آراء ثقافية

فيلم "تسليم أهالي": كوميديا لا تعرف سقفًا واقعيّا

349934034903493049
في فِلمهما الجديد الذي بدأ عرضُه منذ أيامٍ في دُورِ الخيّالة يقدّم الكاتب (شريف نجيب) والمُخرج (خالد الحلفاوي) عالَمًا من الأحداث غير المحتمَلة بحكم الخبرة اليومية. وتقع النقطة التي يتغيّر عندها مسار الأحداث بعد بداية الفِلم بقليلٍ، حيث يتحوّل حفل زفاف صدقي (بيومي فؤاد) وبثينة (دلال عبد العزيز) إلى مسرح لصراعٍ بالأسلحة النارية مُفعَمٍ بالوقائع المُفارقةِ لمألوف الحياة العاديّة ولا يمكننا بحالٍ من الأحوال أن نفهمَه قبل انتهاء هذا المشهد. وما يجعلُ الأمرَ مفارقًا للمألوف هكذا أنّ أبًا أرملَ يبدو في عِقدِه السادس، وأُمًّا أرملةً في مِثل سِنِّه، وكلاهما يبدُوان من بيئةٍ مصريةٍ دافئةٍ مسالِمةٍ تمامًا، يقرران أن يبدآ حياةً جديدةً معًا، وحينَ تدخلُ الفرَحَ فرقةٌ للطُّبول تتقدّمها امرأةٌ تنظرُ نظراتٍ حادّةً مهدِّدةً إلى العروسَين، نكتشف أنّ حزامَ مسدّساتٍ يقبع تحت فستان زفاف (بثينة)، وأنّ العروسَين وعددًا كبيرًا من أقاربِهما الذين كانوا يبدون مُنتَمين إلى نفس البيئةِ قادرون تمامًا على تراشُق النار مع الفرقة المُغيرة على الفرَح. ثم نكتشفُ في المشهد التالي بعد أن ينتهي الصراع لصالحِ عائلة العروسَين أنّ العائلةَ المُسالِمة في الظاهر عريقةٌ في الإجرام، وأنّ الهجوم المفاجئ على الفرح كان يستهدِف سرقةَ شحنة كبيرة من قِطَع الماس المهرَّب داخل أصابع الكوسى المحشوّة بالأرز ضِمنَ عشاء حفل الزفاف!

يقع الفِلم على تخوم العرض الهزليّ Farce والمُحاكاة التهكُّميّة Parody والمَلهاة فوق الواقعية Surreal Comedy. فأمّا اندراجُه في الهزليّة فنراه في المواقِف المبالَغ فيها عمدًا إلى درجة مجاوزة الإمكان، ومثالُ ذلك الضربات التي يوجهها (صدقي) بالمدفع الآليّ إلى أهدافٍ متحركةٍ وراء ظهره دون أن يلتفت إليها وإصابتُه أهدافَه ببساطةٍ كأنه يرمي بكُرةٍ وراء ظهره لا يُطلق النار على أفراد عصابة! وكذلك المبالغة في تصوير نمَط شخصيّة المرأة القويّة التي تبحث عن رجُلٍ أقوى منها لتعشقَه في مشهَدَين للمعلّمة (كبائر) غريمة عائلة (أبو الزواحف) عائلة العروسَين - التي تقوم بدورها (لوسي) - تتلقّى فيهما صفعاتٍ متتاليةً من الدكتور خليل منتحِلًا شخصيّة البلطجي (ﭼـو أحمدي)، ويقوم بدوره (هشام ماجد)، وصفعةً أثرَ صفعةٍ تعلن استسلامَها التامّ له وأنه الرجُل الذي تبحث عنه!

