قضايا وآراء

أنقذوا قيس سعيد.. الديمقراطية في فكر نيتشه التونسي

1300x600

فريدريش فيلهيلم نيتشه هو فيلسوف ألماني، كان لعمله تأثير عميق على الفلسفة الغربية وتاريخ الفكر الحديث، كثيراً ما تُفهم أعماله على أنها حامل أساسي لأفكار الرومانسية والعدمية، روج لأفكاره على أنها مع التيار اللاعقلاني، لا سيما وأنها رفض المثالية وإن كان اختبأ وراءها، فرفض المسيحية والأديان والميتافيزيقا بشكل عام، وكان من صلب رفضه لهذه المثالية، فكرة المساواة، رغم أنه رفض التمييز العنصري، ودعا إلى تبني قيم أخلاقية جديدة، واستخدمت بعض آرائه في التنظير للفاشية والنازية. 

رأى نيتشه، أن الديمقراطية هي وريث المسيحية التي رفضها بالأساس ويقول: "عندما تتحد أعلى وأقوى غرائز الفرد مع شغفه، فإنها تدفعه بعيداً عن ضمير الجماعة". ويرى أن الأخلاق في أوروبا هي أخلاق حيوانات القطيع، ومن أشهر أقواله: "إن العدالة تصرخ في داخلي بأنه لا مساواة بين الناس"، لذا فإن الرجل أسس لنظرية مخالفة لما تعارفت عليه الأديان وأكدته من خلال فكرة المساواة إذ يرى في الحاكم المطلق ضالته من أجل تحقيق العدالة ويمكن رؤية ذلك بوضوح في كتابه "هكذا تكلم زرادشت" وحديثه عن الحاكم المطلق.
 
أفكار نيتشه لازالت متداولة وتدرس كتبه وإن كانت أكاديميا على سبيل الاستئناس، فإن هناك طبقة ليست بالقليلة ممن يضعون أنفسهم موضع الأستاذية، ويريدون أن يقدموا أنفسهم للمجتمع في ظل الزحام الفكري الذي تعانيه البشرية بعد حالة السيولة التي تشهدها المعلومة، والمصاحبة لسقوط الأيدولوجيات، بشكل جديد قديم، لعلهم يجدون لأنفسهم مساحة ضوء على خشب مسرح الأحداث، كما أن هذه الأفكار مع تنامي الشعبوية قد تجد رواجا يتقدم به المروج لتلك الأفكار إلى المقدمة وينال ما يحلم.

ولما كانت الديمقراطية لا تفرز بالضرورة الأفضل، فإن فرص هذه الطائفة ممكنة بل وتتزايد في ظل الصراعات الجانبية المصلحية الضيقة بين شركاء العملية الديمقراطية، وصراعهم على السلطة الذي يتحول إلى هدف وليس وسيلة، ما تضيع معه الأفكار والبرامج والمشروعات التنموية، وبالنتيجة تضيع معه حالة الثقة، وتظهر دعوات الكفر بالأحزاب والديمقراطية والسياسة أجمع، وهي لا تذهب بالمدعو إلى الفوضى بقدر ما تريد به الوصول إلى مربع نتشه الذي يستغل كل ذلك ليقضي على التعددية بنظرته الدونية لطبقات المجتمع ورفضه للمساواة مقابل حكم فردي يمكنه من ممارسة الفوقية ونهب المقدرات بدعاوى محاربة الفساد مستغلا في ذلك الغباء السياسي للشركاء الديمقراطيين في مجتمعه. 

خطاب سيدي بوزيد المأزوم وما تبعه من قرارات  

على الرغم من أن المجموعة التي تم انتقاؤها بعناية لحضور كلمة قيس سعيد في سيدي بوزيد، حتى تمرر كلمته بأريحية من دون مقاطعة أو معارضة، هو يعرف أنها ستحدث من فضلاء مهد الثورة التونسية الرافضين الانقلاب على ثورتهم، ولو تنمق هذا الانقلاب بكلمات معسولة ووعود منكوثة، خبرها الشعب وأدمنها العامة من الحالمين والمغيبين في قصص التاريخ. 

تحت هتاف شعبوي مرضي ومختار بعناية من قبل من نظم اللقاء، ألقى قيس سعيد كلمته التي بدا عليها التشنج رغم تهيئة الأجواء وحشد الأبواق الهاتفة بإنجازاته التي لم يرها الشعب بعد شهرين من قراراته الانقلابية، سكت سعيد طويلا لإسماع العالم الهتاف المتفق عليه: (الشعب يريد حل البرلمان)، وهو ما يذكرك بتلك التظاهرات التي أخرجها عبد الناصر هاتفة (تسقط الديمقراطية) بعد أن طالب الرئيس محمد نجيب بالديمقراطية، وهو الهتاف الذي يخرج به كل منتفع من الدكتاتورية سواء أو حاقد على ما افرزته الديمقراطية أو مغرر به تحت الشعارات البراقة المصاحبة لخطاب الدكتاتورية.

