قضايا وآراء

كَالْعِيسِ في البَيْداءِ يَقتُلُها الظَّما..

1300x600

رحم الله غَرْقى البحور، والثاوين تحت ردم بيوتهم وقراهم وبلداتهم ومدنهم في أوطانهم، ومَن استنفدتهم صحياً ونفسياً وروحياً مخيَّمات النزوح واللجوء، وضحايا الإرهاب والطغيان والحروب في كل بقاع الأرض، وماتوا من دون أن يلفُّهم كَفَنٌ أو يحتويهم قبر، وصاروا طعاماً للواحم البحر والجوِّ والبَر. وكان الله في عون الذين فقدوا الأمن في ديارهم، وأسلمتهم أوطانهم للرعب والبؤس والفقر واليأس، فعاشوا الفاقة والشقاء والذل، وتجرَّعوا العلْقم مراتٍ بعد مرات، في غربة مثلثة الشُّعَب: "غربة عن الوطن وفيه، وعن البيت وفيه، وبين المرء وذويه.. وغربة عن المُواطَنة والأمْن والسلم، وعن الحق والعدل والحرية، وعن المساواة والقيم الإنسانية. 

ومن أولئك الذين ابتلعهم البحرُ الأبيض المتوسط في الثاني والعشرين من أيلول / سبتمبر الماضي، مئة سوري ولبناني وفلسطيني، بينهم أطفال ونساء، غرِق بهم مركب لبناني قُبالة جزيرة أرواد وشاطئ مدينة طرطوس السوريتين.. إنهم بشرٌ من لحم ودم، مواطنون في بلدان لها سيادة وقيادة وتاريخ وريادة.. حشرهم تاجر موت لبناني فاسد، من تجار تهريب المهاجرين، في مركب موت متهالك، وضع فيه مئة وخمسين شخصاً لم ينج منهم سوى تسعة عشر، وقضى الباقون نحبهم ولم يعثر على أثر لعدد منهم.
 
في تسجيل مصور، وعن لسان أحد الناجين من مركب الموت ذاك، أن القبطان رفض الصعود إلى المركب والإبحار عندما رأى كماً بشرياً مكدَّساً في المركب يفوق طاقته على الحمل بأضعاف مضاعفة، وفضل أن يموت على أن يتسبب في موت هؤلاء المهاجرين هجرة غير شرعية.. فهدده تاجر الموت الفاسد ومعه عصابة مسلحة تأتمر بأمره، هدده بقتل أولاده الأربعة أمام عينيه واحداً بعد الآخر ثم بقتله هو، إن لم يصعد إلى المركب ويبحر به بمن فيه. 

وهكذا أجبره بقوة السلاح على الصعود والإبحار والمخاطرة.. فانطلق من بلدة المنية اللبنانية الواقعة في قضاء الضِّنية، قرب طرابلس الشام على شاطئ المتوسط. وأن القبطان بعد أن أبحر طلب النجدة من خفر السواحل اللبنانية لكن لم يستجب له أحد، وبعد ساعات من المكابدة في ظلمة الليل وشدة الموج، مال المركب ميلَته الأولى فسقط أكثر من سبعين شخصاً من ركابه في البحر، ثم اعتدل ومال ميلَته الثانية فانقلب بَطناً لظهر، وبعد لأي استقر وقفز فوق ظهره ستة من الأشخاص بينهم أبٌ وطفلُه الصغير يتعلق بيده، وأن الطفل مات بين يدي أبيه بعد معاناة من شدة البرد والعطش والتعب والخوف، فضمه الأب إلى صدره ميتاً، وغسله بالدمع، وبقي على حال لا يوصف بأقوال إلى أن اضطر إلى إلقائه في البحر.
 
تلك كانت بعض لحظات مصيبة خلق الله البائسين ببعض خلقه المجرمين الفاسدين.. وكل حالات الهجرات غير الشرعية تنطوي في أسبابها ونتائجها على مصائب لبشر على أيدي بشر.. بدءاً بفقدان الأمن والأمل وضيق العيش الذي يضطر المهاجر غير الشرعي إلى الهجرة وانتهاء بالمخاطرة بحياته على أمل الوصول إلى حياة. وإلى الذين يلومون أولئك، وإلى المتعالين عليهم، وإلى مَن يدعو إلى عدم الترحم على من مات منهم" وهذا مؤسف؟!؟!"، نقول إن أولئك الناس لا يركبون المخاطر تَرفاً ولا حُباً بالمغامرة ولا طَمعاً بمغانم، بل تدفعهم الشدائد وعظائم الأمور لفعل هو مخاطرة مكلفة وقد تكون مميتة، من أجل حياة وأمل بحياة أفضل، وتطلعاً لإنقاذ مَن يلوذ بهم وبذواتهم مِن أحياء. 

