آراء ثقافية

"طعام.. صلاة.. حب": معاهدة اليوغا صلحا للأمريكي مع نفسه

رواية
حظيت رواية "صلاة طعام حب" بالحفاوة، وصارت في قائمة الكتب الأكثر مبيعًا إباّن صدورها وما تزال، وأثنى عليها المشاهير والساسة أمثال هيلاري كلنتون، وميغ رايان، وجوليا روبرتس، التي أدّت شخصية المؤلفة إليزابيت جيلبرت، في فلم للمخرج رايان مورفي، وأهدت جوليا روبرتس عشرات النسخ من روايتها الأثيرة لأصدقائها المقربين إعجابًا بالرواية، وهي رواية سيرة ذاتية، وكتاب سياحة ورحلات وتأملات ومقارنات بين شرق وغرب، ووصفة علاجية للروح الأمريكية المكتئبة.

صُنّف الفلم المأخوذ عن الرواية فلمًا رومانسيًا، قيل إنَّ الصورة بألف كلمة، لكن الفلم لا يغني عن الرواية، فألف صورة لا تستطيع التعبير عن شذرة شاعر أو حكمة حكيم.

عنوان الرواية مقتبس من مقلوب قولة أفلاطون: "إن مدينة تعيش من أجل الطعام والشراب والحب هي مدينة لا يمكن أن تعيش بسلام"، ولذلك استعاضت المؤلفة عن الشراب في مقولة أفلاطون بالصلاة، والصلاة هي اليوغا، وهي صلاة يصليها المرء لنفسه في نفسه، واليوغا تعريفًا من لدن أصحابها ورعاتها وأئمتها هي الاتحاد والصلة بين الفرد وخالقه، والمرء وجاره، والعقل والجسد... لقد وجد نخبة أمريكا حلًا غير الخمر والمخدرات لوبال الجسد وتحطّمه.

تحفل الرواية بالملاحظات الثاقبة والتأملات الصحفية، وتثرى بالمقارنات بين المدن، وتتصف بحسن الاقتباس والاستذكار الثقافي والطموح الروحي، من لطائفها الأمريكية قول الراوية إنَّ شقيقتها أهدتها وصفة أمريكية بديلة عن الزوج المطلّق، وهي كيس ساخن!

وسبب الطلاق بينها وبين ديفيد زوجها أن المؤلفة أبت الإنجاب وترفض الاعتراف بأنانيتها والإقرار بنكران الأمومة، مما سبب لها خصومة مع ضميرها واكتئابًا شديدًا، والطلاق شديد التعقيد قانونيًا في مدينتها نيويورك، وهو ما بقي من آثار التحريم الكنسي للطلاق في القانون.

تشبّه حياتها بحادث سير في نيوجرسي في شارع شديد الازدحام، قصدت المؤلفة إيطاليا سعيًا لتعلم الإيطالية، فوجدت عشرين طالبًا جاؤوا لتعلمها لنفس السبب: وهو جرسها وموسيقية نبرتها ومدود حروفها، وإيطاليا مشهورة بأنها بلاد الطعام الطيب، هي بلاد البيتزا والباستا والآيس كريم، لكن الإيطاليين وهم يصنفون المدن يرون أنَّ روما هي مدينة الجنس.

تشبّه الكاتبة الثياب الداخلية المعلقة على الحبال بين الشرفات في نابولي بأعلام التيبت المقدسة، فنلمح مزجًا بين الجنس والمقدس في الوصف. تمد القارئ بمعلومات قاموسية طريفة غير معروفة عن كلمات الايطالية مثل قولها: إن لفظ تشاو الوداعية الإيطالية، تعني: أنا عبدك!

