقراطية، ولكن هذه الأدلة والأحداث قد تساهم برفع الغشاوة عن عيون الواهمين الذين لا يزالون مخدوعين بأكاذيب الاحتلال ودعايته.