آراء ثقافية

كلام "حبسجية".. من خلق اللغة السجنية؟

سجن العقرب- جيتي

كلام "حبسجية".. نماذج من مسكوكات السجن المصري. هذا هو عنوان كتاب الكاتب المصري أحمد سعيد (وهو سجين سياسي سابق في مصر).

 

صدر الكتاب عن مؤسسة "أمم للتوثيق والأبحاث" في لبنان، في عام 2021، والذي وضع فيه سعيد أهم المصطلحات السِّجنّية في مصر، أي المصطلحات التي يتداولها السجناء في مصر بين بعضهم وبعض، مع شرح مُفصلٍ لها.

 

نحاول في هذا المقال الحديث عن اللغة ومفرداتها داخل السجن المصري، وماهية تشكّلها وعلاقتها مع المُجتمع السَجيني والسُلطة السِّجنّية على السواء. 

استخدام سعيد في كتابه، الترتيب الأبجدي للحروف العربية، حيث يمرّ على كل حرف في اللغة، ويكتب المصطلحات التي تبدأ بهذا الحرف، ومن ثم يشرح ما دلالتها داخل السجن في مصر. ومن هنا يتفاجأ القارئ غير الممارس للتجربة السّجنّية في مصر، بكلمات ومصطلحات غريبة، أو مصطلحات يعرفها. لكن لها دلالة أُخرى، نذكر بعض المُصطلحات للتوضيح.

على سبيل المثال

أبو تريكة: هذا الاسم المُتعارف عليه في السجن، لا يُقصد به الإشارة إلى لاعب الكرة المصري الشهير محمد أبو تريكة، بل هنا "أبو تريكة" يعني اسم من أنواع الحشيش، الذي يتبادله السجناء، بعدما هرّبوه إلى داخل السجن. 

التَّارة: وهي كلمة غير مُتعارف عليها في الواقع المعيشي للمصريين، ويستغربها كل سجين جديد، لكنها تعني، الحيز أو المكان المُخصص لكل سجين، كي يجلس وينام فيه، وهي عبارة عن بضع سنتيمترات، أيضا مساحة الفرد تُقاس بما يُعرف بـ"الشبر وقبضة" (أي كف اليد رأسيا وعموديا). 

التعيين: التعيين هنا، ليس شغل أو ارتقاء وظيفي كما تُفهم الكلمة عند السماع، بل داخل السجن، يُقصد بها الطعام الذي يوزّع، على السجناء، وهو عبارة عن جراية (خبز) وفول وجبنة، إلى آخره من طعام يُوزّع حسب لائحة السجن؟ الملفوظة والمرئية. [1]

 

اقرأ أيضا: رواية "أسرى وحكايات".. الأسير الشرباتي يكتب من خلف القضبان

جدع: وهي مُتعارف عليها خارج الفضاء السِّجني، أنها معنى للشهامة والكرم الإنسانيين، لكن عندما تُقال داخل الفضاء السِّجني تُصبح مَسَبة، وتُقام عليها الخناقات (الشتائم والضرب) بين السُجناء، كذلك كلمة "كويس"، و"حاج" داخل الفضاء السِّجني تعني مَسبة، وأغلب المُصطلحات الذي لها دلالة أخلاقية حسنة في الخارج، لكنها تُقال داخل السجن، تدل على مسبة، فيها تورية جنّسية، وهذا ما يجعلها كبيرة وإشكالية بين السجناء وبعضهم. 

عشرات من المُصطلحات السِّجنية الموجودة التي ذكرها سعيد في كتابه، ما يستدعي سؤال من خلق هذه المُصطلحات، وكيف ركَّب مفرداتها، وكيف غيّر دلالتها. السُلطة أم الاجتماع، والاجتماع هنا أي السُجناء، ولماذا خُلقت هذه المُصطلحات.

الحقيقة أن الإجابة من صاحب اختراع هذه المصطلحات، هي السُلطة والمجتمع السَّجيني معًا. لا وجود دقيق حول متى اخترعت وتداولت هذه المُصطلحات تقريبا، وهل هي حديثة النشأة، أم خُلقت منذ بدايات السجن المصري، وهل سبقها مُصطلحات هي الآن مَعدومة، ولم تعد موجودة؟

 

ومن هنا نستطيع قول إن السُلطة خلقت بعض المُصطلحات، على سبيل المثال مصطلح الجراية، وهو متعارف عليه بالخبز داخل السجن. وهذا مُصطلح يرجح أنّه من اختراع السُلطة، لأن الجراية في المفهوم اللغوي تعني، الحصة أو المُقاننة التي تُعطيها السُلطة لمن هم تابعيها أو جنودها، والسلطة السِّجنية تُعطي الجراية لسجنائِها، لكنها اختصت الخُبز في هذا الاسم، ومن هنا ثبَتَ المُصطلح، وتم تداوله داخل الفضاء السِّجني، بطرفيه السُلطة والسجناء. 

