كتاب عربي 21

"المثليون" في كأس العالم.. الصراع الحضاري

قضية المثليين وشارات المثليين وحقوق الإنسان أدوات للضغط السياسي والابتزاز الدبلوماسي الذي ينفي خصوصية الآخر ويلغي حقه في الاختلاف (تويتر)
قد يبدو ملف "الأقليات الجنسية" أو "المثليين" موضوعا هامشيا في كأس العالم اكتفى منه العرب والمسلمون بالتنديد والاستنكار مثمنين موقف قطر من الصمود في وجه الابتزاز الغربي. لكن التصعيد الإعلامي الغربي ضد قطر والحملات المهووسة والجنونية ضد الدوحة في أوروبا تدفع إلى مزيد تمعن في دلالات هذا الملف الذي يبدو هامشيا.
 
رفض القطريون بكل وضوح توظيف المناسبة الرياضية لغايات سياسية أو غيرها مؤكدين على أن كأس العالم رياضة كرة القدم ولا مجال لاستثمار الحدث من أجل توظيفه لأية أهداف أخرى. لكن أمير البلاد الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أكد من ألمانيا أمام الصحفيين الألمان "إن قطر تستقبل الجميع لكن شعبها ينتظر من ضيوفه أن يحترموا أخلاق البلد المضيف وثقافته". وهو التصريح الذي يعكس وعي السلطة السياسية في الدوحة بما تخفيه حملات "حقوق الإنسان" المسعورة ضدهم من خلفيات استشراقية وحتى عنصرية لأنهم قد خبروها منذ أكثر من عقد من الزمان.   

الشجرة والغابة

"حقوق الإنسان" حق نسبي أريد به باطل مطلق وهي اليوم شعار كاذب تستعمله قوى الهيمنة العالمية لتركيع الدول الفقيرة وابتزاز المستبد الذي يحكمها مستفيدة من تطور مجتمعاتها ورفاه أهلها. فالدول الرافعة لشعار حقوق الإنسان هي نفسها التي تنهب خيرات أفريقيا وهي التي دمّرت العراق وصنعت الجماعات الإرهابية داخله وهي التي تقصف اليوم سوريا وتساند كيان الاحتلال في فلسطين وتمدّ الطغاة العرب بكل أنواع الأسلحة لقتل شعوبهم.

نفس الدول التي ترفع رايات حقوق الإنسان هي الدول المثقلة بتاريخ حافل من الجرائم ضد الإنسانية والمذابح والمحارق خلال أكثر من أربعة قرون وهي نفسها التي ترفض اليوم أن تعترف بهذه الجرائم أوتعتذر عما فعلته هناك من أهوال. لكنها من جهة أخرى نجحت في تطوير منظومات حقوقية متقدمة داخل بلدانها عبر فصل السلطات وتنفيذ علوية القانون إلى حدود معينة لم تتحقق في الدول الفقيرة. هذه المنظومات الحقوقية والتشريعات والقوانين هي التي ساهمت في تطور الدول الغربية بشكل عام لكنها إجراءات لم تنفصل عن الحملات الاستعمارية التي خاضتها إلى حدود منتصف القرن الماضي بل إنها اعتبرت أن غزوها واحتلالها لهذه الدول إنما جاء لنشر الحرية والحضارة وحتى الديمقراطية كما صرّح بذلك مجرم الحرب جورج بوش خلال غزو العراق.
 
حقوق الإنسان بالمنظور الغربي سلاح ذو حدين لأن هذه الحقوق مكسب حقيقي داخل الفضاء الأوروبي قد تطور من داخل المنظومات الاجتماعية والسياسية طوال قرون من الزمان وبعد حربين عالميتين. لكن يبقى تطبيق هذه الحقوق مشوبا بكثير من الازدواجية في عدد من الحالات عندما يتعلق الأمر بالأقليات أو بالمهاجرين مثلا.

فرض النموذج الثقافي
 
في أوروبا تفرض المجتمعات والسلط على الأجانب احترام لغتها وثقافتها وقوانينها وتقاليدها وهو أمر طبيعي في دول تعمل على صيانة وحدتها الاجتماعية والثقافية واللسانية بشكل عام. فالمهاجر الجديد يجب أن يتقن لغة البلد الذي يعيش فيه وينضبط وفق قوانينه ومنواله الثقافي بل بلغ الأمر بدول معينة إلى مطالبة المهاجرين بالانصهار الكامل في المجتمع الأوروبي وتجنب إظهار علامات انتمائها الثقافي أو اللساني.

