قضايا وآراء

الصدر.. جدلية الديني والسياسي

1300x600

تشكل الحالة السياسية لمقتدى الصدر ظاهرة تستحق التوقف والانتباه، لما تحمله من مفارقات وجدليات سياسية ودينية في آن واحد.

الصدر رجل دين يسعى إلى الحصول على المرجعية الشيعية، ورجل سياسة أيضا، يسعى إلى فرض رؤيته على الدولة والمجتمع.

وبين هذا وذاك يتداخل الديني بالسياسي في الوعي والسلوك، وهي ظاهرة طبيعية، طالما أن البلاد تفتقد إلى الشروط الاجتماعية والسياسية الضرورية لبنا أشكال ديمقراطية من الحكم.

وفي مجتمع ودولة يتداخل فيهما الديني بالطائفي والسياسي والعسكري والاقتصادي بقوة، كما هو حال عراق ما بعد الغزو الأمريكي عام 2003، فإن عملية الفصل بين هذه المستويات، خصوصا الديني-السياسي، تبدو عملية متعذرة.

مفارقات الصدر

منذ عام 2004، بدأ اسم الصدر يأخذ شهرة واسعة داخل العراق وخارجه، بسبب تصدره المشهد المقاوم للاحتلال الأمريكي، في وسط شيعي سياسي متحالف في معظمه مع الولايات المتحدة. 

قاد الصدر انتفاضات مسلحة ضد الاحتلال، ثم ما لبث عام 2005 أن غير استراتيجيته من المقاومة المسلحة إلى المقاومة السياسية الشعبية السلمية، إما بسبب فشل العمل العسكري، أو بسبب تغير في نمط التفكير، أو ربما كليهما معا.

ترافق تغير الاستراتيجية هذه، تغير في الخطاب البلاغي وفق تعبيرات بنجامين عيسى خان، فحدث تحولا من الإسلاموية الشيعية المتشددة إلى الدعوات للتسامح والوحدة الوطنية والاستيعاب الاجتماعي.


أدرك الصدر، أن مقاومة الاحتلال الأميركي أولا، وبناء دولة وطنية ثانيا، تتطلبان خطابا وسلوكا عابرا للطوائف.

لكن تغير الاستراتيجية هذه لم تكن مكتملة، فبين عامي 2006 و2007، كان الصدر لاعبا رئيسيا في الحرب الأهلية بين السنة والشيعة، عقب الهجمات التفجيرية التي استهدفت مرقدين شيعيين في سامراء، ووجهت اتهامات مباشرة إلى "جيش المهدي"، التابع للصدر بممارسة القتل على الهوية.

أمر الصدر بتحويل "جيش المهدي"، من ميليشيا إلى منظمة تهتم بالرعايا الاجتماعية، وفي أواخر عام 2007، غادر الصدر إلى منفى اختياري في إيران، ولم يعد إلى العراق إلا في عام 2011، بعد تحقيق "الائتلاف الوطني العراقي"، الذي ينتمي إليه التيار الصدري، نتائج مميزة في الانتخابات البرلمانية 2010.

 

شكلت دعوات الصدر خلال السنوات السابقة لإجراء تغيير في المنظومة السياسية والدستورية، ومكافحة الفساد والتردي الخدماتي للبنى الأساسية، مصدر قوة له في الأوساط الشعبية الشيعية والسنية على السواء.

 



في عام 2014، أعلن الصدر عن تأسيس تشكيل مسلح جديد تحت مسمى "سرايا السلام"، ردا على احتلال تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" مناطق واسعة من العراق، بغرض حماية الأماكن المقدسة للشيعة والسنة والمسيحيين على السواء.

لكن، تجاوز "سرايا السلام" لمهمته في حماية دور العبادة إلى الانخراط في الاقتتال الطائفي، أجبر الصدر على حل هذا التنظيم.

ترافق هذا التغير في الوعي والسلوك السياسيين بالضرورة إلى تغير في قراءة المشهد السياسي العراقي، فبدأ الصدر توجيه النقد للسياسة الإيرانية في العراق، وأخذ مسافة من طهران بعدما كان يتلقى تياره الدعم المالي والعسكري من إيران.

