كتاب عربي 21

كيف تتبنى استراتيجية زائفة لحقوق الإنسان؟.. المواطنة من جديد (69)

1300x600
من المهم أن نؤكد أن نظاما اعتاد الكذب، واحترف التزوير، وتبنى التعتيم؛ قد قرر أن يدشن ما أسماه استراتيجية لحقوق الإنسان، وقد جاءت مليئة بالكذب والتزوير والتعتيم، وساعد في كشفها القرار الأمريكي الذي كشفه متحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية بتاريخ 14 أيلول/ سبتمبر الجاري قائلا إن "إدارة الرئيس بايدن ستعلق تسليم مصر ما قيمته 130 مليون دولار من المساعدات العسكرية، حتى تتخذ القاهرة خطوات محددة تتعلق بحقوق الإنسان"، الأمر الذي يؤكد أن تحرك المنظومة الانقلابية لاتخاذ خطوات إصلاحية لم يكن إلا محاولة منها للتأثير على القرار الأمريكي الذي صدر في النهاية؛ لأن واشنطن تدرك حقيقة هذا النظام وسياساته وأساليبه التي تؤدي ليس فقط إلى انتهاك هذه الحقوق، ولكن يقوم بما من شأنه الوصول إلى غايته في "نفوق الإنسان".

وكانت النية معقودة أن نكتب عن بعض السياسات والأسرار حول هذا الموضوع، إلا أن بعض تلك الأسرار قد انكشفت وأزيح الستار عنها اضطرارا، مما دفعهم لإصدار خطاب يتسم بمزيد من "البجاحة والتناحة"؛ يؤكد أن ذلك النظام لا يبتغي إلا أن يقدم في حقيقة الأمر استراتيجية زائفة لا تقوم على أي أساس إلا أن تحتوي من فائض الكلام وزيف المقال.

أول هذه الأمور يرتبط بالمصالحة الكاذبة التي باتت لها مواسم محددة تطلق فيها بالونات اختبار وقنابل دخان وسياسات تهويم وتعتيم، منها ما يعرف بقوائم العفو عن السجناء والتي تزايدت وتيرتها مؤخرا، وفي كل مرة لا تحمل أكثر من ثلاثة أو أربعة مساجين في ظل وجود ما يقرب من 60 ألف مسجون وفقا لتقديرات حقوقية محلية ودولية. ومع تفاهة جدوى هذه القوائم إلا أن النظام يستخدمها في الترغيب والترهيب للمساجين وأهاليهم، رغم أن هذا النظام لم يكن يوما يعبر عن ذلك بأي شكل يوحي بجديته في هذا المقام، من خلال ما تبناه قائد الانقلاب وجناح ليس بالهين من أجهزته الأمنية، نستطيع أن نقول إنه الجناح الخانق، والذي يتبنى معادلة صفرية في سياق خطاب شكل في حقيقة الأمر سندا تأسيسيا في شرعنة هذا النظام؛ من خلال صناعة الكراهية وتقديم الاتهامات المختلفة لفئات في المجتمع، بعد وصف كل هؤلاء بالانتماء لجماعة إرهابية أو الإسهام في تحقيق أهدافها.
تحرك المنظومة الانقلابية لاتخاذ خطوات إصلاحية لم يكن إلا محاولة منها للتأثير على القرار الأمريكي الذي صدر في النهاية؛ لأن واشنطن تدرك حقيقة هذا النظام وسياساته وأساليبه التي تؤدي ليس فقط إلى انتهاك هذه الحقوق، ولكن يقوم بما من شأنه الوصول إلى غايته في "نفوق الإنسان"

وظل ذلك يتوسع ضمن سياسات هذا النظام ليتأكد من خلال سياسات نظام الطاغية والطغمة التي تعاونه، ورغم ذلك فلا بأس في هذا التوقيت من كل عام أن تجري هذه الأمور كطقس يراد منه تجميل وجه النظام، والقيام بكل ما من شأنه تمرير بعض الانتقادات هنا وهناك التي تتعلق بسياساته حول الانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان، وحينما تمر تلك المواسم تعود الحالة إلى ما كانت عليه، وتعود تلك المنظومة إلى أقسى الممارسات في هذا المجال حتى يتبين عدم مصداقية هذا النظام، بل وعدم رغبته من الأساس في أن تكون هناك انفراجة ولو بشكل محسوب.

