كتاب عربي 21

عطايا البلاء

1300x600
يقول علماء الاجتماع "الإنسان كائن اجتماعي بطبعه"، فهو لا يحيا إلا في جماعة تتوزع فيها المهام بينهم، فهناك من يزرع، وغيره يرعى، وآخر يصنع، إلى غير ذلك من المهام التي يحتاجها كل فرد. ثم هناك لحظة يعجز فيها المرء عن الإتيان بقوت يومه، وهنا تأتي عملية التكافل التي تجسد أعظم نِعَم الاجتماع البشري، والتكافل هو مقصد الحديث، سواء كان ماديا أو معنويا.

يتنازعُ الكاتبَ في كل مرة يسطر فيها كلمات نازعان؛ نازع ذاتي ونازع عام، والأصل أن يغلِب الشأن العام انفعال الكاتب بقضية ما. ولا يعني هذا غياب النازع والانفعال الذاتي للكاتب، فهو لا يكتب إلا بانفعال تجاه أمر أو حادثة، لكنه يتخيّر أقربها للشأن العام، ولا يكتب عن مشاجرته مع جاره رغم كونها أكثر تأثيرا على حياته، ومن ثَمَّ كان النازع العام أغلب على النازع الخاص، ولكن يبقى لكل قاعدة ما يشِذُّ عنها.

أكتب هذا توطئة واعتذارا للقارئ؛ إذ سيجد شذوذا عن القاعدة في هذا النَّص، فالخاص غَلَبَ العام، إلا أنها غَلَبَة نسبيّة وليست مُطلقة، وآية ذلك أن الفِقْرَة الأولى، وهي مناط الحديث، تصنع ضفيرة بين الخاص والعام وتأخذ بجِماع المسألة.
الحاصل أن الفقير اختُبِر في ابنته اختبارا شديدا، ولا يزال في الاختبار؛ فأصيبتْ، وهي ابنة عاميْن، بآثار شرسة لمرض كورونا، ومرّتْ عليها أيام كانت أثقل من الدهر على أبويْها، وأثناء هذا البلاء بدتْ آثار صحبة السنين الطوال، ورَفَعَ الخِلاَّن والأصدقاء عن صاحبهم عَنَتَ المصيبة بحُسْن المَشورة، ولُطْفِ المعاشرة، ورفعوا عنه أيضا ضيق همِّ الكُلْفَة

الحاصل أن الفقير اختُبِر في ابنته اختبارا شديدا، ولا يزال في الاختبار؛ فأصيبتْ، وهي ابنة عاميْن، بآثار شرسة لمرض كورونا، ومرّتْ عليها أيام كانت أثقل من الدهر على أبويْها، وأثناء هذا البلاء بدتْ آثار صحبة السنين الطوال، ورَفَعَ الخِلاَّن والأصدقاء عن صاحبهم عَنَتَ المصيبة بحُسْن المَشورة، ولُطْفِ المعاشرة، ورفعوا عنه أيضا ضيق همِّ الكُلْفَة.

أعادتْ هذه الواقعة إلى الفقير إدراكه أنه لا يزال مُحاطا بصَحْبٍ لم يتغيّروا في وفائهم، رغم انهماكهم في الحياة وتشعُّبهم في مسالكها، وأن "المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه"، وأن مَنْ صَفَتْ رُوحُه في الصُّحْبَة ما ضَرَّه كَدَرُ الأحداث العارضة التي تقع بين الإخوة قبل الإخوان.

وربما بدأتُ الحديث عن الإخوان قبل الأهل وإخوة النسب، باعتبار أن ما يقوم به إخوة النَّسَب لا يعدِله أحد، إما في تخفيف الهم، أو حمْل المسؤوليات، أو قضاء الحوائج التي لا يقضيها مهموم، فيستحضر المرء قول الباري لكليمه موسى عليه السلام "سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأخِيك"، فوجدتُ من شدَّ عَضُدِي وكان ظَهْراً لي.

