صحافة دولية

الغارديان: ما هي حماس الحقيقية وكيف سيكون شكل غزة في المستقبل؟

قال الكاتب إن التعرف على حقيقية حماس من شأنه أن يحدد نوع الاتفاق الذي يمكن التوصل إليه في نهاية الحرب الحالية- إكس
نشرت صحيفة "الغارديان" البريطانية مقالا للمحرر المساهم في مجلة "تيارات يهودية" جوشوا ليفر، تساءل فيه: "ما هي حماس الحقيقية؟ وكيف فهم الفاعلون السياسيون الإسرائيليون والفلسطينيون والأمريكان حماس؟".

وتابع الكاتب قائلا: "ليس سؤالا نظريا، بل من شأن هذا السؤال أن يحدد ما هو نوع الاتفاق الذي يمكن التوصل إليه في نهاية الحرب الحالية؟ وكيف سيكون عليه شكل غزة في المستقبل؟".

وتاليا نص المقال كاملا
في أواخر أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2023، نشر ناشط السلام الإسرائيلي المخضرم غيرشون باسكن خطابا مفتوحا، ندد فيه بالرجل الذي طالما وصفه بالصديق. إنه غازي حمد، المسؤول الكبير في حركة حماس. يذكر أن باسكن كان مهندس الصفقة التي تم بموجبها تحرير الجندي الإسرائيلي غلعاد شاليت من أسر حماس في عام 2011، وهو واحد من قلة قليلة من المواطنين الإسرائيليين، الذين يحتفظون بتواصل مستمر مع زعماء الحركة الفلسطينية الإسلامية. أما غازي حمد، فهو صحفي سابق يحمل شهادة في الطب البيطري، وكان أيضا ضالعا في مفاوضات صفقة شاليت، وشغل منصب نائب وزير الخارجية في حكومة حماس عام 2012. قبل هجمات السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وعلى مدى عقد ونصف من الزمن، كثيرا ما كان حمد وباسكن يتبادلان المكالمات الهاتفية والرسائل النصية، وكانت تتعلق بشكل رئيسي بالمفاوضات حول تبادل السجناء، وفي بعض الأحيان حول إمكانية التوصل إلى هدنة طويلة المدى بين إسرائيل وحماس. في تلك الأثناء، طور الاثنان بينهما علاقة دافئة قائمة على الثقة المتبادلة.

ولكن بعد السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، وبدء الغزو البري الإسرائيلي لقطاع غزة، بدأت العلاقة بين الرجلين تتفسخ؛ ذلك أن غازي حمد أصر على أن الهجمات كانت مبررة تماما، ونفى أن يكون مقاتلو حماس قد ارتكبوا أي فظائع في أثناء اجتياحهم لإسرائيل. وفي الرابع والعشرين من أكتوبر (تشرين الأول)، في مقابلة مع إحدى القنوات التلفزيونية اللبنانية، تعهد غازي حمد بأن حماس سوف تلتزم بالقيام بالأعمال نفسها "مرات ومرات"، وقال؛ إن "طوفان الأقصى"، وهو الاسم الذي أطلقته حماس على الهجوم، "ما هو إلا المرة الأولى، ولسوف يكون هناك مرة ثانية، وثالثة، ورابعة". ولئن كان يعد من قبل مراقبا حصيفا للسياسة الفلسطينية، أعلن حمد هذه المرة، أنه "لا ينبغي أن يلومنا أحد على ما نفعله – في السابع من أكتوبر، وفي العاشر من أكتوبر، وفي المليون من أكتوبر. كل ما نقوم به فهو مبرر".

بالنسبة لباسكن، لم يكن ذلك هو الرجل نفسه الذي كان يعرفه. فما صدر عن غازي حمد من تصريحات، وهو الذي كان يُظن به أنه واحد من أكثر الناس اعتدالا في حماس، كما لاحظ باسكن، كان أشبه بالطعنة في الظهر، وخاصة أن باسكن لطالما حاجج بأنه من الممكن التوصل مع حماس إلى اتفاق وقف لإطلاق النار، أو هدنة إلى أجل مسمى، مقابل إنهاء الحصار البري والجوي والبحري على قطاع غزة، الذي ما لبثت إسرائيل تفرضه، بدعم من مصر، منذ أن وصلت حماس إلى السلطة في عام 2007. وكان باسكن يعتقد بأن غازي حمد يمكن أن يساعد في دفع حماس نحو القبول بحل الدولتين. ففي الشهور التي سبقت السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، كان باسكن يسعى لتنظيم لقاء معه في أوروبا لمناقشة الآفاق المحتملة لهدنة طويلة المدى.

ولكن باسكن نفسه غير موقفه بعد السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، فكتب يقول في مقال نشرته له صحيفة ذي تايمز أوف إسرائيل يوم 28 تشرين الأول/أكتوبر: "لقد خسرت حماس حقها في الوجود كحكومة في أي منطقة، وخاصة في المنطقة المجاورة لإسرائيل. تستحق حماس الآن قرار إسرائيل إنهاءها ككيان سياسي وعسكري يسيطر على غزة". ثم ما لبث باسكن أن اقترح إجلاء زعماء حماس، مثل يحيى السنوار من غزة كجزء من صفقة محتملة لوقف إطلاق النار. كما اقترح أن يحظر على حماس المشاركة في أي انتخابات فلسطينية قادمة ما لم يتخلوا عن العنف. لا يعني ذلك أن باسكن تخلى عن السلام، بل مازال صامدا في تغطيات وسائل الإعلام العالمية؛ باعتباره صوتا وحيدا، وحتى يائسا، يطالب بوضع حد للحرب. كل ما هنالك، هو أنه لم يعد يؤمن بأن حماس يمكن أن تكون جزءا من المعادلة. منذ أكتوبر (تشرين الأول)، ذهب كثير من الإسرائيليين، حتى أو ربما بشكل خاص في يسار الوسط، في هذا الاتجاه نفسه.

في أواخر شهر ديسمبر (كانون الأول)، جلست مع باسكن في بدرون مسكنه في أحد أحياء القدس الهادئة والمورقة. باسكن من مواليد نيويورك، وهو رجل مفعم بالنشاط، قصير الهامة مليء الجسم في أواخر الستينيات من عمره. عندما فتح لي الباب، كان يرتدي رقعة فضية كتب عليها "أعيدوهم إلى الوطن"، التي غدت شعارا للحركة المطالبة باستعادة أكثر من مائة رهينة إسرائيلية مازالوا محتجزين لدى حماس.