أمّا التهكُّم فهو دائمًا إحالةٌ ساخرةٌ إلى أعمالٍ أخرى تكون عادةً مأساويّةً وإن كان يمكن ألّا تكون كذلك. ومن أمثلتِه هنا مشهد (شمشون) - الذي يقوم بدوره (أحمد فتحي) – الزوج الأسبَق لـ(كبائر)، المحبوس في قَبو قصرِها الغامض والمؤمن بأنه في سجن (طُرَة)، فعندما تتسلّل إليه (زاهية أبو الزواحف) – وتقوم بدورها دنيا سمير غانم – منتحلةً شخصيّة خادمةٍ خلال رحلة بحثِها عن الماس المسروق من فرَح أمِّها، يَعمَد (شمشون) إلى ثُقب في الجدار، ويقول إنه قد حفرَه في محاولةٍ لحفر نفَقٍ ليهربَ منه، وهو ما يبدو جهدًا عبثيًّا تمامًا بالنظر إلى صِغَر الثُّقب والحالة العامّة التي نرى عليها شمشون، لكنّ المهمّ هنا أنه يُحيلُنا إلى تُراثٍ عالَميٍّ عريضٍ من الأعمال الدرامية المحتفية بحدَثٍ مماثِلٍ، ربما تبدأ برواية (كونت مونت كريستو) لألكساندر دوماس، وصولًا إلى فِلم (افتداء شوشانك The Shawshank Redemption) الذي أخرجَه (فرانك دارابُنت) عام 1994. كذلك قُربَ الختام ينتحل (خليل) و(زاهية) شخصيّتَي زوجَين يعانيان اضطرابًا في حياتهما الزواجيّة فيذهبان إلى منتجَع الدكتور (وفاء النِّيل)/ (الخسيس) – الذي يقوم بدَورِه (محمد ممدوح) – وهو السّتار الذي يمارسُ من خلفِه أعمالَه الإجراميّةَ الغريمُ الآخَر لعائلة أبو الزواحف. وهناك نجد مع هذين الزوجَين المزيَّفَين ستّة أزواجٍ آخَرين، ويدور برنامج (وفاء النيل) للإصلاح بين الأزواج بطَريقةٍ تذكّرُنا ببعض أحداثِ فِلم (منتجَع الأزواج Couples’ Retreat) من إخراج (ﭘِـيتر بِلِنغسلي) وإنتاج عام 2009، إلا أن محض أسماء الفقرات التي يبتدعها (وفاءُ النيل) هنا يلفتُنا إلى خيطٍ عبثيٍّ في ذلك الفِلم وفيما يحتفي به من برامج الإصلاح الزواجي، كتلك الفقرة التي يسمّيها (سمّي وeat وما ترميش الفتافيت)!

هذا، فيما تبدو السرياليّة أو مجاوزة الواقع منتشرةً انتشارًا لطيفًا في أحداث الفلم من أولِه إلى آخره، فمن ذلك سرعة هروب العروسَين المجرمَين (بثينة) و(صدقي) في كلّ موقفٍ متأزِّمٍ تداهم فيه الشُّرطةُ الأحداث، حتى إنهمل لَيختفيان فجأةً حَرفيًّا، وهو ما لا يتّسِق بالضرورة حتى مع وزنَيهما، إن غَضَضنا الطرفَ عن كل عاملٍ آخر في رسم هاتين الشخصيّتين! وقريبٌ من هذا سرعة تحوُّل الدكتور خليل والهَجّام (Fox) الناجي من الصِّراع المسلَّح في حفل الزفاف – والذي قامَ بدَوره (شيكو) – داخلَ غرفة الأخير في المستشفى، تحوُّلِهما من الاشتباكِ العنيفِ حَدَّ قَلب فِراش المريض فوقَه في إحدى اللقطات، إلى التظاهُر بأنّ المريضَ يشكو ساقَه مرّةً وصُداعًا مرّةً أخرى، وأنّ الطبيبَ يفحصُه في المرّتين حين تلفِت الجَلَبةُ العسكريَّ الذي يحرسُ الغُرفةَ فيقتحمُها، ففي كلّ مرّةٍ لا يمكن أن يسمح الزمنُ بهذا التحوُّل بهذه الكفاءة!

