كتاب عربي 21

البرهان يكشف أوراقه

1300x600

شهد السودان يوم الثلاثاء الماضي الموافق 21 أيلول (سبتمبر) محاولة انقلابية يشي استقراء تفاصيلها بأن فرسانها نفر من العسكريين الهواة، فقد جرت العادة على أن تحدث الانقلابات في الساعات الأولى من الفجر، ولكن فرسان تلك المحاولة أرسلوا واحدا منهم برتبة عقيد إلى الإذاعة والتلفزيون بعد طلوع الشمس، فكان أن خاطب الفني المناوب كي يسمح له بقراءة البيان رقم واحد، ولكن الفني أبلغه بأنه لن يغير الخارطة البرامجية إلا بأمر من رئيسه المباشر، فما كان من العقيد إلا أن صرف النظر عن قراءة البيان وانصرف.
 
واتضح أن عصب العملية عناصر في سلاح المدرعات، وبعد التفاوض معهم من قبل قيادة الجيش فوضوا أمرهم إلى الله واستسلموا، وبعدها بساعات كان الفريق عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني والقائد العام للجيش يزور سلاح المدرعات ويخاطب العسكريين هناك بلغة انفعالية، موجهة ليست إلى الانقلابيين بل إلى المدنيين في الحكومة الحالية، التي يشغل هو أعلى منصب دستوري فيها، وزبدة الخطاب هي أن المدنيين في الحكومة خلقوا أوضاعا مزرية وأنهم بعيدون عن واقع الحال ومنشغلون بالصراع على الكراسي.

وخلال الساعات التي تلت انكشاف أمر الانقلاب لم يفتح الله على أي من العسكريين بجملة مفيدة عما حدث بالضبط، بل لم تصدر عن البرهان أو غيره إدانة صريحة أو كلمة غاضبة عن الذين حاولوا أن يقوضوا حكومة يجلس هو على رأس هرمها، بينما تبارى هو ونائبه حميدتي على دق الأسافين بين الجيش والقوى المدنية، بتصوير الأخيرة وكأنها في خندق مضاد للجيش، الذي قال عنه البرهان إنه وحده (أي الجيش) هو الذي سيقود البلاد إلى مرحلة الانتخابات العامة.

ولم يفت البرهان أن يتباكى على بؤس شروط الخدمة العسكرية، وكأنه يحمّل الحكومة المدنية تبعة الضائقة الاقتصادية التي يمر بها السودان، ونسي أنه برر تكويش الجيش على معظم مفاصل الاقتصاد في البلاد بأن ذلك حادث في إطار مؤسسة تعاونية يستفيد منها جميع العسكريين.

والشاهد هو أن البرهان الذي اعتلى المنابر عدة مرات خلال الأيام القليلة الماضية لم يبد أي انزعاج من المحاولة الانقلابية، بل بدا وكأنه يجد لمنفذيها الأعذار حين قال: "من حق المواطن أن يسأل عن أسباب هذه الانقلابات المتكررة، نقولها بشكل واضح وصريح السبب هم السياسيين الذين أعطوا الفرصة لقيام الانقلابات لأنهم أهملوا المواطن ومعاشه وخدماته الأساسية وانشغلوا بالصراع على الكراسي وتقسيم المناصب مما خلق حالة من عدم الرضاء وسط المواطنين".

 

وبالمقابل فالبرهان وبطانته من القيادات العسكرية العليا يصورون أنفسهم على أنهم الأكثر حدبا على مصالح البلاد والعباد، ثم تكرم بطمأنة الشعب بأنه "لم يفقد الأمل في السياسيين المدنيين"، ثم ناشد شباب الثورة التي أطاحت بحكم عمر البشير أن يستنهضوا الهمم لتصحيح مسار الثورة، مذكرا إياهم بأنهم من حقق الاعتصام الشهير أمام القيادة العامة حتى سقط نظام البشير، وكانت تلك جرأة عجيبة على الحق منه، فقد قام عسكريون نظاميون بارتكاب أبشع مجزرة في حق المعتصمين، في وقت كان فيه البرهان وثلة من العسكر ينفردون بأمور الحكم، ويرفضون الشراكة مع القوى المدنية التي قادت الحراك الذي أسقط البشير، وفتح شهيته ورفاقه للقيام بانقلاب قصر ليصبحوا سادة المرحلة الانتقالية الحالية التي يمر بها الحكم في السودان.

 

الاستنتاج الذي توصلت إليه القوى المدنية في المشهد السوداني الحالي هو أن انقلاب الثلاثاء الماضي كان مجرد بروفة للانقلاب الحقيقي المرتقب، وأن البرهان وحميدتي يمهدان التربة لوقوعه،

 



وقبل المحاولة الانقلابية الأخيرة بثلاثة أيام قام زعيم قبلي في شرق السودان، حيث الميناء الوحيد للبلاد، بتحشيد أتباعه وقطع الطريق الرابط بين الإقليم وبقية أنحاء البلاد وإغلاق الميناء، وكان مما طالب به هذا الزعيم حل الحكومة المدنية وتشكيل حكومة عسكرية وتنصيب عسكريين حكاما على ولايات السودان، ولم يفتح الله على البرهان الممسك ولو نظريا بالملفات الأمنية أن يدين عملا يهدف إلى خنق اقتصاد يعاني سلفا من حشرجة الموت.

وكعادته في تبرئة نفسه من كل إخفاق في حكومة هو الرأس الثاني فيها في الهرم الدستوري، اعتلى الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) المنبر ليبكي حال المواطن الغلبان، الذي يعيش على ما دون الكفاف، بسبب بؤس الحكم بينما "نحن العسكريين ومنذ اليوم الأول في التغيير لم نبخل بشيء، وسخرنا كل إمكانيات القوات النظامية وعملنا بكل طاقتنا دون كلل أو ملل من أجل مصلحة شعبنا الكريم... ورغم ذلك إلا أننا لم نجد من الذين يصفون أنفسهم بالشركاء إلا الإهانة والشتم ليل نهار لجميع القوات النظامية ـ فكيف لا تحدث الانقلابات والقوات النظامية لا تجد الاحترام والتقدير (وهكذا يجد حميدتي التبرير والعذر للانقلابيين).
)
وكعادته يلعب حميدتي دور المحلل السياسي الذي يراقب المشهد من "الخارج"، وينعى على الحكومة المدنية "التهريج والتخبط"، وينسى وهو يناصر المواطن الغلبان باللسان أنه رئيس لجنة الطوارئ الاقتصادية في البلاد، وأنه من وعد المواطن بالمن والسلوى.

الاستنتاج الذي توصلت إليه القوى المدنية في المشهد السوداني الحالي هو أن انقلاب الثلاثاء الماضي كان مجرد بروفة للانقلاب الحقيقي المرتقب، وأن البرهان وحميدتي يمهدان التربة لوقوعه، وما يعزز هذا الاستنتاج هو أنه على البرهان أن يغادر منصبه كرئيس لمجلس السيادة في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل ليحل محله عضو مدني، مما يعني ضمنا أن يفقد حميدتي منصبه كنائب لرئيس المجلس السيادي، وهو أصلا منصب مفبرك لا يسنده دستور أو قانون، والرجلان ومعهما ثلة من كبار العسكرين جاهدا للانفراد بورثة عمر البشير في القصر ولكن الحراك الشعبي أرغمهما على قبول الشراكة مع المدنيين، ولهذا فقد يكررا المجاهدة لانتزاع الحكم ليصبح ملكا عضوضا لهما ولأقرانهما.