هكذا، شكل الصدر حالة جدلية في عراق ما بعد الغزو الأمريكي: 

ـ حليف لإيران وناقد شديد لها، ومعاد لحلفائها الاستراتيجيين في العراق.

ـ حارب الاحتلال الأمريكي بالسلاح، لكنه قبل بالممارسة السياسية الانتخابية تحت الاحتلال.

ـ شارك تياره بعمليات القتال الطائفية، في وقت شدد فيه على التلاحم الوطني العابر للطوائف.

الخروج من الصندوق

شكلت دعوات الصدر خلال السنوات السابقة لإجراء تغيير في المنظومة السياسية والدستورية، ومكافحة الفساد والتردي الخدماتي للبنى الأساسية، مصدر قوة له في الأوساط الشعبية الشيعية والسنية على السواء.

كان من نتاج هذا التأييد الشعبي أن حصل التيار الصدري على أكبر عدد من المقاعد البرلمانية في الانتخابات الأخيرة.

ومع إصراره على أن يكون اختيار رئيس الحكومة وأعضاء الحكومة ضمن تحالف سياسي لا طائفي، يكون الصدر قد خرج من الصندوق الأسود الذي حكم العراق منذ عام 2005.

 

لا يهم في هذه المرحلة ما إذا كان بمقدور الصدر تغيير البنية الدستورية والسياسية الحاكمة، وأغلب الظن أنه لن يستطيع فعل ذلك وحده، لكن خطابه وسلوكه السياسي والاجتماعي قد أحدث شرخا وإرباكا في المنظومة السياسية الحاكمة، وأنشأ مجالا للوعي الاجتماعي، بأن اللحظة الراهنة تتطلب توحدا وطنيا لمصلحة عراق وطني، وهذا أمر في غاية الأهمية.

 



يذهب بعض المراقبين، إلى أن مواقف الصدر وتحركاته تأتي ضمن إطار اللعبة السياسية القائمة على المحاصصة، وأن الصدر جزءا من اللعبة الطائفية، فيما ذهب آخرون إلى أن المشروع الصدري لا يؤسس لوطنية عراقية، هذا لأن الوطنية العراقية تصطدم مع المرجعية المذهبية التي يستندون إليها، من جهة، ومع التبعية المطلقة للقائد من جهة أخرى، وهذا ما يجعل الطاقة الشعبية التي يتمتع بها هذا التيار قليلة الفائدة.

يتناسى هذا الرأي خصوصية اللحظة التاريخية، فالحديث عن رغبة في تأسيس وطنية عراقية فوق طائفية شيء، وبدء العمل على تحقيق هذا الهدف شيء آخر تماما.

لقد جانب الدكتور عزمي بشارة الصواب حين قال "قد يشفع للصدر أمران قد يتحولا إذ سمحت الظروف إلى مكونين لدور تاريخي في مرحلة الانحطاط هذه، الأول، إصراره على الأغلبية السياسية ورفض فكرة الأغلبية الطائفية في تشكيل الحكومة، والثاني، إعلانه عن نيته تجريم التطبيع مع إسرائيل". 

في مرحلة الاستعصاء الطائفي-السياسي، لا يجب الاستهانة والتقليل من أهمية الدعوة بقوة وإصرار على تجاوز التحالف الطائفي، خصوصا عندما يأتي هذا الموقف من رجل دين وسياسة في آن واحد.

لا يهم في هذه المرحلة ما إذا كان بمقدور الصدر تغيير البنية الدستورية والسياسية الحاكمة، وأغلب الظن أنه لن يستطيع فعل ذلك وحده، لكن خطابه وسلوكه السياسي والاجتماعي قد أحدث شرخا وإرباكا في المنظومة السياسية الحاكمة، وأنشأ مجالا للوعي الاجتماعي، بأن اللحظة الراهنة تتطلب توحدا وطنيا لمصلحة عراق وطني، وهذا أمر في غاية الأهمية.