آراء ثقافية

ما وراء الصورة والكلام.. عن أفلام المخرج اللبناني محمد سويد

ترك سويد تلفزيون لبنان ليصنع ثلاثيته "تانغو الأمل" و"عندما يأتي المساء" و"حرب أهلية"- تويتر
في نظريته حول الصورة الفوتوغرافية يقول رولان بارت "الصورة تكرر ميكانيكاً ما لا يمكن أن يتكرر وجودياً". لعل لعبة التكرار وإعادة الإنتاج والتوليد، إعادة النبش والتنقيب، الكشف والتعرية هي شغف المخرج اللبناني التجريبي محمد سويد، الذي صنع سينماه الخاصة بأدوات سينمائية بسيطة ترافقت مع ذاكرة أرشيفية هائلة عن بلدٍ خرج للتو من حربٍ أهليةَ ليدخل حرباً جديدة مع الصمت.

حلّ الصمت بعد تهديد الحرب للوجود كامتداد للزمان والمكان، وخلق هذا الانتقال السريع المباغت حالة من الكمون القلق الذي عبث فيه سويد. لم يدخل سويد السينما كمخرج بل سار على خطى رواد الموجة الفرنسية الجديدة، إذ بدأ مشواره كناقد سينمائي في عدد من الصحف منها "السفير" و "النهار". كان سويد يتنقل بين صالات السينما التي لم تتوقف عن عرض الأفلام خلال الحرب ذاكراً هذه المرحلة خلال أفلامه اللاحقة، هذه الصالات التي قاومت الحواجز والتقسيم في بيروت لتعرض كل ما هو متاح ومتنوع من السينما سواء تجارية كانت أو جادة ومستقلة. وهبت هذه التجربة سويد مخزوناً هائلاً ومتنوعاً من الذاكرة السينمائية ليكتب كتابه الأول بعنوان "السينما المؤجلة" الذي يتحدث فيه عن اشكالية السينما في لبنان في رصد امتد ما بين 1958 حتى حرب 1975، محاولا مُسائلة هوية السينما اللبنانية المرتبطة بسؤال ما هي هوية لبنان وأيّ لبنان نريد؟

رحلة سويد


في التسعينيات، قدم سويد فيلمه الأول "غياب" بتمويل ضئيل جداً مستخدماً فيه كاميرات الفيديو الرخيصة، التي ساعدت لاحقاً في صقل أسلوبه الخاص، الذي من الممكن تشبيهه بالواقعية السحرية، مزيج من مقابلات مع أصدقاء سويد ولقطات لشوارع بيروت وأهلها ممتزجة بمقاطع سردية من ذاكرة مشبعة بالفقد.
 
كما ظهر في نفس الوقت، توجهان للعمل في مجال الفن، توجه المغتربين الذين عادوا الى بيروت وبدأت معهم موجة فنية جديدة بمساعدة أشكال دعم متنوعة منها "أشكال ألوان" و "مهرجان أيلول" وجمعية "شمس"، طرحت هذه الموجة سؤال علاقة السياسة بالفن، وعلاقة الفن بالجمهور والتلقي اليوم، إذّ تركت الحرب فراغاً كبيراً خصوصاً بعد قرار العفو العام عن جرائم الحرب ومشروع إعادة الأعمار أو ما يعرف بمشروع السوليدير الذي كان عملية طمس لذاكرة جيل كامل، وقتل لمدينة لم تسقط بالحرب فقتلتها آلة الإعمار لإخفاء آثار الجريمة.
 
أما سويد فقد كان من مقرصني الشاشة الصغيرة برفقة ربيع مروة وأكرم الزعتري استطاع اختراق "تلفزيون لبنان" والدمج بين الفن المعاصر والفن الشعبي الجماهيري، حيث عمل بأفلام تحت رعاية تلفزيون لبنان، أفلام للشارع والجمهور دون أن يتقيد بشروط الإنتاج التلفزيونية فقد كانت أفلامه تجريبية معاصرة ومتفردة بخواصها، حيث أنتج ضمن هذه الفترة فيلمه "سينما الفؤاد" عام 1994 وفيلم "أنا لك على طول".
 
ترك سويد تلفزيون لبنان عام 1996 ليصنع ثلاثيته، "تانغو الأمل" و"عندما يأتي المساء" و"حرب أهلية"، التي عرّضته لانتقادات لاذعة خصوصاً مع فيلمه البيوغرافي "تانغو الأمل" عام 1997 الذي افتتح فيه الثلاثية والذي صدم عدداً من النقاد الذين اعتبروا أن البيوغرافية تحتاج أن يكون المخرج في مرحلة متقدمة من الإنتاج لكي يستحق أن يقول سيرته وأفكاره.
 
يفتتح سويد فيلمه تانغو الأمل بعبارة مقتبسة من المخرج الروسي تاركوفسكي "أنقذني يا رب من أن أفقد كلّ شيء"، الفيلم المعنون بعنوان أغنية لنور الهدى، ينبش في ذاكرة المكان وذاكرة أصدقاء سويد، يعتمد كأغلب أفلامه على آلية المقابلات التي كانت على درجة عالية من الحميمية والخصوصية في هذا الفيلم، مقاطع مشتتة ومركبة أشبه بصور متسلسلة بشكل عشوائي تشبه عملية استعادة الذاكرة ولملمة أشلائها المبعثرة، صورة وأصوات تعبر عن محمد سويد الإنسان، محمد المخرج اللبناني في علاقته مع المكان والشخوص والزمن المتسارع ضمن مدينة تتغير وتضيق على سكانها وتقتطع ذاكرتهم.
 
