آراء ثقافية

الريال السعودي والسينما المصرية.. بين إحياء الصناعة واغتيال الجودة

أصبحت الصناعة السينمائية في مصر بحد ذاتها مُهددة- جيتي
في أسوء عصورها، باستثناء العصر الحالي، استطاعت السينما المصرية أن تترك أفلامًا ذات قضايا وبصمات جادة ومنها ما تحايل بتقديم أفلام ضد الأنظمة الاستبدادية الحاكمة ولو بشكل رمزي وإسقاطي، حتى وصلت ذروتها وحريتها في تقديم أعمالها في الفترة بين 2011 و 2014، وتنفست آخر أنسام الحرية بفيلم "اشتباك" عام 2016، أما الآن، ومنذ العام 2017 ودخول شركات الاستحواذ المخابراتي على قطاعات الإعلام والإنتاج السينمائي والدرامي من جهة، وضرب قطاع الإنتاج السينمائي الخاص بالقمع من جهة أخرى، وصلت السينما المصرية لحالة من الجدب والانقطاع عن الواقع بشكل يرثى له، وأصبحت جوقة تمجد مؤسسات السلطة العسكرية والشرطية، أو أفلامًا عن أسر الطبقة العليا ومشاكلها التي تواجهها ولا تهم أحدًا سواها، أو أفلام المنتجعات السياحية ودعاياتها.

ورغم التقدم التقني الذي شهدته عملية الإنتاج السينمائي في تلك الفترة أيضًا، إلا أن السينما المصرية لم تُحسن استغلاله سوى في محاولات بائسة لصنع أفلام ذات صورة هوليودية فائقة وجودة باهتة، وأصبحت الصناعة السينمائية في مصر بحد ذاتها مُهددة. فمن جهة، تراجع عدد صالات العرض السينمائي في مصر، ومن جهة أخرى تراجع عدد إنتاج الأفلام في العام الواحد، وضاقت مضامين ومحتويات الأفلام المُنتجة، ولكن جاء انخفاض قيمة الجنيه المصري في ظل أزمات اقتصادية متتالية بانتعاشة مفاجئة للسينما المصرية مع حركة الانفتاح واللبرلة -الشكلية- التي يقودها الأمير محمد بن سلمان في المجتمع السعودي.

تأتي الرياح بما تشتهي السفن أحيانًا
في العام 2018، افتتحت السعودية دور العرض السينمائية مرة أخرى بعرض الفيلم الأمريكي "بلاك بانثر"، وفي غضون أعوام قليلة وصلت إلى 69 دار عرض في 20 مدينة، ولم تُعرض فيها سوى 33 فيلمًا سعوديًا نظرًا لأن الصناعة السينمائية المحلية في السعودية هي أيضًا ناشئة، وفي تلك الدور المتعطشة لعرض أفلام، والجمهور كذلك، كان للسينما المصرية دورًا عليها أن تلعبه.

يروج الفيلم المصري في السعودية لأسباب عدة، أولها الثقافة واللهجة حيث لا تحتاج إلى وسيط والتي يتشاركها السعوديون مع المصريين منذ زمن طويل بسبب عدد الجالية المصرية الكبير في السعودية، ثانيها نوعية الفيلم التي تميل إلى المحافظة في القضايا التي تعرضها ولا تتضمن مضامين جنسية تدفع إلى المنع أو القصقصة، وثالثها غياب الأفلام التحريضية السياسية، وبهذا يصبح كل فيلم مصري صالح للعرض في صالات العرض السعودية بكل سهولة.