والواقع أنّ هذه الحقول الثلاثة التي تُنبتُ الإضحاك في الفِلم تبدو أثيرةً لدى كاتبِه (شريف نجيب)، وليس هذا الفِلم أولَ ضربةَ فأسٍ له فيها، فمَن شاهدَ أولَ فِلمَين طويلَين له (لا تراجُع ولا استسلام: القبضة الدامية) من إخراج أحمد الجندي وإنتاج 2010، و(سيما علي بابا) من إخراج الجندي أيضًا وإنتاج 2011، من شاهدهما سيدرك أنّ حاسّة الكتابة الكوميدية عنده تحتفي بالمغامرة الشاطحة خارجَ حدود الواقع، فهو يعطّل آليّات المألوف في أحداث هذه الأفلام، كما يُحيلُنا دائمًا إلى أعمالٍ أخرى شهيرةٍ، يَعمَد إلى انتهاكِ سردِها المأساويّ ليُخرِجَ منه خيوطَ العبث التي تتركُنا نكادُ نقع من الضحك. والحَقُّ أنّ التفاتَه إلى أبسط التفاصيلِ هنا يقوّي الأثَر المضحِك لنَصّه السينمائيّ، فابتداءً من أسماء الشخصيّات نجدُه منتبهًا إلى مبالَغات الواقع ومبالَغات السينما، ويزيد على كِلَيهما لتصبح الصورةُ كاريكاتيريّةً تمامًا، ومثالُ ذلك المعلّمة (كبائر) و(الخسيس) الذي تعترف (كبائر) لخليل وهي تلفظ أنفاسَها الأخيرة بأنه مَن حرّضَها على سرقة الماس لحسابِه، حيث يتصور (خليل) و(زاهية) أنها تطلِقُ مجرّدَ لقبٍ على شخصٍ مجهولٍ لهما، لكنهما حين ينقلان جُملتَها إلى الأبوَين العروسَين (بثينة وصدقي) نعرف أنّ (الخسيس) علَمٌ على غريمِها الشرِس! وهو يحتفي بالتهكُّم كذلك على مستوىً ألطفَ ممّا ذَكرناه، ففي لقطةٍ من اللقطات التي تسجّل فيها (زاهية) بصوتِها مَشاعرَها على ذاكرةِ هاتفِها المحمول مستسلِمةً لجوٍّ رومانسيٍّ حالِمٍ يقطعُ (خليل) عليها هذه اللحظات فجأةً بأن يقذفَها بوسادةٍ في وجهِها، فهو يتهكّم هنا على مستوى اللقطة الواحدة من نوع الأفلام الرومانسيّة كلِّه، وفي اللقطة التي يسترسِلُ فيها (صدقي) في وصف شراسة غريمِه (الخسيس) يوقِفُ استرسالَه قريبُه (منير) الذي يقوم بدورِه (محمد حسني) قائلًا: "خلاص يا عمّ الـdocumentary"، فهنا يتهكّم من نوع الأفلام الوثائقيّة برُمَّتِه، وهكذا.

أمّا المخرج (خالد الحلفاوي) فقد بدأ نجاحُه في هذا العمل من اختيار أبطالِه وأصحاب الأدوار الثانويّة فيه، فهشام ماجد بملامحِه الأوربية بعض الشيء يصنع المفارقةَ طيلة الوقتِ بأدائه دورَ الطبيب (ابن الناس) المتطلّع إلى الهجرة إلى كندا والذي لا يُطيق صُحبة أسرتِه الصغيرة ولا عائلتِه (أبو الزواحف)، وبإطلاقِه العبارات المُغرِقة في ارتباطِها بالحياة المصريّة في الوقت ذاتِه، ويصل هذا إلى ذروتِه حين ينتحل شخصية البلطجي. وأمّا دلال عبد العزيز – رحمة الله عليها – وبيومي فؤاد، بملامحهما الهادئة وارتباطهما في وعي المُشاهِدِين بتجسيد الشخصيّات الهادئة بالضرورة، فإنّ اختيارَهما للقيام بدَور مُجرِمَين عتيدَين هنا يصنع الضحك من عدم قدرتِنا على التصديق، مع اضطرارِنا إليه بحُكم الاتّفاق الضمنيّ بيننا وبينَ طاقَم الفِلم على تصديقِ هذا الذي لا يُصدَّق! ويمتدّ هذا ويَصدُق على اختيار الشخصيّات الأقلّ مساحةً في العمل، ابتداءً من (نبيل الحلفاوي) الذي عَهِدناه جادًّا ذا تاريخٍ طويلٍ من الأدوار الكبيرة المُتقَنة في الدراما المُتلفزة والأفلام، حيثُ يقوم هنا بدَور مُدير شركةٍ يُجري مقابلةً شخصيّةً لزاهية في بداية الفِلم للبتّ في قَبولِها كموظّفة بالشركة، وحين يُدرك أنّها تسعى وراء اصطياد زَوجٍ يخرجُ معها إلى مقهىً ويعرضُ عليها صُورَ بعض الشباب الموظّفين في الشركة لتختار منهم واحدا! ببساطةٍ، لم يتصوّر أحدُنا أن ينقلِب الحلفاويّ الكبير على هذا النحو، فعمّق ذلك الأثر المُضحِك لظهورِه الفريد هنا.