ويستوجب هذا الوضع المأساوي المتفاقم الحدوث والنتائج أن نطرح على أنفسنا أسئلة، ونواجه واقعنا الراهن بمسؤلية، ونتساءل: هل يجوز لمواطن أياً كان شأنه وموقعه ومكانته أن يحرم مواطناً من الأمل والعمل والعيش الآمن في وطنه، وأن يوصله إلى الحد الذي يجعله مُرَوَّعاً وجائعاً في الوطن ومنبوذاً منه، ويضطره إلى أن يقذف نفسه في اليمِّ من أجل لقمة عيش وعمل وحياة وأمل؟! وبأي حق يُفرَض على ملايين المواطنين العرب: " فلسطينيين وعراقيين ويمانيين وسوريين وليبيين ولبنانيين وتونسيين و.. و.."، أن يعيشوا الإرهاب والرعب والفقر والقهر والنَّبذَ في بلدانهم، ويتحملوا الغربة والذل خارجها، ويخوضوا هذه المخاضات المؤلمة..؟! وبأي حق تحتَقَرُ أنفس أو تُنْبَذ أو تُقتل على الجنسية والهوية والطائفية والمناطقية والعرقية و.. و..؟! ومن/ وما الذي يعطي الحق لخلق باضطهادهم خلق وإفقارهم وتدمير ديارهم وإغلاق سبل العيش والأمل أمامهم حتى يعافوا الديار وتظلم الدنيا بعيونهم فيفرون من موت إلى موت؟! وأية مصداقية لذرائع يتخذها خلق ضد خلق فتحرم الإنسان من أن يلوذ بوطنه وبحائط بيته في الأوقات العصيبة؟! والطير في المساءات العاصفة لا يُحْرَم من العودة إلى عشه ليقضي الليل فيه بأمن من برد وجوع وخوف؟!

 

ضَعفٌ وضَنكٌ وقهر وفتكٌ صارَ زمن الناس في أرجاء واسعة من وطن العرب، وملايين منهم في العراء والضراء، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، حالُهم أبأس حال في الصيف والشتاء، ينزفون ويُستنزفون بين كرٍّ وفرٍّ، وحرٍّ وقرٍّ، وتجهيلٍ وفَقْر.. لا شكواهم تُسمَع وإن هي سُمِعَت لا تنفع، وصِلَاتهم الدينية والقومية والوطنية والإنسانية وعلاقاتهم بذوي الشأن المولجين بـ " الرَّعية؟!" لا تشفع ولا تردَع..

 



آهٍ كم هو قاس الإنسان على الإنسان، وكم هي الكوارث التي يسببها أناس لأناس؟! وكم ابتلع البحرُ المتوسط وبَحرا إيجة ومرمرة، بين مضيقي جبل طارق والبوسفور، من عرب وأفارقة وآسيويين، في العقد الأخير من هذا القرن البائس الحزين. 

وكم في الشتات من حيوات مقبورة في المقابر قبل الموت. أولئك بشرٌ يا بشر، بشرٌ ضاقت بهم سبل العيش، ضاقوا بأوطانهم وضاقت بهم أوطانهم، فركبوا المَخاطر في البحر والبر بحثاً عن أمل وعمل وفرصة عيشٍ، أي عيش، فيتلقفهم المجرمون والفاسدون والمفسدون وتجار البشر أنفساً مرهقة مستباحة، ويعلَّبونهم تعليب السردين في قوارب أو مراكب أو ركائب متهالكات تالفات، فغيبهم الظلمُ والاستبدادُ والفقر والقهر في ظلمات البحار والمحيطات، في متاهات القفر والغابات ومجاهل الطرقات، ويقضون نحبهم بعد معاناة في ظُلماتٍ وظُلامات وأزمات بعد أزمات.