متلعثما حاول سعيد الارتجال، فالشخصية تستلزم أن يتلبس دور الخطيب المفوه وهو من ذلك بعيد، فكال سعيد الاتهامات منذ اللحظة الأولى واتهم الجميع بالخيانة والمؤامرة على الوطن، فكل من طالب بالديمقراطية والتعددية والمحاسبة من خلال آليات شفافة هو متأمر، مؤكدا أن ما تشهده تونس من أزمات إنما هي مفتعلة، وأن عليه أن يقابل ذلك التحدي الذي أراده "المتآمرون" بتحد أكبر، وتوعد بأن يطلق ما أسماه صواريخه القانونية، والتي تكفي بإشارة منه إذا ما أطلقها، أن تضرب "أعماق المتآمرين" بحسب تعبيره! 

 

سكت سعيد طويلا لإسماع العالم الهتاف المتفق عليه: (الشعب يريد حل البرلمان)، وهو ما يذكرك بتلك التظاهرات التي أخرجها عبد الناصر هاتفة (تسقط الديمقراطية) بعد أن طالب الرئيس محمد نجيب بالديمقراطية، وهو الهتاف الذي يخرج به كل منتفع من الدكتاتورية سواء أو حاقد على ما افرزته الديمقراطية أو مغرر به تحت الشعارات البراقة المصاحبة لخطاب الدكتاتورية.

 



وأكد أن الخطر الذي يتهدد تونس مازال جاثما، وأن التدابير التي أتخذها إنما هي لحماية الوطن من الذين يحركونها من الخارج!، وكأن التونسيين نسوا أن من كان يدير المشهد من قصر قرطاج منذ اللحظة الأولى هم الفرنسيون والمصريون والإماراتيون، وأن السفير الأمريكي طالب بإخراج المصريين والاماراتيين من القصر حيث كانوا يديرون فعليا المشهد من القصر، وأنهم من عذبوا رئيس الوزراء هشام المشيشي، قبل أن يستقيل مجبرا.
   
خطابه المرتعش والمهدد في آن، شدد على أنه ماض في طريقه ومصمم على الاستمرار فيه،  مدافعا عن قراراته الاستثنائية التي اتخذها في يوليو الماضي، والتي قلبت الأمور رأسا على عقب، وقسمت البلاد، واصفا ما كان يحدث في البلاد ليس انتقالا ديمقراطيا، وكأنه وجه صواريخه إلى الثورة نفسها من دون أن يشعر في مهد الثورة، أو لعله يشعر ويقصدها ليطيح بمكتسبات الثورة ويهدر دماء الثوار في مهد ثورتهم، كرسالة على قوته من ناحية، وإيذانا بعصر جديد هو بطله ويقوده، قال سعيد بالنص: (لم يكن هناك انتقال ديمقراطي بل انتقال من فساد لآخر، وكان لا بد من اللجوء للفصل 80 من الدستور). قبل أن يعود ويؤكد على صواريخه القانونية التي سيطلقها.

في اليوم التالي أوفى سعيد بوعده ولم ينتظر فأطلق صواريخه التي بشر بها في سيدي بوزيد فالتظاهرات الكبيرة التي خرجت قبل يومين تهدده وتمهد لخطوات تأخرت كثيرا، كان من الواجب أن تتخذ من اليوم الأول، وبدا أن عددا من الفزاعات بدأت تلوح في الأفق بعد دعوة الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي للتظاهر وهي الدعوة التي تصادف إطلاقها مع دعوة أستاذ القانون الدستوري جوهر بن مبارك، وعدد من شباب الثورة، ما يعني أن شبح الثورة التي يبغضها سعيد، لأنها ساوت بين فقهاء القانون وعامة الشعب، رغم أنه ركب عليها، ووصل لقصر قرطاج على أكتاف أبنائها.

القرارات التي اتخذها سعيد لم تترك مساحة للشك أن ما حدث في تموز (يوليو) الماضي والقرارات التي صدرت حينها لم تكن لمصلحة الشعب، كما زعم سعيد، ولكن لمصلحته شخصيا، وضد الثورة وما حققت من مكتسبات، وإن كانت الثورة بطيئة في تحقيق منجزات تمس رجل الشارع إلا أنها مع ذلك أسست لدولة مؤسسات يمكن البناء عليها لإنتاج دولة يحكمها القانون وتوفر العدالة للجميع، وعلى رأسها العدالة في توزيع السلطة، وهو ما يرفضه نتشه الذي يرى أن فكرة المساواة فكرة باهتة يكذب بها أصحاب المبادئ على المغفلين، ومن ثم فإن من ينتظر من قرارات سعيد الخير، كمن ينتظر السمن من بطن النمل.   
             
أنقذوا قيس سعيد 

أحد المقربين من المشهد روى لي أن ما تلاه قيس سعيد لم يكن الخطاب الذي أعده، وأن ما قدم له قرأه على عجل قبل أن يخرج للجمهور في سيدي بوزيد، ما يعني أن القرارات التي اتخذت ليلة 22 من أيلول (سبتمبر) لم تكن من عنده وإنما من عند من أملى عليه خطاب سيدي بوزيد، وبعيدا عن صدقية الرواية أو عدمها، فإن الحقيقة الواضحة أن الرجل ذهب إلى حيث اللا رجعة، وأن تونس دخلت مرحلة المواجهة الحتمية، التي ستختبر الجميع وعلى رأسهم حركة النهضة، الحركة الأكثر شعبية والأقدر على الحشد، إما الثورة أو التسليم بالهزيمة أمام نادي الثورات المضادة، أو أن تنتصر الثورة ويكون الضحية من قدم من قبل نادي الثورات المضادة ليكون كبش فداء.