لكنّ الأداء التمثيليّ الذي أراه بحَقٍّ يستوجب وقفةً لتأمُّل عبقريته هو أداء (دنيا سمير غانم)، وقد قِيل في تفرُّدها ما قِيل منذُ بداية ظهورِها في السينما والدراما المتلفزة. لكنّي أرى أنّ فرادتَها تنبع من ناحيةٍ من قدرتها على رسم تعبيرات الوجه الأكثر ملاءمةً للمواقف المختلفة، فهي هنا فتاةٌ تسعى بكلّ طاقتِها وراء الزواج، وحين يستبدُّ بها الفرح لسماع عبارةٍ واعدةٍ بالحُبّ والزواجِ يرتسم الفرح في ملامحِها طاغيًا، وحين يثور الإعجابُ في نفسِها نجدُ أثرَه في عينيها، وقِس على ذلك. وهي مع هذا لا يمكن اعتبارُها من (ممثِّلي الأدوار النمطيّة) كما يصنِّفُهم المُخرج المسرحي وعالِم النفس الفرنسي (أندريه ﭬِلييه André Villiers) في كتابه (الممثِّل الكوميدي L'acteur comique)، فهؤلاء يوظّفُهم المُخرج تبعًا لمقاييس جسمانيّة وملامحَ معيّنةٍ بحيثُ يسدُّون خاناتٍ شاغرةً في العمل، وبالطبع فدَور الباحثة عن الزواج دورٌ يحُضُّ على النمطيّة، إلا أنَ فنانتَنا تحشُدُ هنا كلَّ ما أُوتيَت من طاقة التشخيص لتتلبّسَ هذه الشخصيّةَ بحيثُ يثورُ الضحِك من مفارقات الموقِف، لا من طبيعةٍ جسمانيّةٍ أو من ملامح الوجه. وهي في هذا التشخيص تكادُ لا تُبارَى بالفعل بين فنّاني جيلِها على الأقلّ، فحين تنتحل زاهية شخصيّة خادمةٍ، تتبنّى (دنيا) طريقةَ كلامٍ ومفرداتٍ، وحتى تعبيراتِ وجهٍ – وآملُ ألّا أكون مبالِغًا إن قُلتُ إنها تكاد تغيّر صفةَ تشريح وجهِها بإبراز ذقنِها قليلًا – تعمل كلُّها متضافرةً على نقل صورة الخادمةِ المنتمِية إلى طبقةٍ بعينِها والتي تخدُمُ في بيوتٍ راقيةٍ كما نُصادفُها في مجتمعِنا المصريّ. ويلوحُ لي أنّ عنصُرَي المفردات وطريقة الكلام ليسا إبداعًا أصيلًا للمخرج هنا، فلفنانتِنا سوابقُ نعرفُها في هذا الأمر في أفلامٍ مثل (طير انت) ومسلسلاتٍ مثل (نيللي وشيريهان)، وأنّ استخدامَها لهذين العنصرين بهذا الشكل الذي يحتاج إلى تفصيلٍ ليس محلُّه هنا ينبئ عن وعيٍ مُدهشٍ بالمجتمَع، بل إنّ هذه المهارة في التقاط طريقة الكلام وحركات الوجه المناسبة تبعًا للطبقة الاجتماعية تدخُلُ في اختصاصات علم اللسانيات الاجتماعية. ولا نزعمُ أنّا نعرفُ لفنانتِنا اهتمامًا به مثَلًا، وإنما هو في الغالبِ شيءٌ أقربُ إلى الحدس الفنّيّ الذي لا يخلو من أثَر الدُّربةِ في ملاحظة الناس وطرائقِ تواصُلِهم.

انتهاءً، يقدّم الفِلم كوميديا ليست جديدةً تمامًا على السينما العربية، فبُشرَياتُها موجودةٌ وراسخةٌ منذُ نهاية العِقد الأول في الألفية الثالثة، لكنّه يصِل بها إلى مستوياتٍ من الإضحاك غير معقولة، ويوفّر مهربًا مؤقتًا بالغَ الإمتاع من واقعٍ مصريٍّ وعربيٍّ ضاغطٍ إلى أبعَد مَدى.