 

اختراع السجناء

أما فيما يخص المُصطلحات التي اخترعها الاجتماع السَّجيني، فهي اختراع لأسباب عدّة، منها التورية غير المباشرة، هذه التورية للضرورة، بمعنى آخر. عندما يستخدم السجين كلمة (كويس- جدع- حاج) هي كلمات لسبِّ الآخر، الآخر الذي ربما لا يعرف أنّه يسبّ في حالة إن كان سجينا جديدا.

 

وهذه تكون استراتيجية استقواء من السجين القديم بحق السجين الجديد، كذلك يضمن بهذه التورية عدم عقاب السُلطة في حال التدخل لفض المنازعات. أيضا استخدام مصطلح (أبو تريكة)، تورية هنا لخداع السُلطة، حتى لا يُلفظ كلمات مثل مخدرات أو حشيش داخل الزنزانة، تحسبا لسماع أحد رجال السُلطة أن هناك مخدرات مع السجناء، ما يستدعي تفتيشا لهم وللزنزاَنة، ومن ثم العقاب الشديد، ووجود قضية جنائية أُخرى من الداخل. 

 

دور السلطة

أيضا تشكيل هذه اللغة الغامضة، تأتي بفعل تشكيل السُلطة لنمط حياةٍ غير إنساني، بل نمط حياتي جحيمي، يعتمد على القهر والإخضاع، المُمَارس من السُلطة حيال السُجناء، ومن ثم من السجناء على السُجناء الأضعف منهم، وهنا تتشكّل ممارسات السُجناء بفعل السُلطة، حسب ميشال فوكو، إذ يطبّع الاجتماع مع ماهية الممارسة لدى السُلطة. [2]

 

أو بوصف آخر لأستاذ الاجتماع اللبناني مصطفى حجازي، حيث يقول: "ذاب الإنسان المقهور في عالم المُتسلط، بالتقرب من أسلوبه الحياتي وتبـنِّي قيمه ومُثله العليا، وهو يرى من خلال هذا التقرب وهذا التبـنِّي، حلًّا لمَأزقه الوجودي وارتقاءً لكيانه إلى مرتبةٍ تُرضيه، وتبث في نفسه الكبرياء".[3]

 

هذه الحياة تصنع لغةً، تتناسب مع طبيعتها ونمطيّتها، لغةً في مضمونها ذكورية شديدة، في مضمونها إيحاءات وتوريات، تشتبك مع السُلطات السياسة والاجتماعية والنفسية، لغةٌ تعتبر تمايزا للسجين الذي يُدرك مُصطلحاتها جيدا. 

قدّم سعيد في كتابه، معجما للغة داخل الفضاء السِّجنّي، كأساس بحثي لمن يُريد البحث والتعمّق في ماهية هذه اللغة، أصولها وأبعاد تشَكُلّها ومراحل تطوّرها، فضلا عن علاقاتها مع اللغة التي يتعايش بها الإنسان خارج السجن، وغير ذلك مما وراء اللغة السِّجنّية. 

هوامش:


نظام الحياة المرئي هو الفضاء الواسع الذي تعيش داخله السلطة والسجناء معاً، ويكون له تأثيرٌ مباشر على العلاقة بينهُما، وقد استَـخدمناه للفصل بينه وبين النظام المَلـفوظ المُتبع قانونـيّاً. للمزيد انظر: أركيولوجيا المعرفة؛ ميشيل فوكو. كذلك انظر: محمد علي الكردي؛ نظرية المعرفة والسلطة عند ميشيل فوكو، دار المعرفة الجامعية، ط1 الإسكندرية، 1992، ص 11


يحاجج ميشال فوكو، حول أن السلطة ومن خلال فرض أدوات وممارسات منهجية بحقِّ سكانها، تستطيع تشكيل وبث رمزيات وثقافات، تترجم في شكل ممارسات وأخلاقيات وأفكار حول الجسد، الجنس، وغير ذلك. للمزيد، انظر: Michel Foucault: Feminism,” The Internet Encyclopedia of Philosophy


مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، المركز الثقافي العربي، ط9 المغرب 2005، ص 132.