مازال سؤال يحوم حول حكاية الاتصالات المتبادلة بين باسكن وحمد، ألا وهو: هل تغيرت حماس، أم إن باسكن كان طوال الوقت يسيء فهم المجموعة؟ يعتقد باسكن أن الأول هو الجواب، ويقول: "في معظم السنين التي سبقت السابع من تشرين الأول/أكتوبر، كان هناك استعداد للبحث عن هدن براغماتية طويلة المدى. ولكن بدا واضحا بالعودة إلى الماضي أنه كانت هناك مؤشرات، ولكن لم يلاحظها أحد منا، أنه قبل عامين من السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، اتخذت حماس قرارا أنه لم يعد ثمة مجال للاستمرار في طريقة التعامل نفسها مع إسرائيل، وأنهم كانوا قد بدؤوا بالتخطيط لهجوم قادم".

تذكر باسكن آخر اتصال بينه وبين حمد في أواخر تشرين الأول/أكتوبر، وقال: "خلال الأيام الأولى من الحرب، عندما سمعت أن منزله تعرض للقصف، ولم أكن أعلم أنه لم يكن في غزة، قلت له: يا غازي إذا كانوا يستهدفونك، فاعلم أنه لا أحد من حماس في مأمن.". (وكان حمد قد غادر القطاع إلى بيروت قبيل اندلاع الحرب). يضيف باسكن: "رد علي قائلا: لدينا الكثير من المفاجآت، ولسوف نقتل الكثير من الإسرائيليين".

وحينها، نشر باسكن خطابه المفتوح والموجه إلى حمد عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وقال فيه: "يؤسفني القول إنك كنت شخصا ظننت بالفعل أنه موضع ثقتي، وظننت أننا يمكننا أن نساعد معا في جلب مستقبل أفضل لشعبينا. ولكنك أعدت أنت وأصدقاؤك القضية الفلسطينية 75 سنة إلى الوراء. أظن أنك فقدت عقلك وفقدت منظومتك الأخلاقية". وبذلك قطع باسكن ما كان بينهما من علاقات.

- - - - - - -

بعد خمسة شهور ونصف من الحرب الوحشية التي تشنها إسرائيل على غزة، قتل أكثر من 32 ألف فلسطيني، معظمهم من الأطفال. كما شرد الغزو البري الإسرائيلي مليوني فلسطيني داخل قطاع غزة، أجبر الكثيرون منهم على الإقامة في خيام مؤقتة داخل وحول مدينة رفح الجنوبية. وفي شمال غزة، حيث سويت بالأرض مساحات واسعة تحت وطأة القصف الجوي والمدفعي الإسرائيلي الذي لا يكاد يتوقف، يقول الخبراء الدوليون؛ إن المجاعة باتت وشيكة. ولقد بدأ أطفال غزة بالفعل يموتون بسبب نقص الغذاء.

وبينما تستمر الحرب، كيف فهم الفاعلون السياسيون الإسرائيليون والفلسطينيين والأمريكان حماس؟ ليس سؤالا نظريا، بل هو عامل مادي على الأرض لا يقل أهمية عن الرصاص والدبابات. إنه أحد العوامل التي تشكل الاستراتيجية العسكرية، ولسوف يحدد ما هو نوع الاتفاق الذي يمكن التوصل إليه في نهاية الحرب الحالية، وكيف سيكون عليه شكل غزة في المستقبل.



يعكس انهيار العلاقة بين باسكن وحمد جدلا أكبر وأقدم حول حماس، إلا أنه غدا أكثر إلحاحا في الفترة الأخيرة. وفي القلب منه سؤال حول جوهر هذه المنظمة: ما إذا كانت بالدرجة الأولى جماعة قومية بصبغة إسلامية، بإمكانها أن تكون لاعبا بناء في عملية سلام ذات معنى، أم إنها أقرب إلى الجماعة المتطرفة والأصولية، عداوتها لإسرائيل لا هوادة فيها، وبذلك لا يمكنها أن تؤدي سوى دور معارض وعنيف؟

أحد المعسكرات في هذا الجدل، ويتكون بشكل رئيسي من خبراء مكافحة الإرهاب الغربيين والمحللين الأمنيين الأمريكان والإسرائيليين، لطالما نظر إلى المجموعة انطلاقا من عداوتها العنيفة لوجود إسرائيل. وطبقا لوجهة النظر هذه، لم يكن ما حدث يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول)مفاجئا. بدلا من ذلك، وحسب ما كتب ماثيو ليفيت، المسؤول السابق في إدارة بوش ومؤلف كتاب عن حماس صدر في عام 2007، أثبت الحدث بطريقة هي الأشد عمقا ووحشية، أن حماس في نهاية المطاف تولي الأولوية لتدمير إسرائيل وإقامة دولة إسلاموية مكانها". ينزع المحللون المنتسبون لهذه المدرسة، نحو الإشارة إلى البنية التحتية الهائلة لأنفاق حماس؛ باعتبارها دليلا على أن المجموعة تحمي مقاتليها، تاركة المدنيين الغزيين فوق الأرض ليبحثوا لأنفسهم عن ملاذ، دون أن توفر لهم أي منظومة ملاجئ تقيهم ما ينهال عليهم من قنابل.

وهناك معسكر مضاد، فيه مجموعة متباينة، مشكلة من أكاديميين وباحثين، كثيرون منهم فلسطينيون، يرون أن حماس فاعل سياسي متنوع ومعقد، يوجد داخلها توجهات راديكالية وأخرى معتدلة. يقول هؤلاء؛ إن حماس نتاج الواقع الذي يعيش فيه الفلسطينيون من احتلال وحصار بالغ القسوة، ولذلك، فهي قابلة للتجاوب مع أي تغيرات تطرأ على هذه الظروف. والمشكلة طبقا لهذا الرأي، تكمن في أنه حتى عندما يبدو قادة حماس على استعداد للانفتاح والاعتدال، فإن السياسة الإسرائيلية هي التي تحول دون أن تمضي الجماعة في هذا الاتجاه دون أن تخسر مصداقيتها بين الفلسطينيين، باعتبارها المعقل الأخير لمعارضة ذات معنى لإسرائيل ولاحتلالها.

