كتاب عربي 21

اختطاف المواطَنة في الجمهورية الجديدة.. مفاهيم ملتبسة (50)

مشكلة مصر مؤسسية وليست اقتصادية- جيتي
من أخطر ما يمكن أن يتعرض للاختطاف في الجمهورية الجديدة المزعومة ليس فقط اختطاف المؤسسات، ولكن اختطاف المواطنة والمواطن والوطن؛ ذلك أن اختطاف المواطَنة ليس في حقيقة الأمر سوى إحكام للحلقة الجهنمية لعملية الاختطاف الخبيثة التي تُجْهِز على المجتمع والدولة معا لتحقق الأهداف الدنيئة في عملية التجريف والتخريب المنظم لكل مقدرات الوطن، خاصة بما تصنعه لدى المواطن في بيئة من الاستخفاف تمثل القابليات للاختطاف وتعويق عمليات التغيير أو الإصلاح؛ "استخف قومه فأطاعوه" ضمن حالة فرعونية طغيانية.

اختطاف مفهوم المواطنة بشموله لا يقف عند حد هذا المفهوم فقط؛ بل هو كذلك وضمن عملية خطيرة يتحرك صوب حالة مركبة من الاختطاف، ذلك أن اختطاف مفهوم المواطنة الصالحة هو اختطاف مركّب للمواطنة وجوهرها من جهة، ولصفتها في الصلاح من جهة أخرى. إذ يقوم على اغتصاب ليس مفهوم المواطنة فحسب، وإنما على تزييف مفهوم الصلاح كذلك، فيفسد الأمرين على المواطن.

مفهوم "المواطنة الصالحة".. نتعرف على المفهوم الذي يطلبه المستبد، فيضفي على مواطنه صك الصلاح في سياق تزييف لجوهر ذلك المفهوم في معانيه ومغازيه. المستبد يقلب مفهوم الصلاح كما اغتصب من قبل مفهوم الرشاد، فكان خطاب فرعون "مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ" (غافر:29)، فكان رد القرآن بليغا وحاسما: "مَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ" (هود:97).

احتكار هذه "الدولة- السلطة" لمفهوم "المواطنة الصالحة" ومعنى "المواطن الصالح"؛ حيث جعلت لذلك شروطا وأوصافا مسكوتا عنها، لكنها مرغوبة في الممارسة تتعلق بمصلحة بقائها في السلطة لا المصالح الكلية الأصيلة التي تتحرك صوب تأصيل "المواطنة الفاعلة" في السعي والوعي، وجعلت مؤسساتها تُرَدِّد على مسامعنا أن من مهامها إخراج "المواطن الصالح"

كنا قد أشرنا إلى "المواطنة" و"المواطنة الصالحة" في كتاب تأميم الدولة للدين: الزحف غير المقدس"، وأشرنا إلى احتكار هذه "الدولة- السلطة" لمفهوم "المواطنة الصالحة" ومعنى "المواطن الصالح"؛ حيث جعلت لذلك شروطا وأوصافا مسكوتا عنها، لكنها مرغوبة في الممارسة تتعلق بمصلحة بقائها في السلطة لا المصالح الكلية الأصيلة التي تتحرك صوب تأصيل "المواطنة الفاعلة" في السعي والوعي، وجعلت مؤسساتها تُرَدِّد على مسامعنا أن من مهامها إخراج "المواطن الصالح"، واستولت -ومن طريق أمني ضيق- على مفهوم المواطنة الصالحة والمواطنة الطالحة.

وبدت المفارقة أكثر حيث المواطن يحتاج من الدولة براءة ذمة من خلال ما تحدده من عناصر وشروط للمواطنة الصالحة، وأكدنا -ومن كل طريق- أن هذه النماذج لا تفرز بحالٍ نموذجا سويّا للمواطنة، ناهيك عن خطاب المواطنة الصالحة الذي لا يغادر أي مؤسسة وتجعله واحدا من أهم أهدافها. المواطن ليس فقط لا يقول: "لا" على خطابات السلطة، بل هو لا يستطيع، إلا أن يروض نفسه في عملية تدريبية ذهنية ونفسية للسلوك الإذعاني اليومي.