وفي حصاد موسم 2022 السينمائي حققت السينما المصرية بالفعل 50 مليون دولار كأرباح إجمالية عن أفلامها في شباك التذاكر السعودية، وتلك الأرقام المُغرية تجعل المنتجين يغضون أبصارهم عن السوق المصري ويتجهون أكثر فأكثر للسوق السعودي، فمن جهة يبلغ متوسط سعر التذكرة في السعودية 16 دولارا مقابل 3 دولارات في مصر، ومن جهة أخرى لم يفشل أي فيلم أو تجربة في شباك التذاكر السعودي، وتعد الكوميديا بالتحديد التي يعتبرها الجمهور المصري مبتذلة ومكررة، جديدة وحية بالنسبة للجمهور السعودي، فأفلام الكوميديا بنوعيها المصري والأجنبي تستحوذ على ما مقداره 60% من إيرادات شباك التذاكر السعودي. مثلًا، يأتي فيلم "وقفة رجالة" كدليل على فوارق الإيرادات بين الشباك المصري والشباك السعودي، حيث حقق 15 مليون دولار وهو ما يعادل عشرة أضعاف إيراداته في مصر، وفي موسم الأفلام الأخير نجد أن أفلامًا مثل "بيت الروبي"، و"تاج"، و"شوجر دادي"، و"البعبع"، وهي أفلام تتناول مواضيع عن الدراما العائلية للطبقة العليا، والسوبر هيرو الكوميدي الموجه للأطفال والعائلة، وفيلم مطاردة قد حققت نحو 18 مليون دولار أمريكي، وهي أرقام لا تقاس على الإطلاق بما حققته في مصر رغم أن فيلم "بيت الروبي" قد كسر الإيرادات في مصر كأكثر فيلم تحقيقًا للإيرادات في التاريخ، ولكن ما حققه في مصر لا يكسر ربع ما حققه في السعودية، فلم لا نستمر في الإنتاج للسعودية إذن؟ هكذا يقول المنتجون والفنانون من أمثال بيومي فؤاد الذي لا يشعر بكونه نجما جماهيريا من الدرجة الأولى إلا بحضوره واستقباله من الجمهور السعودي.

كما أن تلك الأفلام تتفوق على نظيرتها من هوليود في شباك التذاكر، ولهذا تعيش السينما المصرية -كصناعة- حالة من المجد في شباك التذاكر السعودي.

زمن "المقاولات" الجميل
نعود إلى دور العرض السينمائية في السعودية من جديد، وإغلاقها هذه المرة كان مساهمًا في انتعاشة أخرى لنوع من أنواع السينما المصرية عُرف باسم "سينما المقاولات" والتي راجت بعد قرار غلق السينمات في السعودية مع مطلع الثمانينيات، ولكن ما بين زمن "المقاولات" الجميل والزمن الحالي ما الذي تغير؟

غيرت أزمة غلق السينمات في السعودية النمط الإنتاجي المصري، فقد كان المنتج المُوزع في السعودية بعد غلق السينمات يشتري الفيلم المصري بأسعار زهيدة بعد ضغطه على شريط فيديو ليسمح عرضه على جهاز الفيديو المنزلي الذي كان قد انتشر في البيوت السعودية آنذاك، وقد كان إنتاج فيلم بتكلفة كبيرة لأحد النجوم ثم بيعه بسعر رخيص لعرضه على شرائط الفيديو يسبب خسارة كبرى لمُنتج الفيلم في مصر، وهنا لجأ المنتجون في مصر إلى الحل السريع وهو إغراء نجوم الصف الثاني والثالث ليكونوا أبطالًا من أجل صناعة نوع جديد من الأفلام سيصور خصيصًا ويصنع من أجل شريط الفيديو السعودي، وسيغرق سوق السينما المصرية فيه ويتأثر بالسلب حتى أن غرفة صناعة السينما حاولت التصدي للأمر بمنع إنتاج فيلم دون عرضه تجاريًا في السينمات أولًا، وهنا لجأ المنتجون لعرض الفيلم مدة أسبوع ثم سحبه مرة أخرى كوسيلة للتحايل على الغرفة قبل تصديره في شرائط فيديو إلى الجمهور السعودي، ولكن هناك عاملان يفرقان ما حدث بالبارحة عما يحدث اليوم!