عندما تحدثنا في يناير (كانون الثاني)، قال الباحث الفلسطيني طارق باقوني؛ إن "الانطباع الخاطئ الكبير" في القلب من الخطاب السائد حول حماس، هو أنه "فيما لو تم تقويض حماس كتهديد أمني، فإن إسرائيل لن تبقى لديها مشكلة مع الفلسطينيين." ولكن، كما قال: "لو أن حماس اختفت غدا،" فإن الحصار المفروض على غزة والحكم العسكري في الضفة الغربية سوف يبقيان. وأضاف: "ثمة نزوع نحو القول؛ إن هذه الحرب هي بين إسرائيل وحماس بدلا من كونها حربا بين إسرائيل والفلسطينيين، مما يجعل حماس تبدو خارج الصف الفلسطيني. إنه انعدام القدرة على التعامل مع المحفزات السياسية لما يقدم عليه الفلسطينيون من أفعال".

أما خالد الجندي، الذي كان سابقا مستشارا لدى قيادة السلطة الفلسطينية حول المفاوضات مع إسرائيل، وهو الآن زميل في معهد الشرق الأوسط للأبحاث، فقال؛ إن أي ترتيبات لفترة ما بعد الحرب تستثني حماس، سوف تكون تكرارا للأخطاء التي أفضت إلى الحرب الحالية. وأضاف؛ "إنها بالضبط هذه الفكرة التي تقول: لسوف نصنع سلاما مع هذه المجموعة من الفلسطينيين، بينما نصنع الحرب مع تلك المجموعة من الفلسطينيين". هي التي تشكل المنطق الذي بناء عليه تقوم إسرائيل بخنق قطاع غزة اقتصاديا وبقصفه بشكل دوري. وقال في حديثه معي: "هذا كلام فارغ إذا كنا نتحدث عن تسوية النزاعات".

وقال الجندي: "حماس حقيقة من حقائق الحياة السياسية في غزة وفي المشهد الفلسطيني بشكل عام، وينبغي أن يكون معلوما أنها اليوم أهم بكثير من أي وقت مضى.". وكان قد توسع في شرح وجهة نظره بأنه يجب أن تكون حماس جزءا من تسوية ما بعد الحرب، وذلك في مقال له في مجلة فورين أفيرز نشر أواخر العام الماضي. كتب الجندي في المقال؛ إنه ينبغي أن يكون الهدف هو دمج حماس والفصائل المتشددة الأخرى في منظمة التحرير الفلسطينية، تلك المظلة التي تهيمن عليها حركة فتح ذات التوجه العلماني القومي، والمنظمة التي يُعترف بها كممثل رسمي وحيد للشعب الفلسطيني على الساحة الدولية.

يعتقد الجندي أن السياسة الفلسطينية يمكن أن تشتمل على معارضة حماس جنبا إلى جنب مع تعاون السلطة الفلسطينية مع إسرائيل، تماما كما أن السياسة الإسرائيلية تشتمل على أحزاب تؤيد وأخرى تعارض التعامل مع السلطة الفلسطينية. ويقر بأنه، على المدى القصير، قد يجعل ذلك "تحقيق حل الدولتين أكثر صعوبة؛ لأنهم سوف يستخدمون حق النقض، تماما كما تفعل أي معارضة". ولكن على المدى البعيد، كما بين الجندي، قد يفضي دمج حماس في منظمة التحرير الفلسطينية إلى رأب الصدع داخل الحركة الوطنية الفلسطينية؛ وذلك أن الصدع هو الذي طالما وفر لإسرائيل ذريعة مناسبة لرفض المشاركة في أي مفاوضات. فيما لو وافقت حماس على الالتزام بالاتفاقيات التي تم توقيعها بين إسرائيل ومنظمة التحرير، فإن من شأن ذلك ليس فقط تعزيز الفرص في ديمومة أي اتفاق سلام يتم إبرامه، ولكنه أيضا سوف يحد من قدرة حماس "على التصرف كفاعل حر والقيام بدور المعوق للأمور، حيث إن بإمكانها أن تكون كذلك".



مع أنه، في الوقت الحاضر، يبدو مستبعدا جدا أن يكون قادة حماس في غزة أو في الخارج، على استعداد للموافقة على برنامج من النوع الذي يرسم ملامحه الجندي وآخرون، ضمن ما يعرف باسم "حيز السياسة في الشرق الأوسط." في مطلع شهر مارس (آذار)، ورد تقرير يفيد بأن ممثلين من حماس وفتح وغيرهما من الفصائل الفلسطينية، اجتمعوا في موسكو من أجل محادثات الوحدة، علماً بأنه منذ حرب حماس وفتح في عام 2007، جرت عشرات المحاولات المشابهة لإصلاح ذات البين برعاية تشكيلة من الحكومات العربية والمسلمة. ولكن لم تسفر أي من هذه المحاولات عن التوصل إلى اتفاق قابل للاستمرار.

ولكن إذا ثبت أن الوحدة مع حماس أمر متعذر، فإن من الصعوبة كذلك تصور مستقبل لا يوجد فيه هذه المجموعة المتشددة. وعن ذلك قال الجندي: "أظن أن الناس لديهم الاعتقاد بأننا فيما لو دمرنا، أو على الأقل همشنا، حماس، فإن فرص السلام سوف تتعزز". ولكن في الواقع العملي، كما يقول: يزود مثل هذا الموقف الإسرائيليين بالمنطق الذي بناء عليه تستمر إسرائيل في عدوانها المدمر على قطاع غزة. ويضيف؛ إن هذا الرأي خاطئ، ليس فقط من الناحية الاستراتيجية، بل وكذلك من الناحية الأخلاقية.

-           - - - - - - - - -

تشكلت حماس في عام 1987 على أيدي أعضاء الفرع الفلسطيني لجماعة الإخوان المسلمين على خلفية الانتفاضة الفلسطينية الأولى، ذلك الحراك الشعبي الذي أشعله مقتل أربعة من العمال الفلسطينيين بواسطة شاحنة إسرائيلية في مخيم جباليا للاجئين داخل غزة. كلمة حماس مكونة من الأحرف الأولى من اسم المجموعة "حركة المقاومة الإسلامية". فيما سبق كان الإسلاميون الفلسطينيون ينزعون نحو التزام الهدوء السياسي، لاعتقادهم بأنه ينبغي أولا أسلمة المجتمع الفلسطيني إذا ما أريد ضمان نجاح القتال ضد إسرائيل. ولكن مع استمرار التظاهرات، بدا لهم أن هذا النضال يحتاج إلى أن يكونوا هم من يتصدر لقيادته.