إلا أن منظومة الثالث من يوليو باتت تقوم بتصنيع المواطن وفق ما تراه من مواصفات قياسية خاصة بها لإنتاج ما تعتبره "المواطنة الصالحة"، وهنا لديها تعريف خاص بالمواطنة، وتعريف خالص بوصف "الصالحة"، وذلك من خلال وضع معايير جديدة مزيفة. فهذه المنظومة ذهبت إلى مدى أبعد مما كان عليه الأمر في زمن نظام المخلوع مبارك، فالمنظومة الحالية لا ترى المواطن إلا الذي تحب أن تراه، ويتفق مع معاييرها، بل إنها كثيرا ما تعمم ما تراه، خاصة عندما تعتمد على المعايير الشكلية والسطحية التي اصطنعتها على عينها. ومن ثم فقد لجأت إلى اختطاف مؤسسات المواطنة ذاتها، فهي لا تتورع عن القيام بكل ما شأنه تثبيت أركانها، وترسيخ هيمنتها على الوطن وتأميمها للمواطنة والمواطن، بكل ما ترتبط به من مفاهيم تأسيسية من مثل مفهوم الإنسان، والحقوق، والانتماء، والهوية، وغيرها.

منظومة الثالث من يوليو باتت تقوم بتصنيع المواطن وفق ما تراه من مواصفات قياسية خاصة بها لإنتاج ما تعتبره "المواطنة الصالحة"، وهنا لديها تعريف خاص بالمواطنة، وتعريف خالص بوصف "الصالحة"، وذلك من خلال وضع معايير جديدة مزيفة. فهذه المنظومة ذهبت إلى مدى أبعد مما كان عليه الأمر في زمن نظام المخلوع مبارك

ومن ثم فمن الضروري التمييز بين الاختطاف وبين تزييف المناخ وعمل كل منهما في عملية الاختطاف تلك، من مثل أحاديث الزينة وفائض الكلام بالحديث مثلا عن استراتيجية حقوق الإنسان، والحوار الوطني، ولجنة العفو، وهي ممارسات يتدثر بها النظام ويتخذها غطاء لممارسة كل عمليات التزيين والتزييف والتزوير والاختطاف، وصولا إلى الحديث عن المواطنة الافتراضية، حيث يكتفي فيها بأن الحقوق موجودة على الموقع الالكتروني وفي الاستراتيجيات المنشورة وفي صفحات وسائل التواصل الاجتماعي للمجلس القومي لحقوق الإنسان، إضافة إلى تحديده أيضا لنوعية الحقوق. فهو لا يعتبر أن للإنسان المصري أي حقوق بخلاف المأكل والمسكن رغم الإخفاق الواضح في تقديم الخدمات اللائقة للمواطنين في الصحة والتعليم، فضلا عن رفع يده عن الأسعار وإطلاقه لغول الغلاء.

هكذا تتضح لنا استراتيجية هذه المنظومة في تأميمها للمواطن والمواطنة والوطن ضمن استراتيجيات الترويع والتجويع، متوجا ذلك من خلال عمليات الاختطاف التي تقوم بها. فاختطاف المواطن فرع على اختطاف المواطنة، واختطاف المواطنة فرع على اختطاف الوطن، واختطاف الوطن مسلك لاختطاف المجتمع والدولة معا، لأنه عندما يختطف المواطن فإنه يصنع مواطنا على عينه وبمقاييسه، وفي هذا الإطار يشكل بيئة لهندسة الإذعان وتعميم الرضا الكاذب، وتصبح مشاركة المواطن فحسب ليست في الاحتجاج لنيل حقوقه، ولكن في الحشد للتسبيح بحمد المستبد، حتى لو أساء إليهم وأخذ مالهم وجلد ظهورهم على ما يرى أحدهم الذي ينادي بالتمسك بالمستبد، وصولا لإنتاج "المواطن المعاق" و"الإنسان المقهور".