وكل ما في الأمر أن النظام يوظف ذلك ضمن سياسات تشتيت الانتباه وإشغال عموم الناس بأمور تنسخها استراتيجيات وسياسات لتلك المنظومة؛ لا تقوم إلا على قاعدة من التخويف والترويع وفرض سياسات الطغمة الطغيانية بعد انقلابها لقطع الطريق على مسار ديمقراطي، وهو أمر كشفته تصريحات السيسي في الحفل الكبير الذي صاحب الإعلان عن تلك الاستراتيجية.

ولا يوجد أبلغ من تصريحات السيسي للتأكيد على زيفها، وذلك بقوله إنه لا يريد "أن يحس (يشعر) المواطن بأن حقوقه الإنسانية منتهكة"، فالمسألة لديه هو أن يقول المواطن - بالكذب - إن حقوقه لا تنتهك، وأنها محل مراعاة هذه المنظومة. هكذا هذا النظام يكذب ويريدنا أن نكذب معه أو نكذب أنفسنا في واقع حياة عشناها وكابدناها، وأصبح انتهاك الحقوق الإنسانية فيها طقسا "يوميا".
المسألة لديه هو أن يقول المواطن - بالكذب - إن حقوقه لا تنتهك، وأنها محل مراعاة هذه المنظومة. هكذا هذا النظام يكذب ويريدنا أن نكذب معه أو نكذب أنفسنا في واقع حياة عشناها وكابدناها

يرتبط كل ذلك بصورة مباشرة بالسر الثاني الذي يتعلق بإعلان المنقلب عن بناء أكبر مجمع للسجون، والذي رآه إنجازا غير مسبوق، مؤكدا أن هذا المجمع سيكون وفق معايير ومقاييس السجون الأمريكية. وهكذا لا يزال هذا النظام يكذب ويتحرى الكذب في سياق هذا الإعلان الخطير حول أكبر سجن يستوعب المعتقلين الحاليين والمتوقعين. وهذا صار سياسة ممنهجة، حتى أن هذا النظام قد احترف أن تكون له سجون غير رسمية وغير معلن عنها إلا إذا اضطر لذلك، مثلما فعل مع الرئيس الشهيد مرسي وما كشفه التسريب الخاص بالمستشار القانوني للجيش الذي طالب بتعليق لافتة على المبنى الذي يحتجز فيه الرئيس مرسي.

وقد توسع النظام في هذه السياسة مع اكتظاظ السجون بأعداد غير مسبوقة، الأمر الذي دفعه إلى تحويل بعض معسكرات الأمن المركزي لسجون ضمن سياساته الخاصة باستعداده لأن يكون لكل مواطن مكان في مصر المحبوسة، بكل شكل وبكل أسلوب.
مؤتمر السجناء المزمع عقده برعاية مصلحة السجون. والإشارة العجيبة في هذا المقام تأتي من الضغط على المسجونين من كل طريق لأن يكونوا أساسا لمؤتمر كبير؛ يحضره بعض هؤلاء المسجونين للإدلاء بشهادتهم حول تلك السجون المصرية والمعاملة داخلها

أما الأمر الثالث والذي سربه أحد المواقع الإعلامية، فهو يتعلق بمؤتمر السجناء المزمع عقده برعاية مصلحة السجون. والإشارة العجيبة في هذا المقام تأتي من الضغط على المسجونين من كل طريق لأن يكونوا أساسا لمؤتمر كبير؛ يحضره بعض هؤلاء المسجونين للإدلاء بشهادتهم حول تلك السجون المصرية والمعاملة داخلها، والقول بأنها معاملة مثلى وأنها أماكن رعاية فندقية ليس لها مثيل وبخدمات رفيعة المستوى؛ رغم أن حال السجون الحقيقية لا يخفى على أحد.