كان الزعماء المؤسسون لحماس، في معظمهم، لاجئين ولدوا فيما بات الآن إسرائيل، وأجبروا على الخروج إلى قطاع غزة في أثناء ما يطلق عليه الفلسطينيون اسم النكبة، حيث تم تهجير ما يقرب من 700 ألف فلسطيني من ديارهم في أثناء حرب عام 1948. فعلى سبيل المثال، ولد الزعيم الروحي للحركة، الشيخ أحمد ياسين، في عام 1936 في قرية الجورة، بجوار مدينة عسقلان، في جنوب إسرائيل كما هي اليوم. كان الشيخ أحمد ياسين صغير الحجم، يتحدث بصوت ناعم، يرتدي سترة بيضاء ويستخدم كرسيا متحركا، بسبب إعاقة أصيب بها في حادث وقع له في صغره، ولذلك فقد كان الناس يرون في حالته تجسيدا لمعاناتهم.  وفي عام 2004 اغتالت إسرائيل الشيخ أحمد ياسين، كما فعلت مع العديد من قادة حماس، وذلك حينما أطلقت مروحيات إسرائيلية الصواريخ عليه وعلى مرافقيه، بينما كان يغادر المسجد بعد صلاة الفجر.

كان ميثاق الحركة التأسيسي الذي صدر عام 1988 عبارة عن مزيج من الاقتباسات القرآنية، ومقتطفات من أبحاث عن العقيدة الإسلامية، وشعارات قومية، وتحليلات تقوم على نظرية المؤامرة المعادية للسامية. عرفت الوثيقة أرض فلسطين باعتبارها وقفا إسلاميا، "موقوفة لأجيال المسلمين القادمة حتى يوم القيامة،" لا يجوز التنازل عن شبر واحد منها. اتهم الميثاق الصهاينة بأنهم من حرض على الثورتين الفرنسية والبلشفية، ووصم منظمات مثل "الماسونية وأندية الروتاري والليونز" باعتبارها "منظمات هدامة مهمتها جمع المعلومات الاستخباراتية"، وأنها هي التي يسرت السبيل أمام "صهيونية اليهود.،" كما أدرج الميثاق النضال الوطني الفلسطيني تحت راية حرب دينية. فكان، بمعنى آخر، ميثاقا لا يليق بحركة لم تلبث خلال عقد واحد من الزمن أن دخلت حلبة التنافس على تمثيل القضية الفلسطينية، التي ظلت طوال معظم نصف القرن الذي سبق ذلك تحت قيادة مجموعات تعتنق العلمانية.

ما إذا كان التطرف الإسلامي الذي يعبر عنه ميثاق التأسيس يمثل الأيديولوجيا التشغيلية للحركة أم لا، لم يزل محل جدل تقريبا منذ تأسيس الحركة. بعض الباحثين المتخصصين في السياسة الإسلامية، يرون أن خطاب حماس الديني هو في الأساس إطار مكرس لخدمة أهدافها القومية، الأمر الذي يعد بالنسبة لها الهم المركزي. وحسبما يقول عزام التميمي، مؤلف كتاب "حماس: تاريخ من الداخل"، لقد أدرك زعماء الحركة أنها، بينما كانت تنمو، احتاجت إلى وسيلة أفضل لتعريف نفسها أمام العالم الأوسع تساعدها في الوصول إلى الناس فيه. ولذلك، واستجابة لطلب من دبلوماسي أوروبي بأن تقدم الحركة توضيحا لأهدافها، أصدرت الحركة في منتصف التسعينيات وثيقة عنوانها "هذا هو الذي نناضل من أجله". تعرف الحركة نفسها في هذه الوثيقة بشكل مختلف تماما عما ورد في الميثاق التأسيسي. فهنا حماس "حركة تحرير وطني فلسطيني تناضل من أجل تحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفي سبيل انتزاع اعتراف بالحقوق الشرعية الفلسطينية."، وهذا يعني أن سؤال: كيف نفهم حماس؟ نما من داخل الفجوة التي تفصل بين هذين النمطين من الخطاب: بين جهاد لا هوادة فيه، ولغة المقاومة ضد الاستعمار، بين الأيديولوجيا الأصولية والبراغماتية السياسية.

في كتابه "احتواء حماس: صعود وتسكين المقاومة الفلسطينية"، يقول طارق باقوني؛ إنه "لا يوجد حماس واحدة"، ويضيف؛ "إنه مجهود لا طائل منه، بل وعمل خاطئ واختزالي من الناحية المبدئية، أن يحاول أحد تصوير الحركة على أنها فاعل أحادي."، فهناك داخل الحركة متشددون وبراغماتيون، فيها محافظون متدينون، وفيها في المقابل معتدلون، فيها من أولويتهم النضال المسلح ضد إسرائيل، وفيها – على الأقل حتى وقت قريب – من سعوا لتحقيق مكاسب عبر الوسائل السياسية. "ولقد سعت حماس باستمرار إلى المناورة بين المسارات العنفية والمسارات الدبلوماسية، بل والقفز من مسار إلى آخر، كلما رأت أن في ذلك خدمة لمصالحها". كما يقول هيو لوفات، الخبير في شؤون الشرق الأوسط وزميل السياسة في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية.



ومع ذلك، حتى وإن لم تكن قيادة حماس موحدة في مسائل تتعلق بالرؤية، فإن استمرار الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة، منح الحركة وحدة الهدف. في عام 1993، عندما أقدمت منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات على الاعتراف بدولة إسرائيل، وأعلنت تخليها عن العنف مع التوقيع على اتفاقية أوسلو الأولى. كانت حماس هي من رفعت راية المقاومة المسلحة وتعهدت بتحرير كل أراضي فلسطين التاريخية. جاء الاتفاق بين إسرائيل ومنظمة التحرير مخيبا لآمال كثير من الفلسطينيين، وليس فقط أنصار حركة حماس. في مقال متبصر نشره في عام 1993، وصف المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد اتفاقيات أوسلو بأنها "وثيقة الاستسلام الفلسطينية، فرساي الفلسطينية". وكتب إدوارد سعيد يقول؛ إن ياسر عرفات وافق على التخلي عن النضال المسلح ضد إسرائيل، وأسقط الحق الفلسطيني المعترف به أحاديا ودوليا، في الضفة الغربية وقطاع غزة، بينما لم تقدم إسرائيل أي تنازل على الإطلاق".

