كتاب عربي 21

مرسي و"الشامخ" وسدنة الهيكل

1300x600
لم نكن بحاجة لأحكام الإعدام بالجملة حتى نعرف حقيقة الدور المخزي للقضاء المصري في وأد الثورة المصرية، وفي إعادة الثورة المضادة ورجال مبارك للحكم، وفي الذهاب بمصر إلى مصير مظلم، قد يصل إلى حد الحرب الأهلية لا قدر الله.

فقد لعب هذا القضاء دورا محوريا في تزوير إرادة المصريين في عهد مبارك، وكان أداة بيد النظام لفرض إرادته السياسية على المواطنين والمعارضين، وهو ما أدى إلى ظهور "تيار الاستقلال" على أيدي القضاة الذين رفعوا لواء الدفاع عن شرفهم ومهنتهم.

على أن فضائح "الشامخ!" تضاعفت بشكل ملفت بعد ثورة يناير، وتمثلت هذه الفضائح بمهرجانات البراءات لرجال عهد مبارك، والتعامل "الناعم" مع الرئيس المخلوع "لأسباب صحية"، ومنع مرشحين من خوض الانتخابات بسب أحكام "عسكرية" ظالمة أوقعت عليهم قبل الثورة، وحل مجلس النواب المنتخب، إلى أن وصل الدور البائس إلى ذروته في عهد الرئيس مرسي، ممثلا في رفض قرار مرسي بإعادة مجلس الشعب للانعقاد، والتلويح باستخدام القضاء لحل مجلس الشورى بهدف تقليم أظافر الرئيس المنتخب في ذلك الوقت.

بالطبع، رافق هذه المحطات الكبيرة من العبث القضائي حرب يومية قادها القضاة المرتبطون بالعسكر ونظام مبارك ضد الثورة، وضد الرئيس المنتخب، حيث شكل نادي القضاة برئاسة أحمد الزند منصة للحرب الكلامية والقانونية والسياسية اليومية ضد مرسي، بحجة الدفاع عن استقلال القضاء، في مهزلة مضحكة مبكية، حين يتحدث عن الاستقلال من عرفوا بارتباطهم العضوي بالسلطة، وبممارستهم لتخريب القضاء عبر الامتيازات التي يقدمها النادي.

وبمقابل النقد الشديد و"التجريح" الذي نال المنظومة السياسية من الثوار والشعب في الفترة التي أعقبت ثورة يناير، تمتع القضاء بنوع من الحصانة، فاقت حتى حصانة "المجلس العسكري" الذي كان في مرمى نيران النقد بعد أن تولى مسؤولية حكم البلاد في المرحلة الانتقالية، وقد اكتسب القضاء هذا الوضع المريح لأسباب تتعلق بالتزام الثورة بقوانين النظام السابق، وبعدم وجود اتفاق شعبي-ثوري على آليات لتطهير أركان الدولة العميقة ومن بينها القضاء.

وفي مشهد الانقلاب العسكري المؤسس لكل الجرائم التي تحدث اليوم في مصر كان القضاء حاضرا عبر رئيس مجلس القضاء الأعلى، وهو المجلس الذي رشح أيضا هشام بركات ضمن ثلاثة قضاة، ليتم اختياره بمنصب النائب العام من قبل عدلي منصور أداة العسكر في المرحلة الانتقالية، الذي هو أيضا قاض ورئيس المحكمة الدستورية، ما يعني أن القضاء كان ركنا أساسيا في الانقلاب على إرادة الشعب المصري التي عبرت عن نفسها من خلال صناديق الاقتراع.

ليس في هذا السرد لمخازي منظومة القضاء المصري جديد، ولكن حفلات الإعدام الجماعي التي يصدرها قضاة بشكل يفوق الكوميديا السوداء أعادت التذكير بالدور الأسود لهذه المنظومة، وبفشل الثورة المصرية بوضع حد لها، بل وبدور من كانوا يعتبرون أنفسهم "سدنة هيكل" الثورة بمنع تطهير القضاء، وبعرقلة الخطوات الخجولة التي حاول الرئيس مرسي تنفيذها في هذا الاتجاه.

حاول مرسي إزاحة النائب العام عبد المجيد محمود المعين من قبل مبارك، واستخدم في البداية طريقة "ناعمة" بتعيينه سفيرا في الفاتيكان، ولكن عيون الدولة العميقة سربت النبأ لوسائل الإعلام على أنه إقالة للرجل، ما دفعه لمقاومة القرار ورفض التعيين، وهو الأمر الذي أوقع الرئيس في حرج كبير، وأظهره بمظهر المتردد بعد أن أضطر لإلغاء قراره المشار إليه.