فرْض رايات المثليين ليس في الحقيقة دفاعا عن حقوق الإنسان بل هو سعي إلى فرض نموذج ثقافي أوروبي على مجتمعات ودول غير أوروبية.
لكن ما حدث في كأس العالم وما ظهر جليا خلال الحملة الإعلامية الكبيرة على الدوحة عكس رفض الدول الأوروبية تطبيق القوانين والشروط التي تفرضها هي على الأجانب في أرضها. ففرْض رايات المثليين ليس في الحقيقة دفاعا عن حقوق الإنسان بل هو سعي إلى فرض نموذج ثقافي أوروبي على مجتمعات ودول غير أوروبية. فإذا وضعنا جانبا مسألة احترم الآخر المختلف على أرضه كما تطالب بذلك الدول أوروبية على أرضها قد نتساءل عن بقية قضايا حقوق الإنسان؟ لماذا لم تتحمس هذه الدول إلى قضايا حقوقية أخرى تشمل أقليات أشد اضطهادا وقمعا من الأقليات المثلية؟ لماذا لم تستنفر الدول الغربية إعلامها في التنديد بقمع الأقليات المسلمة في الصين أو الشعب الفلسطيني الذي يتعرض إلى أبشع عمليات القتل والتعذيب والاضطهاد؟ لماذا لا يستنفر الإعلام الغربي منصاته عندما يتعلق الأمر بالمرأة في سجون الطغاة العرب الذين يدعمونهم بالمال والسلاح؟ أين ذهبت حقوق اللاجئين الذين يموتون في البحر على أبواب اوروبا؟ وأين ذهبت حقوق المرأة السورية التي تقصف يوميا بالقنابل والصواريخ؟
 
المسألة لا تتعدى في النهاية حدود رغبة القوى الأوروبية المثقلة بالتاريخ الاستعماري في فرض نموذجها الثقافي والحضاري على الدول الأخرى خاصة إذا تعلق الأمر بالعرب والمسلمين وهي التي كانت بالأمس القريب تحتل هذه الدول وتفرض عليها بقوة السلاح لغتها وثقافتها وتقاليدها. كان طمس ثقافة الآخر وإلغائها شرطا من شروط الهيمنة الاستعمارية فكيف يمكن لبلد عربي صغير أن ينافس الكبار في تنظيم أهم المواعيد الرياضية بكفاءة عالية واضعا في الواجهة منوالا ثقافيا وحضاريا مختلفا ؟
لم يتخلص الغرب بعد من عقدة الاستشراق التي ترى في الآخر وحشيا همجيا متخلفا كما صرّح بذلك مؤخرا مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي "جوزيف بوريل" الذي وصف أوروبا بأنها "الحديقة الوحيدة في العالم في حين أن بقية الدول أدغال وغابات موحشة".

قضية المثليين وشارات المثليين وحقوق الإنسان أدوات للضغط السياسي والابتزاز الدبلوماسي الذي ينفي خصوصية الآخر ويلغي حقه في الاختلاف. من جهة ثانية فإن السعي إلى توظيف المناسبات الرياضية لغايات سياسية بعيدة عن الروح الرياضية قد ينتهي بإلغاء الطابع الرياضي التنافسي الصرف في مناسبات يفترض فيها أن تنسف الحواجز بين الأمم والشعوب. بل ستتحول الرياضة (وهي بصدد ذلك) إلى أداة سياسية بامتياز تستقطب كغيرها من الأنشطة البشرية كل أمراض السياسة وصراعاتها.
 
لقد برهنت كأس العالم في قطر وصمود الدوحة في وجه الإكراه الثقافي أن الأسس المؤسِّسَة للتحضر والحرية والديمقراطية تتحول إلى أساطير من سراب حين تصطدم بواجب احترم الآخر والاعتراف بحقه في الاختلاف والتنوع بما هي قيم كونية سابقة لكل مقولات التحضر المقنّع بالاستكبار واحتقار ثقافات الآخرين.