طوال تسعينيات القرن الماضي، ظلت حماس معارضة بحزم لاتفاقيات أوسلو، واستمرت في تكثيف قتالها ضد إسرائيل. كانت هجماتها في سنواتها الأولى تأخذ، بالدرجة الأولى، شكل الهجمات بالأسلحة النارية الصغيرة، وبالعبوات الناسفة المتواضعة، ومحاولات اختطاف الجنود الإسرائيليين بوسائل تقنية ضعيفة. تغير ذلك في السادس من إبريل (نيسان) 1994، عندما قام رجل فلسطيني، بعث به أحد قادة الجناح المسلح في حركة حماس، بتفجير نفسه عند موقف حافلة في مدينة العفولة شمالي إسرائيل، فقتل ثمانية إسرائيليين. كان ذلك بوضوح ردا انتقاميا على المذبحة التي أودت بحياة 29 مصليا في المسجد الإبراهيمي، التي نفذها قبل شهرين من ذلك متطرف إسرائيلي؛ رجاء أن يفضي ذلك إلى إجهاض محادثات السلام بين الحكومة الإسرائيلية ومنظمة التحرير. كما كان التفجير الانتحاري تعبيرا عن بروز الاستراتيجية العسكرية لدى حماس، حيث خلص زعماء حماس إلى أن موت المدنيين هو نقطة الضعف لدى إسرائيل، معتقدين أنهم سوف يتمكنون بذلك من العصف بالإحساس الإسرائيلي بالأمان الشخصي، وأنهم سوف ينجحون في نهاية المطاف في النيل من العزيمة الإسرائيلية.

كان انهيار محادثات كامب ديفيد في عام 2000، واندلاع الانتفاضة الثانية، معلما على تحول حماس إلى أكثر من مجرد معوق للأمور، حيث برزت كمنافس حقيقي يتحدى منظمة التحرير ومؤسسات السلطة التي تشكلت مؤخرا. وكلما مضت إسرائيل في بناء المستوطنات، وكلما رسخت جهاز الاحتلال العسكري، من خلال إقامة نقاط التفتيش وإنشاء الأسوار، بدت فتح والسلطة الفلسطينية أكثر فأكثر في صورة المستسلم الخانع، واكتسب موقف حماس غير المتنازل مزيدا من الشعبية والتأييد. ومع مضي الحركة في شن المزيد من الهجمات الانتحارية طوال العقد الأول من الألفية الجديدة، راحت تنوع في ترسانتها. وفي عام 2001 أطلقت حماس أول صاروخ لها من قطاع غزة.

بالنسبة لقادة حماس، بدا كما لو أن استراتيجية العنف هذه أثبتت صدقيتها في شهر أغسطس (آب) من عام 2005، حينما بدأت إسرائيل بسحب جيشها وأكثر من ثمانية آلاف مستوطن من قطاع غزة. (في المقابل، بالنسبة لرئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك آرييل شارون، كان المقصود من فك الارتباط أن يكون تحركا تكتيكيا غايته تقويض مفاوضات السلام. بعد فك الارتباط مباشرة خرج محمد الضيف، خليفة عياش وقائد كتائب القسام، على الملأ ليعلن؛ "إنكم اليوم تغادرون غزة مخزيين. أما حماس فلن تضع سلاحها، ولسوف تستمر في النضال ضد إسرائيل حتى تمحوها من الخارطة".

------ ------- -------

لعل أحد النتائج المفاجئة للانسحاب الإسرائيلي من غزة، أنه بينما بدا للكثيرين في حماس، كما لو أن ذلك كان انعكاسا لنجاح النضال المسلح، إلا أنه كان اللحظة التي بدت فيها الحركة وقد حولت تركيزها باتجاه ممارسة أكثر للسياسة المتعارف عليها. قبل ذلك كانت حماس قد قاطعت العملية الانتخابية، على اعتبار أن المشاركة ستكون بمنزلة اعتراف باتفاقيات أوسلو. أما الآن، وقد شعرت بالنشوة بفضل الانسحاب الإسرائيلي، فقد قررت حماس المشاركة في انتخابات المجلس التشريعي التي نظمت في يناير (كانون الثاني) من عام 2006، وخاضت الانتخابات ببرنامج انتخابي يطالب بمكافحة الفساد وبالالتزام بالنظام والقانون. في تطور صادم للكثيرين في السلطة الفلسطينية وإسرائيل وإدارة بوش، فازت حماس بالأغلبية المطلقة. وحينها قالت وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس: "سألت لماذا لم يستشرف أحد هذه النتيجة؟". وبذلك غدت الحركة التي طالما رفضت المؤسسات التي كانت من نتاج إطار أوسلو، مكلفة الآن بإدارتها بما اكتسبته من تفويض شعبي.

من خلال مشاركتها في الانتخابات، بدت حماس كما لو أنها تعطي الأولوية للمشاركة السياسية على حساب اللجوء إلى ممارسة العنف. وعن ذلك تقول تهاني مصطفى، محللة الشؤون الفلسطينية في مجموعة الأزمات الدولية: "ثمة مبادئ أساسية لن يتخلوا عنها، ولكن في نهاية المطاف، ليسوا جامدين في مقاربتهم. وهذا لا يعني أنهم سوف يتخلون عن القتال من أجل تحرير فلسطين، إنه فقط الاعتراف بما يريدون، وبما يسمح به الواقع، ثم السعي لإيجاد المساحة المتوسطة بين الاثنين." قبيل الانتخابات، كانت حماس بقيادة خالد مشعل آنذاك قد وقعت على إعلان القاهرة لعام 2005، الذي أكد أن منظمة التحرير الفلسطينية "هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني"، والذي دعا كذلك إلى إقامة الدولة الفلسطينية.

في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، كتب باقوني مقالا نشرته مجلة فورين أفيرز قال فيه: "لقد خضعت حماس بحكم الأمر الواقع في الفترة من 2005 إلى 2007 لبرنامج سياسي، كان من الممكن لو تم تنفيذه بشكل صحيح أن يفضي إلى إقامة دولة فلسطينية بجوار إسرائيل وإلى إنهاء الاحتلال."، ولكن ما إذا كانت السلطة الفلسطينية بإدارة حماس كانت ستستخدم التفويض الشعبي للمضي قدما في مشروع الدولة الفلسطينية المحاذية لإسرائيل، أم إنها كانت ستهيمن على السلطة الفلسطينية وتستخدمها في تكثيف الصراع المسلح، كما كان يخشى الزعماء الإسرائيليون، ما كنا لنعرف ذلك إطلاقا. يقول باقوني في كتابه "احتواء حماس"؛ إن "مقامرة حماس" – انتقالها إلى المشاركة ضمن إطار السلطة الفلسطينية والإقرار بالدولة الفلسطينية على خطوط السبعة والستين – "آتى أكله، من حيث إنه لم يمكن إثبات ما إذا كانت صادقة في ذلك أم لا".

