قضايا وآراء

الجامعات الأمريكية والمفارز الأمنية العربية

غضب في الجامعات الأمريكية- جيتي
من أعظم المكاسب التي حصلت عليها قضية فلسطين مؤخرا، انضمام جامعات أمريكية مرموقة من الناحية العلمية والأكاديمية، للتعبير عن غضبٍ من سياسات إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، غضب الطلبة والأساتذة في هذه الجامعات تجاه جرائم الإبادة في غزة، والمطالبة بسحب استثمارات من إسرائيل والعمل على مقاطعتها، والمطالبة بوقف تصدير السلاح لإسرائيل.

ليست الإضاءة هنا على الشعارات المرفوعة من الطلبة في الجامعات الأمريكية، وانضمام كتلة "الصوت اليهودي للسلام"، التي أعطت زخما مختلفا لها لإسقاط ذريعة قمعها واتهامها بمعادة السامية، بل في هذا الوعي المتسع بقضية العدالة لفلسطين وشعبها، كما عبرت عنه الكاتبة والناشطة البريطانية اليهودية "نعومي كلاين" في صحيفة الغارديان قبل أيام، والتي قامت بنقد الرواية الصهيونية عندما أشارت الى أن "الكثير من الناس يعبدون الصنم الزائف مرة أخرى، إنهم مسحورون به وسكارى ومدنسون به.. اسم هذا الصنم الزائف هو الصهيونية".

وأضافت: "منذ البداية أنتجت الصهيونية وجها بشعا للحرب رأت في الأطفال الفلسطينيين بأنهم ليسوا بشرا، بل تهديد ديمغرافي، تماما كما خشي الفرعون في سفر الخروج من تزايد أعداد الإسرائيليين ولهذا أمر بقتل أولادهم".
في غمرة العاصفة التي تجتاح الجامعات الأمريكية والغربية والأسترالية، غضبا على إسرائيل وسياساتها العدوانية ضد الشعب الفلسطيني ومع عدالة قضيته، يقف المواطن العربي ليسأل عن دور جامعاته ومؤسساته الأكاديمية في مواكبة هذا المكسب بعد فقدان الدور الأصيل لها، وفعلها المفقود بتثوير عقل الطالب برفض الظلم والعدوان الواقع على أشقائه في العروبة والتاريخ الدين

تفكيك السردية الصهيونية وفضح أساليبها وطرق خداعها في الغرب، أو الولايات المتحدة، مهمة شاقة على العرب والفلسطينيين، وطالما كانت وسائل الخطاب الرسمي العربي متعثرة أو ميتة في مهدها في هذه المحاولات المفتقرة لمعرفةٍ وجديةٍ للتأثير بالرأي العام الغربي وتغييره، والذي ظن صنّاعه ورعاته في الولايات المتحدة أنه بمقدورهم التعايش والانسجام مع الإبادة الجماعية للفلسطينيين، مع ظن مماثل في النظام الرسمي العربي بأن المضي بسياسة الاشمئزاز من أي تحرك في شوارعه وجامعاته بعد قمعٍ ووحشية يمكنه من القبض على عنق الحقيقة ولي ذراعها للأبد.

في الولايات المتحدة هناك نفوذ واسع للوبيات صهيونية على وسائل إعلام أمريكية، ونفوذ يمول جامعات مهددة بقطع التمويل عنها بسبب الاحتجاجات ضد جرائم الإبادة الصهيونية في غزة، وضد التعاون العلمي مع الجامعات الإسرائيلية الذي توظف أهدافه لتطوير أساليب إبادة الشعب الفلسطيني، وبما يذكر العالم بحقبة الطفرة العلمية في الجامعات النازية التي وظفت لنفس الغرض.

وتعمل هذه اللوبيات للتحريض على الجامعات والطلاب وتطالب بقمعها، لكن تحشيد السلطات الأمريكية والغربية لحالة القمع لن يفيد في الحفاظ على مكانة وسردية الاحتلال، وعلى مرتبة منع المساس به. هناك أصوات مسؤولة وجادة تتحدث عن مسؤولية إسرائيل عن الإبادة الجماعية، ليس في المحكمة الجنائية الدولية بل في عقر المؤسسات الأكاديمية وفي مجتمع الطلبة المؤسس لعصب تلك المجتمعات، ليظهر اليوم عجز غربي وأمريكي بأن يبقى صمام أمان أبدي لبربرية صهيونية استعمارية مفضوحة باختبار "الديمقراطية" وحرية التعبير المناهضة للسياسة الاستعمارية الصهيونية في فلسطين.

وفي غمرة العاصفة التي تجتاح الجامعات الأمريكية والغربية والأسترالية، غضبا على إسرائيل وسياساتها العدوانية ضد الشعب الفلسطيني ومع عدالة قضيته، يقف المواطن العربي ليسأل عن دور جامعاته ومؤسساته الأكاديمية في مواكبة هذا المكسب بعد فقدان الدور الأصيل لها، وفعلها المفقود بتثوير عقل الطالب برفض الظلم والعدوان الواقع على أشقائه في العروبة والتاريخ الدين. والجواب الموجود في جامعته الأشهر "الجامعة العربية" يأتي دوما مخيبا لآمال وطموحات عربية في السياسة والأمن والاقتصاد والتعليم والتنمية والمواطنة وغيرها.