لم يبق أمام مرسي والحال هذه سوى اللجوء لحلول "ثورية" لإسقاط النائب العام باعتباره المسؤول عن اختيار دوائر المحاكمات في القضايا التي تنظر بجرائم النظام السابق، وهو المسؤول أيضا عن تعيين ممثلي النيابة الذين يعدون ملفات الاتهام لتمثيل "الشعب" في هذه القضايا. أعلن مرسي جملة من القرارات التي تصب جميعها في تقليم أظافر القضاء المرتبط بالدولة العميقة، وجاءت هذه القرارات ضمن الإعلان الدستوري الصادر في نوفمبر 2012، وهو الإعلان الذي فجر الأزمة الأخطر في عهد مرسي القصير الذي لم يستمر اكثر من سنة.

كان الإعلان الدستوري فرصة مهمة لتغيير النائب العام، ولإغلاق الباب أمام سعي العسكر لحل مجلس الشورى والجمعية التأسيسية لكتابة الدستور عبر المحكمة الدستوري العليا التي كانت قد حلت مجلس الشعب قبل ذلك، ولكن التحالف غير المكتوب في ذلك الوقت بين المعارضة العبثية بقيادة جبهة الإنقاذ، وبين الدولة العميقة، إضافة إلى "سذاجة" قوى الثورة أفرغ هذه الخطوة من مضمونها وحولها بدلا من ذلك إلى محطة من محطات التاريخ الدموي في مصر.

صحيح أن الإعلان الدستوري كان مشوبا بالأخطاء الإجرائية وعلى مستوى الصياغة، ولم يسبقه تنسيق بين قاعدة الرئيس الحزبية "ممثلة بالإخوان" وبين شركاء الثورة السابقين، ولم يرافقه أيضا تنسيق حتى مع مساعدي الرئيس مثل نائبه ووزير العدل في حكومته، إلا أن هذه الأخطاء كان يمكن تجاوزها بحوار حقيقي بين الرئاسة وشركاء الثورة، الذين كانوا حتى في تلك الفترة يشتركون مع الإخوان في الرغبة بإزاحة النائب العام، وبنقد القضاء، ولكنهم كانوا يختلفون بشأن التأسيسية.

خلال سنة حكم مرسي تغلبت المناكفات على القواسم المشتركة بين شركاء ثورة يناير، ولولا ذلك لأمكن القيام بخطوات "هادئة" ولكنها مؤثرة في إطار تطهير القضاء، مع ملاحظة أن بعض أعمدة تيار استقلال القضاة لعب أيضا دورا سلبيا في هذه المعركة، من خلال رفعهم للشعار الرومانسي الساذج "القضاء يطهر نفسه"، خصوصا بعد لجوء بعض التيارات الإسلامية لمحاصرة المحكمة الدستورية احتجاجا على دورها السلبي في المسار الذي أعقب الثورة.

أنهي حكم مرسي بالقوة العسكرية في انقلاب يوليو، وعين العسكر "نائبهم" العام، وها هي مصر تعاني منذ حوالي سنتين تحت وطأة هذا القضاء، الذي برأ مبارك ورجاله، وأعدم شبابا في محاكم هزلية، وحكم المئات بالموت في محاكمات لم تتجاوز مدتها خمس دقائق، وأدان شركاء الثورة جميعهم، أولئك الذين كانوا يوما ما جنبا إلى جنب في ميدان التحرير، ثم صاروا أعداء وجها لوجه في الاتحادية وغيرها من الميادين.

يطالب الكثيرون من الفرقاء المصريين وشباب الثورة الإخوان بالاعتذار عن أخطائهم، وهو طلب محق، وقد اعتذر الإخوان فعلا على لسان أكثر من متحدث وقيادي، ولكن العدل يقتضي أن يعتذر شركاء الثورة الذين تعاملوا بسذاجة مع مسألة تطهير القضاء، ولم يدعموا مرسي بجهوده الصغيرة في هذا المجال، فالاعتذار ليس مطلوبا فقط من الإخوان، وإنما من جميع الأطراف التي ارتكبت أخطاء أثناء السنوات الماضية، ومنهم بالطبع من يعتبرون أنفسهم "سدنة هيكل" الثورة!