ردا على انتصار حماس في انتخابات 2006، رفض أعضاء حركة فتح المشاركة في الحكومة التي تشكلت بقيادة حماس. قامت إسرائيل بعد ذلك بتضييق الخناق على قطاع غزة، وسرعان ما قامت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بقطع المساعدات. بحلول خريف 2006، كانت مجموعات مسلحة تابعة لفتح وأخرى تابعة لحماس تنفذ عمليات اغتيالات وخطف وتعذيب متبادلة ضد أنصار بعضهما بعضا، حتى مع استمرار محادثات الوحدة بين عباس ومشعل. وفي 14 يونيو (حزيران) 2007، بعد خمسة أيام من القتال العنيف في غزة، طردت حماس السلطة الفلسطينية من المنطقة، – وفجأة وجدت حماس نفسها في دور جديد تماما، فقد غدت الآن مسؤولة عن الحياة اليومية في قطاع غزة.

---- ----- ----- -----

ذات مرة زعم الشيخ أحمد ياسين أنه في أثناء الانتفاضة الأولى، رفض عرضا إسرائيليا باستلام مقاليد الأمور في قطاع غزة، وقال عن ذلك: "لكان من الجنون أن نوافق على أن نكون مجرد وكلاء لحكم إسرائيل."، ولكن ها هي حماس الآن تجد نفسها ملزمة بمهمة إدارة المنطقة المحاصرة من الجو والبر والبحر، وعرضة لما يكاد يكون قصفا جويا ومدفعيا دوريا من قبل إسرائيل.

بالتدريج تمكنت حماس على مدى العقد ونصف العقد التاليين من التمكن وترسيخ حكمها داخل الشريط الساحلي. بدا للبعض أنها تحولت من جماعة متشددة تحمل أيديولوجيا المعارضة المسلحة إلى قوة حاكمة فيما يشبه الدولة. ربع أعضاء حكومتها الأولى المنتخبين كانوا من خريجي الولايات المتحدة. قال لي خليل صايغ، ناشط السلام المولود في غزة: "لم يكونوا إطلاقا ديمقراطيين أو سلطويين ناعمين، كما تحكي عنهم بعض الأدبيات. بل كانوا سلطويين صلبين، إلا أنهم كانوا أذكياء بما يكفي لخداع الغرب حول كيفية تعاملهم مع الوضع". بعد طردها لفتح، تحركت حماس نحو الحد من سلطات العشائر في غزة، حيث إن تلك العشائر كانت تمثل بديلا لقاعدة الحكم. يضيف صايغ أنه من أجل قمع المعارضة وفرض التساوق، اعتمدت حماس على أساليب تراوحت بين الفضح على الملأ والابتزاز والتعذيب.

لم تقدم حماس أبدا على تطبيق أحكام الشريعة، وذلك على الرغم من الإلحاح عليها من قبل بعض المتشددين داخل الحركة، ولكنها حاولت، بشكل شديد العشوائية، سن قوانين تتعلق بالأخلاق العامة. يقول تقرير صادر عن مجموعة الأزمات في عام 2011؛ إن "إجراءات الأسلمة كانت توضع قيد التجريب، ثم لا تلبث أن يتم التراجع عنها إذا اعترض المواطنون.". في الوقت نفسه، واجهت حماس انتقادات من المجموعات السلفية الأكثر تطرفا؛ لإخفاقها في فرض أحكام الشريعة الإسلامية بحزم داخل المنطقة. وفي عام 2009، عندما أعلن سلفيون على صلة بالقاعدة عن إقامة دولة إسلامية في جنوب القطاع، سارعت قوات حماس إلى سحقهم بعنف في أثناء هجوم شنته على أحد المساجد في رفح.



طورت حماس نظام أنفاقها الموسع من أجل الالتفاف على الظروف القاسية التي نجمت عن الحصار، وكذلك من أجل حماية مقاتليها من الضربات الجوية الإسرائيلية. أصبحت الأنفاق التي تربط غزة بمصر، بشكل خاص، هي شريان الحياة الاقتصادية والقناة الأولى لتهريب الأسلحة. بحسب إحدى التقديرات، بلغت إيرادات الأنفاق التي دخلت على حكومة حماس في السنوات التي تلت عام 2010 ما يقرب من 750 مليون دولار في العام. ومع ذلك، لم يحل ذلك دون ما تسميه الباحثة الأمريكية في العلوم السياسية سارا روي "انتزاع التنمية من غزة". بينما شهدت السنوات الأولى من حكم حماس نموا اقتصاديا، تراجع الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للرأس الواحد ما بين عام 2007 وعام 2022 بمعدل 2.5 بالمائة في العام الواحد، حيث شهد القطاع نموا حادا في التعداد السكاني. ولطالما حذر مسؤولو الأمم المتحدة خلال العقد ونصف العقد الماضيين، من أن غزة كانت على شفا أزمة إنسانية.

خلال تلك السنين، طورت حماس وإسرائيل نمطا من التعامل فيما بينهما، ما يطلق عليه باقوني: توازن الوضع الحربي. غدا إطلاق حماس للصواريخ من غزة وسيلة للتفاوض مع إسرائيل، مقابل التوقف عن إطلاق النار، كانت حماس تطلب تخفيف قيود الحصار أو تطلب تصاريح عمل لأعداد أكبر من العمال الفلسطينيين الذين يعبرون إلى إسرائيل. بالمقابل، كانت إسرائيل ترد على صواريخ حماس بقصف جوي ومدفعي، فيما يسمى "قص العشب"، -كما كان يصفه الاستراتيجيون العسكريون الإسرائيليون في كنايتهم البشعة –، إلى أن تزعم بأنها ردعت حماس بما فيه الكفاية ومنعتها عن القتال، حتى الجولة القادمة التي لا مفر منها.