هذه المنظومة تصنع حالة من الفساد والإفساد للمواطن والإنسان معا؛ تجعل من المواطن الصالح في عرفها يفقد معنى إنسانيته ووجوده وحضوره ومسؤوليته. المواطن لدى المستبد لا يسمع إلا ما أراد المستبد أن يسمعه، ولا يرى فهو أعمى عن سلبيات النظام، مبصرا لإنجازاته وبركاته التي تفيض عليه، حتى لو كان هذا الأمر زائفا. وهو لا يتكلم، فيصمت صمت القبور إذا طلب منه نظام الاستبداد ذلك، فسلطان المستبد كما يوزع الكلام، يوزع السكوت، وهو الذي يحدد متى يمكن أن تتحدث فتنافق وتداهن، ومتى تمتنع عن الكلام فتسكت بأمر المستبد، فالمستبد لا يقبل نقدا أو تعقيبا على حكمه.

هكذا تعمل هذه المنظومة على تعطيل كل ملكات المواطنة، وتدفع بتلك المواطنة المختطفة الزائفة التي تراها وتصنعها على عينها لتكون هي السائدة وفق؛ معاييرها الخاصة التي ترى فيها المواطن الذي لا يخرج عن الخط المرسوم له، فلا يمكن أن يتصرف إلا بإذنها وقرارها. فهنا المواطن لا يملك نفسه أو قراره أو ذاته أو أي من حقوقه، إلا تلك التي يقررها له المستبد ويراقبه في تنفيذها ويشرف على عملية التنفيذ بالكيفية التي يراها هي الوحيدة المناسبة، ولا يقبل أي خروج عن الإطار المرسوم له حتى ولو كان هذا الخروج بدون قصد ولن يرتب أي خسائر، ولكن المستبد يرى الخروج في حد ذاته هو الكارثة الكبرى التي يسارع لمعاقبة المواطن عليها واتخاذه مثالا على مخالفة أوامره وقراراته.

ضعف البناء المؤسسي وليس ضعف الاقتصاد هو السبب الرئيس في تراجع ترتيب مصر بمؤشر قياس فاعلية الحكومة، والذي جاءت مصر في المركز 163 من إجمالي 209 دول بمؤشر التنافسية العالمية؛ حيث يقيس مدى فاعلية الحكومات في تنفيذ وتطوير العقد الاجتماعي بينها وبين المجتمع في مختلف المجالات والخدمات، وأن مصر مشكلتها مؤسسية وليست اقتصادية

أكدنا -ومن كل طريق- أن هذه النماذج لا تفرز -بحالٍ- نموذجا سويّا للمواطنة، ناهيك عن خطاب المواطنة الصالحة الزائفة الذي لا يغادر أي مؤسسة وتجعله واحداً من أهم أهدافها؛ خدمة للطاغية مهما كان ذلك على حساب العدل والعدالة؛ إنها صناعة الظلم في الجمهورية الجديدة.

ووفقا لأحد المهتمين فإن ضعف البناء المؤسسي وليس ضعف الاقتصاد هو السبب الرئيس في تراجع ترتيب مصر بمؤشر قياس فاعلية الحكومة، والذي جاءت مصر في المركز 163 من إجمالي 209 دول بمؤشر التنافسية العالمية؛ حيث يقيس مدى فاعلية الحكومات في تنفيذ وتطوير العقد الاجتماعي بينها وبين المجتمع في مختلف المجالات والخدمات، وأن مصر مشكلتها مؤسسية وليست اقتصادية، ومن ثم كيف نتحدث عن مواطن صالح في ظل غياب الأداة الرئيسة للعدالة؟ فإذا عمّ الظلم غابت المواطنة وافتقد المواطن كرامته والوطن مكانته؛ وكان الحديث عن الجمهورية الجديدة فائض كلام وأضغاث أحلام.

twitter.com/Saif_abdelfatah