في كل أرجاء المعمورة فقراءٌ مستضعفون، ومظلومون ومقهورون، وغرباء في أوطانهم وعن أوطانهم.. لكن نصيب وطننا العربي من أولئك هو الأوفر، فعشرات الملايين من العرب في وطنهم الكبير وخارجه بين سقيم وجائع، وخائفٍ وراكع، وتابعٍ وخامع، وكلهم ضحايا لسياسات وسياسيين، ومطايا لمدعين ولجهلة فاسدين مفسدين، ولمستبدين مرضى عَظَمَة، ومتطرفين وطائفيين مغالين.. ينعق فيهم كلُّ رُوَيبِضَة انشقت عنه بيضة التفاهة فصار الآمر الحكيمَ العليمَ السميعَ البصيرَ، يُسفِّه العقلَ والعلمَ والأخلاقَ والحكمةَ والحشمَة، ويزري بكل عاقل حليم ذي خبرة وقدرة وعلم وضمير، وينهض ديكاً على مزبلة، يبشِّر ويقدِّر، يُكفِّر ويُنفِّر، ويتبعه غواة وحُواة وإمعات، ويستثمر فيه وفي أمثاله المستثمرون والمتسلطون والطغاة والبغاة والعدون على الأمة والمعتدون، فينهك ويُهلِك.
    
ضَعفٌ وضَنكٌ وقهر وفتكٌ صارَ زمن الناس في أرجاء واسعة من وطن العرب، وملايين منهم في العراء والضراء، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، حالُهم أبأس حال في الصيف والشتاء، ينزفون ويُستنزفون بين كرٍّ وفرٍّ، وحرٍّ وقرٍّ، وتجهيلٍ وفَقْر.. لا شكواهم تُسمَع وإن هي سُمِعَت لا تنفع، وصِلَاتهم الدينية والقومية والوطنية والإنسانية وعلاقاتهم بذوي الشأن المولجين بـ " الرَّعية؟!" لا تشفع ولا تردَع، ولا تمنحهم مجرد الوهم بأمل سلم وأمن من جوع وخوف.. ففي آذان الكثيرين من الحُكام المالكين، والمسؤولين المتحكِّمين، والأدعياء المتزلفين، والأدوات المتنفذين.. في آذان الكثيرين منهم وَقْرٌ، وفي قلوبهم كِبْرٌ، وفي ضمائرهم نَخْرٌ.. وكلٌّ خلَّف حُفراً تغيب فيها مظالم وأوضاع وحقائق بحجم جبال أرض وتلولها، وعلى عيونهم وعقولهم فوق ذلك غشاوات من تبعية مقيمة، وأفكار عقيمة، وضلالات غي وتيه ألقتهم فيها مساراتهم الغشيمة، وفداحة الأخطاء والخطايا والآثام والجرائم التي ارتكبوهها بحق خلق من خلق الله هم أهل ومواطنون وأخوة في القومية والمواطنة والدين..

فهم يُحَكَّمون بالناس وبثروات الوطن الطبيعية الهائلة، وبأمواله المقدَّرة بمئات المليارات من الدولارات، ويتصرفون بها انفراداً وعنوة، وينهبونها بالقوة استكباراً واقتداراً، ويبذِّرونها انبهاراً، ويودعون معظمها أرصدة لهم في مصارف دول وملل عنصرية عادية باغية، فيتحكَّم بهم وبها أعداء الفقيرة عامة وأعداء العروبة والإسلام خاصة، ويستثمرونها فيما يسعد شعوبهم، ويحتر إنسانهم، وينمي قدراتهم العسكرية والعلمية والتقنية والمعلوماتية.. فيزدادون بذلك قوة وبغياً وطغياناً وغياً وبطشاً، ويطمعوم بالعرب وبوطنهم الكبير أكثر فأكثر، فيتآمرون على الشعب العربي المالك الأحق بالثروة والمال والقرار، ويتنمرون عليه، ويحيلونه بالتواطؤ مع حُكَّامِه/ظُلَّلامه إلى شَلايا يرعاها راعٍ يأتمر بأمر عدوٍّها، ويصبح بالتقليد والضرورة عدواً لشعبه "رعيته..؟!"، لأمته وهويته وعقيدته، يستعدي عدوَّها عليها فيتنمر العدو ويبطش بها فتلهث وتنزف، ويصدق فيه قول من قال:

لا يُلام الذئبُ في عُدوانِه     إن يكُ الراعي عدوَّ الغَنَمِ 

وهكذا يرزح شعبنا العربي تحت ثقل ما حَمَلَ وتَحمَّل وحُمِّل من أحمال غدت أكياس ملح تكوي الظهور وتسلخ الجلود، وتترك الناس قيد الفقر والذل والقهر:
 
كالْعيسِ في البيداء يقتُلها الظَّما     والماءُ فوقَ ظهورِها مَحمولُ