بالنسبة لإسرائيل، غدت حماس مفيدة بوصفها الحكومة الفاعلة في غزة، إذ كانت مسؤولة عن إسناد سكان غزة المحاصرين واحتواء نشاطات المجموعات المسلحة والمتشددة الأخرى، تماما كما تفعل السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية. في الوقت نفسه، احتفظت حماس بالقدرة على الزعم بأنها تمثل المقاومة التي لا تخضع لإسرائيل. وعن ذلك تقول زها حسن، المحامية المتخصصة في حقوق الإنسان، التي كانت كبيرة المستشارين القانونيين لدى الفريق الفلسطيني المفاوض في أثناء سعي فلسطين للحصول على عضوية الأمم المتحدة: "بدا كما لو أنه كان هناك نمط من التعامل والتعايش بين إسرائيل وحماس". تضيف زها؛ أن الشهر الذي سبق السابع من أكتوبر، شهد "قدرا أكبر من التفاعل والتعامل بين إسرائيل وحماس، من ذلك الذي كان قائما بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية".

بالنسبة لنتنياهو، كان لهذا الترتيب فائدة إضافية. فمن خلال الإبقاء على الضفة الغربية التي تديرها السلطة وقطاع غزة الذي تديره حماس تحت إدارتين منفصلتين، ضمنت إسرائيل كذلك بقاء الحركة الوطنية الفلسطينية منقسمة على ذاتها، وبذلك غدا من السهل التحكم بها. على مدى عقد من الزمن، ساعدت حكومة نتنياهو إدارة حماس في غزة على تدبير شؤونها من خلال تسهيل تحويل مليارات الدولارات من قطر إلى المجموعة الإسلامية. في رسالة تلقيتها عبر البريد الإلكتروني، أخبرني حسين إبيش، كبير الباحثين المقيمين في معهد دول الخليج العربي: "لطالما احتفظ نتنياهو باستمرار بشراكة غير مفصوح عنها مع حماس، التي اعتبرها مكسبا لا يقدر بثمن ضمن سعيه للحيلولة دون قيام دولة فلسطينية. وإن استراتيجية فرق تسد التي انتهجها بكل مكر، والتي لا يبدو أنه تخلى عنها بعد، هي التي أفضت حتما إلى ما جرى يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول)".

ولكن لم يكن نتنياهو مجرد ماكر فيما ذهب إليه، فقد بدا مثله في ذلك مثل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، معتقدا بجد أن عبء الحكم أفضى إلى تحول جوهري في الاعتبارات الاستراتيجية للمجموعة،  وأن حماس قد تم فعليا تسكينها.

---- ----- ---- ----- -----

بات الآن أكثر جلاء من أي وقت مضى أن سياسة إسرائيل تجاه حماس كانت مبنية على تناقض. فمن ناحية، بررت إسرائيل حصارها العقابي وقصفها المنتظم لقطاع غزة، انطلاقا من القول؛ إن حماس كانت مجموعة إرهابية متعطشة للدماء، تسعى إلى تدمير إسرائيل. ومن جهة أخرى، في تعاملها الفعلي مع حماس، كانت إسرائيل تتصرف كما لو أن حماس تخلت ليس فقط عن التزامها بتدمير إسرائيل، وإنما عن أي رؤية بديلة للاحتلال، ورضيت بأن تستمر في إدارة غزة إلى الأبد.

إلا أن الانطباع من داخل حماس، وفي أوساط أنصارها، يختلف تماما عن ذلك. قال لي عزام التميمي متحدثا عبر الهاتف من إسطنبول، ملخصا وجهة نظره في هذا الموضوع: "2008-2009، 2012، 2014، 2021 – كانت حروبا مستمرة، وليس صحيحا أنه تم تسكين حماس، فهي لم تتوقف عن القتال، وإنما ما كنا نراه هو استراحات محارب". لا يختلف هذا التحليل كثيرا عن الطريقة التي ترى بها جل المؤسسة الأمنية في إسرائيل حماس اليوم. أضاف التميمي: "لم تتوقف حماس يوما عن الإعداد لعمليات ترد بها على الانتهاكات الإسرائيلية. أقصد أن الاستعدادات للسابع من أكتوبر (تشرين الأول)، ليست من النوع الذي يتم بين عشية وضحاها".

وبالفعل، في أوساط المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، تم اعتبار الإخفاقات المتراكمة التي حدثت يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، دليلا على أن حكومات نتنياهو كانت طوال الوقت لا تفهم حماس. ولذا بدأ بعد ذلك يبرز إدراك عام جديد. عندما تحدثت في أواخر ديسمبر (كانون الأول) مع كوبي مايكل، كبير الباحثين في معهد الدراسات الأمنية الوطنية، وهو مركز بحث وتفكير على علاقات وثيقة بالجيش الإسرائيلي، قال لي: "شعرنا بأننا إذا رشونا المنظمة من خلال توفير المال أو من خلال تمكينها من تنمية الاقتصاد، فإنها يمكن أن تصبح كيانا أكثر إحساسا بالمسؤولية وقابلا للمحاسبة. إلا أن ذلك كان وهما". ويرى مايكل أن الزعماء الإسرائيليين فشلوا في رؤية أن حماس، في جوهرها، منظمة مهدوية لا يمكن تغييرها. وقال؛ "إن طريقة تفكيرهم دينية جدا، وهذا يعني أنها لا عقلانية. كان مناسبا لنا أن نعتبرها شبيهة بنا".

بينما تستمر رحى الحرب في الدوران، يقول المحللون السياسيون الإسرائيليون بشكل متزايد؛ إن اللغة الحربية المتشددة التي تصدر عن زعماء حماس، ينبغي أن تؤخذ حرفيا. وأنهم حينما يتعهدون باستمرار القتال حتى القضاء على إسرائيل، فإنهم يعنون ما يقولون. تعليقا على ما يصدر عن حماس من أدبيات وبيانات باللغة العربية، يقول مايكل ميلشتين، وهو ضابط مخابرات سابق: "قرأت كتابات الطرف الآخر بلغتها الأصلية، وأنا أصدقها، أنا بكل بساطة أصدقها". ولذلك فهو يرى أن أحد الأسباب الرئيسية من وراء الإخفاق الهائل الذي مني به الجيش الإسرائيلي يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، هو أن وكالات الاستخبارات، بل وحتى القادة السياسيون في البلد، وهو الأمر الأكثر كارثية، نسوا طبيعة عدوهم، وفشلوا في الأخذ على محمل الجد التهديدات العلنية المتعددة التي صدرت عن زعماء حماس، بأنه يتم الإعداد لعملية عسكرية ضخمة ضد إسرائيل.