كان عهد الثمانينيات حافلًا بسينما المقاولات، وكان أيضًا عهدًا جديدًا لنظام الحكم في مصر الذي حاول فيه حسني مبارك إعطاء صورة له أكثر ديمقراطية وإصلاحية عن سابقيه، فترك هوامش حرية واسعة في الصحافة والسينما، لذلك كانت الثمانينيات هي ميلاد الرعيل الثاني من مخرجي الواقعية من أمثال: عاطف الطيب، ومحمد خان، وعلي بدرخان، وعلي عبد الخالق، وحتى كان هناك هامش للسيريالية والتجريب تجلى في تجربة رأفت الميهي مع استمرارية للمخرج كمال الشيخ في تقديم أفلامه الواقعية الممتدة من الخمسينيات، فهكذا كانت السينما المصرية تتسع للجودة، وتتسع للمقاولات من الذين أرادوا أن يتربحوا من الجمهور السعودي.

أما في تلك اللحظة التي نعيشها فلا يوجد أية هوامش لتقديم سينما تخص المجتمع المصري -قطاعه العريض من الطبقة الوسطى والدنيا- وكل المطلوب والتوجيه السياسي بإظهار الطرق الجديدة والمنتجعات السياحية الجديدة والمشاريع على هامش الأحداث، وتصوير الشعب المصري كشعب طبقة وسطى رغم انحدار هذه الطبقة في عهد النظام الحالي، ولا بأس من تقديم أفلام عن الطبقات العليا كذلك، لكن ليس في صورة صراع طبقي معهود ولكن في صورة مستأنسة تمامًا لتلك الطبقة وثرواتها، أما الاهتمام الرئيسي فينصب على إعادة بناء صورة رجال الدولة ومؤسساتها في الأفلام، مما لا يجعل حلا آخر للمخرجين سوى بالرجوع للقصص التاريخية ليعملوا في مناخ أكثر حرية، وهو اتجاه يبدو أنهم في حالة تراجع عنه لأنه لا يحقق الكثير من الإيرادات في السعودية، لأن القصص التاريخية هي ذات شأن مصري بحت مثل فيلم "كيرة والجن" الذي لم يحقق ربع إيرادات "بيت الروبي" في السعودية لنفس الممثل كريم عبد العزيز.

منصات "الستريمنج" أيضًا

يستقطب أيضًا نمط المشاهدة السعودي السينما المصرية، بل والدراما المصرية، من خلال نمط إنتاج منصة "شاهد" والتي أصبحت تنتج أفلامًا ومسلسلات مصرية لا تعرض في مصر قبل أن تعرض في السعودية، وبينما يشاهدها السعودية بكل أريحية لأنه يقدر على دفع الاشتراك، يلجأ المصري البسيط إلى كل أنواع القرصنة من أجل أن يشاهد مُنتج يتحدث لهجته ويُصور على أرضه وهو من صنع نجومية أبطاله يومًا ما، وبينما كان في السابق يأتي المسلسل المصري إلى المشاهد في مختلف القنوات المصرية أصبح يأتي أولًا على منصة "شاهد" ولا يهم إذا استطاع المصري أن يشاهده في التلفاز أم لم يستطع.

ربما يُنعش شباك التذاكر السعودي الصناعة المصرية في السينما، ولكنه يقتلها بفرض قيود وأنماط عليها لتناسب المزاج السعودي، فضلًا عن كونها بور منذ دخلت المخابرات وأحكمت السيطرة على صناعتها، وعلى صناع السينما أن ينتبهوا لأمر هام، أن الشباك السعودي هو شباك ناشئ، ولكن السينما السعودية هي سينما ناشئة وصاعدة بقوة أيضًا، ويومًا ما ستتكاثف الأفلام السعودية حتى تزيح الفيلم المصري ليعود لجماهيره التي تخلى عنها، وربما يتخلون عنه أكثر فأكثر!