كانت المؤلفة في نيويورك تواظب على جلسات المانترا السنسكريتية غذاء لروحها الخاوية، ووافقت على اقتراح إحدى دور النشر القيام برحلة مأجورة إلى بالي لوصف صلوات اليوغا التي تلقى رواجًا في الغرب، فتقصد عرّافًا ليرشدها إلى الحب والخلاص من الاضطراب، فيهديها العرّاف العجوز الأدرد كيتوت إلى خلاصة معارفه، ناصحًا: للحصول على التوزان النفسي المفقود عليها أن تقف على أربع سيقان، ويريها صورة كائن من ذوات الأربع، ستجعله أيقونة ودليلًا ومعلمًا. يوصيها أن تنظر إلى العالم من خلال قلبها وليس من رأسها. بعد خلع كسوة العبارة الفلسفية يمكننا تلخيصها بالردّة إلى حال الحيوان وتعطيل العقل. عدنا إلى المخدرات لكنها مخدرات تؤخذ هذه المرة عن طريق الروح.

سنذكّر بأنّ أبطال فلم "الأفاتار" المنتصرين على الغزاة الأمريكان كائنات طوال يعيشون في كوكب بعيد، غني بالمعادن الثمينة يجمعون بين صفات البشر والحيوان ومطاياهم الديناصورات الطائرة.

سيجد القارئ أنّ العراف قليل الحكمة، فمعارفه العرفانية خفيفة الحمل، وتنبؤاته شحيحة الاستشراف، بل إنه مادي أيضًا، فعند تعرّف المؤلفة على توأم الروح الجديد فيليب يسألها العرّاف: ما إذا كان غنيًا؟

تشكره المؤلفة باختلاس القراطيس الموروثة من آبائه الروحيين، وفيها خبراته وتجاربه، والتي تلفت مع الزمن، وتصورها على آلة تصوير وتحييها في نسخ أنيقة مجلدة، فيذهل بها ويشكرها كثيرًا، ستكون واحدة من أغراض الرواية المقايضة بين الروحانية البوذية والمادية الغربية. الآلة الغربية في خدمة الديانات التوأمية العرفانية، والطوطمية الشرقية في خدمة الحداثة الغربية.

إن أحد أسباب شيوع الرواية هو جمعها بين اللذة والعبادة، وبين النهم والصوم، وبين الجنس والتبتّل، ستثني الكاتبة على الصوفي جلال الدين الرومي الحلولي، الذي تحتفي به كثيرًا، وسترضي نفسها والقارئ بإحسانها إلى طبيبة أعشاب اسمها وايان نورياسي تعيش مع ابنتيها بالتبني تعالج بالطب البديل من خلال دعوة أصدقائها إلى التبرع لها، فيجمعون ثمن بيت لها.

في رحلتها إلى الهند تعمل خمس ساعات يوميًا في كشط أرض المعبد، صائمة عن الكلام أسبوعين، فإهانة الجسد إحدى طرق العبادة المعروفة.

ثمة برنامج بثّته وثائقية الـ"بي بي سي" عن رحلات تقيمها شركة نفسية لبريطانيين يعانون من الاكتئاب إلى قرى أفريقية رعوية، فيعيشون شهرًا بينهم، ينامون على الأرض ويشربون من مياه البرك ويأكلون لحوم الطرائد، الترف يقتل القلب.

الراوية تسعى إلى شريك عاطفي جديد، لكنها تعاني من المرض الأمريكي الشهير "الخوف من الحميمية" والفقاعة الفولاذية، في بالي تعثر على فيليب، وتقع في غرامه، لقد عادت إلى الحب والحياة بعد ذلك الحج إلى نفسها، وتمت البيعة، لكن الأمريكي لا يتغير كثيرًا، فاليوغا ليست سوى حيلة لعودة الأمريكي إلى صباه الجسدي والجنسي.

في الرواية كثير من الجسد والقليل من الروح رغم سرود طويلة وشروحات عن اليوغا والمانترا. للمؤلفة مشهد شهير في اليوتيوب وهي في الحادية والثلاثين، قبل تأليف الرواية، تسألها المذيعة الأمريكية أوبرا عن أعظم رحمة وجدتها في حياتها، فتقول: إنها أصيبت بالتسمم في جزيرة لبومك الأندونيسية، فانقطعت عن العالم وأشرفت على الهلاك، لكنها فوجئت بزيارة سيدة مسلمة كانت تسلّم عليها إيماء كل يوم وهي تمشي حول الجزيرة، ومدّتها بالطعام والماء النقي والرحمة، وأنها لن تنسى تلك الرحمة، إنها أعظم رحمة رأتها في حياتها.