يرى معظم الإسرائيليين الآن، أنه من غير الوارد أن يتحقق سلام مادامت حماس موجودة. ولكن عندما تحدثت مع غيرشون باسكن ثانية في مارس (آذار)، أخبرني أنه هو وغازي حمد عادا وتواصلا، وأن الرغبة في التواصل من جديد كانت متبادلة. وعن ذلك قال: "حصل الاتصال الأول قبل حوالي شهرين، وكان عبارة عن ذهاب وإياب غير لطيف. والسؤال الأساسي هو: هل من الممكن لنا أن نؤدي دورا بناء في إقامة قناة خلفية سرية؟". ويضيف باسكن: "ليس ذلك واضحا بعد".

اليوم، مثلما كان عليه الحال قبل ثلاثين عاما، تستمد حماس جل شعبيتها من إحساس الفلسطينيين بالإحباط. وهذا ما عبر عنه الشيخ أحمد ياسين في حديث له عام 1998 مع صحفي الغارديان الراحل إيان بلاك، حيث قال: "عندما يزداد القهر يبدأ الناس بالبحث عن الله".
في استطلاع للرأي أجراه خليل الشقاقي، تبين أن 72 بالمائة من الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، يعتقدون بأن حماس محقة في شن هجمات السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، وذلك على الرغم من الدمار الذي ألحقته إسرائيل بالقطاع. إذا بقيت حماس، كما يعتقد كثيرون، قوة بعد أن يتوقف القتال، فبأي شكل، وماذا ستكون تداعيات ذلك؟

يقول أنصار فكرة إدماج حماس في بنى السياسة الفلسطينية؛ إن قادة المجموعة كانوا ذات يوم جادين في البحث عن حل مرحلي، يتمثل في دولة فلسطينية على جزء فقط من فلسطين التاريخية، وأنهم، إذا ما كانت الظروف مناسبة، فقد يكونون على استعداد للعودة إلى ذلك تارة أخرى. يقول هيو لوفات متحدثا عن انفتاح حماس على حل الدولتين، كما تم التعبير عنه في الوثيقة التي صدرت عن الحركة في عام 2017: "من الواضح أن ثمة جناحا سياسيا ومعتدلا نسبيا داخل حماس. والسؤال هو: ما الذي يحصل له؟ هل سينشق عن الحركة؟ أم إنه سوف يطغى عليه تماما الجناح المتشدد؟ أم إنه سوف يجد وسيلة لتوجيه الحركة من جديد لتعود إلى المسار السياسي؟".

أولئك الذين يرون أن من الضروري أن يكون لحماس دور مستقبلي في السياسة الفلسطينية –وهو رأي يفترض وجود الاستعداد لدى حماس للانضمام إلى المؤسسات التي طالما احتقرتها من قبل–، يقولون؛ إن إقصاء حماس لن يكون سلوكا ديمقراطيا، بل ومن المحتمل أن يفضي إلى مزيد من سفك الدماء في المستقبل. قال لي باقوني عندما تحدثنا هاتفيا؛ "إن إدماجهم مطلب أساسي من أجل إيجاد قيادة فلسطينية تمثل شعبها، بغض النظر عن كيفية رؤيتنا لما يستخدمونه من وسائل أو يحملونه من أيديولوجيا".

في الوقت نفسه، عندما سألت باقوني عن آفاق العودة إلى حل الدولتين بعد الحرب، لم أجده متفائلا. فقد أجابني قائلا: "لو كان هناك عملية سياسية من شأنها أن تفضي إلى قيام دولة فلسطينية على حدود السبعة والستين – التي لا أراها واردة، كدولة تتمتع بسيادة حقيقية –، أعتقد أن حماس، سياسيا واستراتيجيا، سوف تشارك فيها بفعالية، وأظن أنها لسوف تُدفع نحو الاعتراف بالفرص الكامنة في عملية دبلوماسي كهذه."، إلا أن باقوني أضاف؛ إنه على خلفية الدمار الشامل الذي لحق بغزة، بات الحديث عن العودة إلى حل الدولتين مجرد إلهاء. وقال: "لا أرى أي نوع من عملية سياسية فعالة تنبثق عن هذا الخطاب القديم، الذي يعود بنا إلى عقد التسعينيات أو إلى مطلع العقد الذي يليه".

ولكن على الأغلب، لن تسنح الفرصة لاختبار استعداد قيادة حماس للدخول في المسار السياسي من جديد. وعن ذلك قال نيثان براون، الباحث في وقفية كارنيغي للسلام الدولي، في إشارة إلى إمكانية أن تقود الولايات المتحدة عملية تفضي إلى دخول حماس في منظمة التحرير الفلسطينية: "أعتقد أن فكرة دمج حماس في منظمة التحرير الفلسطينية فكرة رائعة، ولكنها باتت الآن مستحيلة. فأنت تحتاج جوهريا إلى أن يموت الجيل الحالي من الزعماء الأمريكيين حتى تصبح الفكرة محتملة سياسيا. ناهيك عن أن الفكرة غير واردة بالنسبة للإسرائيليين".

لقد مال الرأي العام الإسرائيلي أكثر نحو اليمين بعد هجمات السابع من أكتوبر (تشرين الأول). صحيح أن شعبية بنيامين نتنياهو تراجعت، ولكن من غير المحتمل أن يكون خليفته حمائميا. ورغم أنه صحيح أن رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين وافق في أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات من القرن الماضي، على التحدث مع منظمة التحرير الفلسطينية ومع ياسر عرفات، الذي كان يعد من وجهة نظر معظم الإسرائيليين إرهابيا لا يتوب، إلا أنه لم يتسن التوقيع على اتفاقيات أوسلو إلا بعد أن وافقت منظمة التحرير على الالتزام بمجموعة من الشروط المسبقة. بالمقارنة، ليس بإمكان أي من زعماء حماس، على الإطلاق، التخلي تماما عن النضال المسلح أو الموافقة على الاعتراف رسميا بإسرائيل.

ثمة نزوع نحو رؤية بعض الأحداث، مثل هجمات السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، والحرب التي ماتزال دائرة، من خلال عدسة التصدع. يبدو أن الموت والدمار على مثل هذا المستوى الهائل يشيران إلى تحول نمطي، وإلى الدخول في مرحلة جديدة. ولكن جزءا مما يجعل تنفيذ إسرائيل للحرب الحالية مرعبا جدا، هو أنه بعد قتل أكثر من ثلاثين ألف فلسطيني، وبعد مقتل 1200 إسرائيلي على يد حماس يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، قد يبقى الإطار السياسي الأساسي لإسرائيل وفلسطين في اليوم الذي يلي الحرب تماما كما كان عليه في يوم السادس من أكتوبر (تشرين الأول).