ينقب محمد في "تانغو الأمل" عن آثار السينما المتبقية في بيروت من منشفة عليها أفيش فيلم "the godfather" إلى أفيشهات أفلام صالات السينما المغلقة والمهجورة، ويعيد للمشاهد مقطع تدمير سينما الريفولي المشهور سينما البلد القديمة أو "وسط البلد" كما أصبح متعارف عليها اليوم، الريفولي التي كانت معلماً من معالم بيروت احتاجت أن تفجر ثلاث مرات لكي تسقط، وكأن ذاكرة سويد تلاشت مع انهيارها، تانغو الأمل أشبه بقصيدة حداد بصري على السينما ودورها في لبنان.
 
استخدام محمد للصور الفوتوغرافية في أفلامه وتعامله الخاص معها ومع الكاميرا يشبه ما تقوله سوزان سونتاج عن التصوير الفوتوغرافي حيث ترى أن له "استخدامات نرجسية عدةّ، إضافة إلى كونه أداة فاعلة لتجريد علاقتنا مع العالم من سماتها الإنسانية أو الشخصية"، والاستخدامان يتممّ أحدهما الآخر. مثل زوج من عدسات منظار مكبّر، يمكنك استخدامهما في كلا الاتجاهين. تجعل الكاميرات الأشياء الغريبة قريبة، وحميمة، والأشياء المألوفة صغيرة، وتجريدية، وغريبة، وأبعد بكثير. إنها تعرض، في شكل نشاط سهل، إدماني، المشاركة والانعزال في حياتنا الخاصة وحياة الآخرين على حدٍّ سواء.
 
وهذه الاستخدامات المتنوعة وظفها سويد في ثلاثيته ضمن فيلميه "عندما يأتي المساء" و "حرب أهلية" ففي الأول يبحث سويد في تاريخ الكتيبة الطلابية في "حركة فتح" التي كان جزءاً منها، يتتبع رفاق النضال في فترة السلم اليوم، الحرب تترك فراغاً كبيراً، فهي ظاهرة غير طبيعية لدرجة أن سنوات ما بعد الحرب تغدو مملة، نرى رفاق محمد يعيشون على الماضي والكحول، "نشرب لنتذكر وليس لننسى" كما يقولها صديقه في الفيلم، يركب محمد فيلمه كما نركب قطع الأحجية المبعثرة، بشكل عاطفي تتسلسل الأحداث، ضمن مدينة تحولت من ميدان مناورة وقتال إلى عمل وسهر، أما في فيلمه "حرب أهلية" يعيد فتح قضية الصديق "محمد دعيبس" المصور الفوتوغرافي الذي مات أو قتل في ظروف غامضة بعد الحرب وعثر على جثته لاحقاً متحللة، وتم معرفة هوية الجثة بسبب أسنان محمد دعيبس، يتتبع ضمن رحلة البحث أطباء الأسنان من أصدقائه وأصدقاء دعيبس، ليحكي عن لبنان باستعارة عن الأسنان والتسوس، يشرّح مدينة عبر النخور التي تحفر في أزقتها، يقف سويد في وسط شارع مزدحم ويصرح بأكثر اسم مطروق "محمد" لينادي صديقه الغائب أو ذاته المبعثرة، ليلتفت إليه بضعٌ من المارة الذين يحملون هذا الاسم.
 
بعد ثلاثيته أصبح سويد يصنف كمخرج تجريبي وتصنف أفلامه ضمن خانة الفيديو والممارسات الفنية المعاصرة، حيث تم عرض الأفلام في "مهرجان أيلول"، وغدا أسلوب محمد يتسم بجماليات خاصة ومحددة، فحافظ على اختياره كاميرا الفيديو المحمولة غالباً، والتقطيع المونتاجي الخاص الغير تشويقي حيث يشعر المشاهد وكأنه يغرق في عملية بحث عن المعنى والسؤال، تقطيع غير مبال بالسرد التقليدي.
 
في فيلمه الأخير "يوم بلا غد" الفيلم الأطول بين أفلامه فيلم يمتد لثلاث ساعات، قام بتصويره مع أصدقائه على مدار 18 عام ليعرض في مهرجان بيروت للأفلام السينمائية مطلع هذا العام، يجول محمد بين أصدقائه طالباً منهم قص حكايات مختلفة لعله يتجاوز مشكلته مع الأرق، حكايات متصلة ومتفرقة بتقطيع فسيفسائي، يتخلله استحضار السينما بواسطة محبوبته سعاد حسني التي رافقته لعدة مرات في افلام سابقة واستحضار المدينة التي تحيا على الأرق.

ما خلف الصورة والكلام

تتخذ أفلام سويد منذ بداياته صيغة موحدة، تشعر كمشاهد بالترقب الدائم حالة من الكمون القلق، كمونٌ رغم البوح الذي تقوله شخوصه، بوح ولكنه لا يكفي، دوماً هنالك جانب خفي عن العين وبعيد عن السمع، هذا الرابط الذي يجمع بين أفلام سويد وبين لبنان وبيروت خاصة، بين ناس عالقة في فترة ما بعد الحرب، مترقبة الآتي.
 
كل شيء ممكن سينمائياً عند محمد الذي ظل يجرب بإمكانيات السينما ويتمرد على قوالبها ليصنع فناً مختلفاً، فنا يرفض أي قاعدة تقليدية، فنا هجينا وخليطا بين المقابلات والتوثيق والأرشيف والتجريب، فن اللعب والتخفي فن البوح والسرد، نبحث عن ما يقال وما لا يقال، عن نظرات عيون أصدقاء محمد، عن ذكريات مبتورة ومشتتة، عن كمون قابل للانفجار في أي لحظة ولكنه يبقى ساكناً مبتسما.