فلا يصح أن يقارن المرء بين جامعات غربية تتحرك وفقا لمبدأ المواطنة الكاملة وحرية التعبير والرأي وللدساتير الناظمة لها، بغض النظر عن القمع المؤقت لها والذي سيكون له وقع مؤلم على صورة أمريكا مستقبلا من شريحة الطلاب، وبين جامعات عربية تقدم الطاعة والولاء للنظام القائم، ونشاطها يقوم على تخريج أجيال يسكنها الرعب والخوف بانتهاك مستمر لإنسانيتها وكرامتها. الأمر مختلف بين منهجية القمع العربي ومأسسته بإرخاء ظلاله على كل المجتمع، بما فيه الجامعات، لاختبار ولاء المواطن للسلطة المطلقة، وبين محاولات غربية لفرض سردية صهيونية تتفكك في الجامعات الغربية والأمريكية بفضل صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته للإبادة الجماعية.

ترتبط المشاركة الطلابية الواسعة بالاحتجاج على السياسة الاستعمارية الصهيونية في الجامعات الأمريكية، ارتباطا مباشرا مع البنية الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والسياسية. ففي هذه الكليات وقبلها في مرحلة التأسيس التعليمي يدرس الطالب عن دور الجيش والأمن والشرطة بشكل صحيح نسبيا في دولة ومجتمع "ديمقراطيين"،
لا يروق مشهد انتفاضة الجامعات الغربية والأمريكية ضد إسرائيل لا للنظام العربي ولا جامعته العاجزة عن استخدام قوتها الأخلاقية والإنسانية والسياسية لمنع الإبادة الجماعية في فلسطين، فهذا المشهد المتصدع لصورة إسرائيل ومكانتها في الجامعات يحشر الجميع في نفس الزاوية، وتحت ذات الشيطنة القائلة عن مؤامرة كونية أو معاداة للسامية يهزأ منها نشطاء اليهود من أجل السلام
وتبذل المؤسسات التعليمية جهدا في مرحلة مبكرة من التعليم بأن دور العسكر هو لتأمين حمايتهم وحماية حدود بلادهم والدفاع عن "مصالحهم"، وتصبح نخب بعض هذه الجامعات مستشارين للمؤسسات العسكرية والأمنية بمسائل استراتيجية، بينما في العالم العربي يتركز الجهد التعليمي من البداية للنهاية على تقديس دور الزعيم، ومصادرة عقل الطالب والأستاذ والأكاديمي ليصير هاتفا باسمه وضاربا بسيفه زملاءه الطلاب ومعارفه وأقاربه.

لهذا تجد نفس الأكاديميين العرب أو من أصول عربية في جامعات غربية وأمريكية خلافا للنموذج السيئ الذي ظهرت عليه رئيسة جامعة كولومبيا "نعمت شفيق"، فهناك نماذج فلسطينية حفرت في الوعي الغربي معرفة وحضورا من مكانة أكاديمية مرموقة خلال العقود الماضية أمثال: إدوارد سعيد، وإبراهيم أبو لغد، وهشام شرابي، ومنير نايفة، وعصام النمر، ورشيد الخالدي، وحنا ميخائيل، وبقية الأسماء الطويلة وصولا للطبيب الفلسطيني البريطاني غسان أبو ستة، رئيس جامعة غلاسكو.

أخيرا، لا يروق مشهد انتفاضة الجامعات الغربية والأمريكية ضد إسرائيل لا للنظام العربي ولا جامعته العاجزة عن استخدام قوتها الأخلاقية والإنسانية والسياسية لمنع الإبادة الجماعية في فلسطين، فهذا المشهد المتصدع لصورة إسرائيل ومكانتها في الجامعات يحشر الجميع في نفس الزاوية، وتحت ذات الشيطنة القائلة عن مؤامرة كونية أو معاداة للسامية يهزأ منها نشطاء اليهود من أجل السلام.

كان بوسع الجامعات العربية أن تبادر لحالة مماثلة من الاحتجاجات، وكذلك مؤسسات ونقابات تعبر عن غضبها من سياسات أنظمتها المتحالفة مع المشروع الصهيوني، ولأن لديها أسبابا أصيلة ومضاعفة للتعبير عن الغضب ورفض وجود المحتل وسياساته، لكن افتقار الجامعات والمؤسسات الأكاديمية للسبل الأساسية من التعبير منعها من القيام بمهام أخلاقية تكسبها بعدا إنسانيا وقيميا، لذلك بقيت الجامعة العربية ورعايتها الأكاديمية أشبه بمفارز أمنية تقوم على مهمة تجميل الطاغية العربي وتهذيب هزيمته.

twitter.com/nizar_sahli