وقد كشف مؤخرا المناضل "علاء عبد الفتاح" عن جزء يسير مما يعانيه هو وغيره من المساجين في سجن "شديد الحراسة". فقد كشف من خلال محاميه عن المهازل التي يتعرض لها، الأمر الذي جعله يفكر في الانتحار. فلم يكتف النظام بالاتهامات الملفقة والسجن الاحتياطي غير محدد المدة وقضايا التدوير بلا نهاية، فلجأ إلى التعسف على المساجين وأهاليهم.

ورغم ذلك يريد تنظيم مؤتمر يجمّل حال السجون المصرية، محاولا بالترغيب والترهيب دفع المساجين للمشاركة في هذا المؤتمر وتدريبهم على الردود على الأسئلة المتوقعة. وقد بدأت عمليات التدريب بتجميع عدد من السجناء من السجون الأخرى، وهو أمر يذكرنا بما أشار إليه "تيموثي ميتشيل" في كتابه "استعمار مصر" حينما تعتمد هذه الأنظمة أسلوب المعرض والتمثيل على حد سواء، في محاولة الخداع والكذب وتصنيع الصور الزائفة.
النظام بصدد تكوين هيئة تقوم على الإعداد لترشيح الطاغية السيسي القائم على نفوق الإنسان؛ للحصول على "جائزة نوبل للسلام"، فلتتصوروا معي ذلك!

يتزامن مع هذه الجهود المكثفة لتبييض وتجميل وجه النظام الإعداد لزيارة برلمانية وحقوقية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ترافق المنقلب في رحلته إلى الولايات المتحدة الأمريكية. ومن الغريب حقا أن يتضمن هذا الوفد من هم خارج البرلمان ليقوموا بهذه المهمة من خلال مقابلات مع بعض المؤسسات والهيئات، وكذلك بعض أعضاء المؤسسات النيابية الأمريكية. وهؤلاء المفضوحون وهم يعدون لذلك، قامت أجهزة الأمن بتوقيف أحد أعضاء المجلس القومي لحقوق الإنسان في المطار عند سفره، الأمر الذي يؤكد زيف هذه التحركات وكذبها، وأن النظام يتعامل مع المؤسسات الحقوقية باعتبارها مساحيق تجميل وديكورات للزينة.

أما الأمر الأخير والذي لم يكشف النقاب عنه، فإن النظام بصدد تكوين هيئة تقوم على الإعداد لترشيح الطاغية السيسي القائم على نفوق الإنسان؛ للحصول على "جائزة نوبل للسلام"، فلتتصوروا معي ذلك! ومن الأهمية بمكان أن نشير إلى حواره المفتاح مع "ياسر رزق"، وسرده للحلم الذي رآه و"ساعة الأوميجا"، فهو في هذا الحلم لم يكن يقصد من ربط نفسه بالسادات أنه سيكون رئيسا فقط مثله، ولكن تلميحه لساعة الأوميجا كان يقصد به أنه سيفوز بجائزة نوبل للسلام مثل السادات سواء بسواء. ولعل ذلك من الفريات الكبرى التي يعمل لها النظام، وأن هؤلاء الذين يقومون على ذلك على أهبة الاستعداد للاضطلاع بهذه المهمة. فلو أردت الدقة والحقيقة فهي ليست إلا استراتيجيات وسياسات "نفوق الإنسان" وليس حقوقه.

هذه هي رؤية السيسي للإنسان والمواطن بعدما تمكن من اختطاف مؤسسات الوطن جميعها، ويجيّرها ويوظفها ضمن صناعة الصورة الزائفة التي يريد.

twitter.com/Saif_abdelfatah