كانت لحظات المحبة والوفاء إيذانا برضىً سماوي، لعله من بركة الصغيرة الجميلة التي لم يجْرِ عليها قلم، كما أنّ الجزم بالرضى ليس تألِّياً على الخالق، بل هو حُسْنُ ظنٍّ فيمن أذِنَ بفيضِ المحبَّة، وصدْقِ المشاعر، وجَبْرِ الكسور.

تتزاحم تلك المعاني والخواطر بقدر ما تتزاحم في المجال العام الأفكار المناقضة، التي تدعو إلى الانعزال وهجْر الناس، ولعل ضغوط الحياة جعلت صلابة النفس رقيقةً أمام المُنَغِّصات، ولعل المُنْعَزِل أساء اختيار خِلاّنه.

إن جلالة المصاحبة والوجود في وسط مجتمع كانت موضع عناية التشريع، فتجد حديثا قُدسيا يتحدث عن صلة الأرحام: "أنا الرحمنُ خلقتُ الرَّحِمَ، وشَقَقْتُ لها اسْماً مِن اسمِي، فمَن وَصَلَها وَصَلْتُه، ومَن قَطَعَها بَتَتُّه (قطعته)"، وتجد حديثا نبويا يتحدث عن الجار: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننتُ أنه سيُوَرِّثُه"، وتجد آخر يتكلم عن أنواع الأصحاب: "مَثَلُ الجَليس الصالح وجَليس السوء كحامل المسك ونافخِ الكِير.. إلخ".

ثم يرتفع الخطاب إلى درجة أعلى فيأتي النص القرآني يحث على ملازمة الصحب الصالح ويوجّه الحديث إلى سيد الصالحين صلى الله عليه وسلم: "واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم.."، ويجعل الله جزءا من نعيم الجنة مقرونا بوجود صحبة فيها "ونَزَعْنَا ما في صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إخْواناً على سُرُرٍ مُتَقَابِلين".
الكلمات نابعة من تجربة ذاتية مريرة، أصابها بعض الإشراق بوجود الأهل والأصحاب، فمن انغمس في همّه فليبحث عمّن يعينه عليه

إن ما صنعتْه الضغوط أفْقَدَنا مَن نحن بحاجة إليهم لتجاوزها، فكل امرئ يحتاج إلى صَحْبٍ يزيلون عنه الهمّ، صحيح أن الأغلب مهموم، لكن اللُّقْيا وحدها مُذْهِبَةٌ لبعض أو كل الهموم، فضلا عن التسامر وتفَقُّد الأحوال، ولا ينبغي للمهموم أن يطلب الاعتزال، بل عليه أن يتخيّر من يَصحبهم إن كان فاقدا لمن يعينه في دفع نوائب الأيام والدهور، وهؤلاء الطيّبون موجودون في كل مكان، والطيور على أشكالها تقع.

كاتب هذه الكلمات رغِبَ في العُزلَة لكنه في لحظة امتحان شديد وجدها عَلْقَماً، وبدلا من أن ينغمس في همّه، وجد الأيادي تمتد إليه لتنتشله منه، وتعينه على نائبة ما كانت تخطر على باله، فالكلمات نابعة من تجربة ذاتية مريرة، أصابها بعض الإشراق بوجود الأهل والأصحاب، فمن انغمس في همّه فليبحث عمّن يعينه عليه. ونعمة الاجتماع تبدو في الشدائد قبل المباهِج، وهذه الدعوة ليست دعوة فوقيّة تبغي الاستعلاء على مشاعر وهموم المنعزلين، فأنا صِنْوُهُمْ في مصابهم، وأرجو أن أكون دليلَهم في اندماجهم مع صحبة طيبة تعينُهم على الحياة، وأرجو من قارئ هذه الكلمات أن يدعو بتفريج كرب هذه الصغيرة ومَن شابَهَهَا.

twitter.com/Sharifayman86