كتاب عربي 21

الكرنك.. كلاكيت مرة ثانية

1300x600
مشهد من السينما

إسماعيل الشيخ ممدد على السرير في غرفة نومه. ضوء مصباح يسلط على وجهه.

رجل: أنت، أنت

إسماعيل (يفتح عينيه): مين؟

رجل: أنت إسماعيل الشيخ؟

إسماعيل: أيوه، فيه حاجة؟

الرجل: قوم معانا...

وفي مشهد مواز، يطمئن رجل مخابرات آخر والدي خطيبته زينب ذياب بالقول:

الرجل: متخافوش كلها نص ساعة بالكثير وترجع لكم.

مشهد من الواقع

يتناوب عدد من الشباب على المرور أمام الكاميرا لتصوير "اعترافاتهم" بالانتماء إلى "واحدة من أخطر الخلايا الإرهابية" معددين مختلف التدريبات التي تلقوها، وأيضا الأهداف التي كانوا يخططون للاعتداء عليها. 

الفيديو كان من إصدار الشؤون المعنوية للقوات المسلحة المصرية، وفيه ظهر بعض ممن عانوا قبل أسابيع من ذات مصير إسماعيل الشيخ وزينب ذياب. 

ومن هؤلاء كان صهيب سعد الحداد، الذي اختطف مع صديقه عمر محمد علي، وصديقتهما إسراء الطويل، وظلوا مختفين قسريا قبل أن يظهروا موزعين بين سجون "المحروسة" التي تعج بأقرانهم من شباب مصر. في المخيال الشعبي المصري كان الاختفاء القسري مرادفا لوجود صاحبها "وراء الشمس"، لكن النظام الجديد عدلها لتصبح وجودا على أشرطة بسيناريو وإخراج بليدين على صفحة الناطق العسكري.

وبين المشهدين في الواقع، وكما نقلته السينما من خلال فيلم الكرنك لمخرجه علي بدرخان المنتج قبل أربعين سنة من اليوم، مسيرة عناء وألم وامتهان كرامة للمختفين كما عائلاتهم لا يخرج منها إلا قليلون سليمي عقل وبدن.

يؤرخ كثيرون لبداية ظاهرة الاختفاء القسري الممارس في ظل أنظمة الاستبداد الحديثة إلى الزعيم النازي أدولف هتلر من خلال مرسوم الليل والضباب الذي كان يستهدف غربلة أي شخص يهدد الأمن القومي الألماني ويعارض النظام النازي. 

بعدها شكلت دول أمريكا اللاتينية مرتعا خصبا لهذه الممارسة بالأرجنتين والشيلي ونيكاراغوا وغيرها مخلفة آلاما لم تندمل بعد رغم الأشواط التي قطعتها تلك الدول في إرساء دعائم حكم تعددي وديمقراطي. فمصير الآلاف من المختفين أيام الانقلابات العسكرية لا يزال حتى اليوم مجهولا. 

وكانت حركة أمهات المختفين طوال فترة الحكم العسكري بالأرجنتين مثالا يحتذى في الإصرار على التذكير بمصير أبنائهن لدرجة تحولها لحركة المعارضة الوحيدة طوال ثلاثين عاما، وهي التي بدأت بأربعة عشر امرأة حولن كل خميس إلى يوم للتجمهر أمام قصر الرئاسة والمطالبة بكشف مصائر المختفين ومحاكمة المتورطين. 

وبالرغم من شيوع الاختفاء القسري كسلاح بأيدي الأنظمة الديكتاتورية، لم تعتمد الجمعية العامة للأمم المتحدة أول قرار بشأن الموضوع إلا نهاية سبعينيات القرن الماضي بمبادرة فرنسية، تلاه الإعلان المتعلق بحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري عام 1992، وصولا إلى الاتفاقية الدولية لحماية الأشخاص من الاختفاء القسري سنة 2006.

عودة إلى السينما

أفراد من عائلتي إسماعيل وخطيبته زينب واقفون على مكتب رجل أمن بمركز شرطة.

الشرطي: مفيش محضر باسمهم ولا دخلوا هنا خالص. قلت لك مش عندنا

والد زينب: مش عندكم إزاي؟

الأخ: مش ممكن يكونوا ودوهم حته ثانية

الشرطي: دفتر الأحوال أهو، ودفتر السجن أهو. مفيهومش الأسماء ده خالص...

ومن داخل زنزانته في معتقل بلا اسم ولا عنوان، يضرب إسماعيل بكلتا يديه على الباب الحديدي.
الحارس: مين بيخبط؟

إسماعيل: أنا

الحارس: أنت مين؟

إسماعيل: 17

الحارس: بطل غلبة يا 17.

لقد تحول إسماعيل ورفاقه إلى مجرد أرقام لشخصيات بلا هوية ولا مكان معلوم. تلك أول درجات امتهان الكرامة تمارس على المعتقلين قبل أي تعذيب جسدي. فلا أقوى ولا أشد على المرء من أن يتحول إلى مجرد شبح أو رقم متسلسل في لائحة أجساد بلا روح.

تنص المادة الأولى من الاتفاقية المعتمدة من منظمة الأمم المتحدة على أنه لا يجوز تعريض أي شخص للاختفاء القسري، ولا يجوز التذرع بأي ظرف استثنائي كان، سواء تعلق الأمر بحالة حرب أو التهديد باندلاع حرب، أو بانعدام الاستقرار السياسي الداخلي، أو بأية حالة استثناء أخرى، لتبرير الاختفاء. كما تنص المادة الخامسة على أن ممارسة الاختفاء القسري العامة أو المنهجية جريمة ضد الإنسانية كما تم تعريفها في القانون الدولي المطبق وتستتبع العواقب المنصوص عليها في ذلك القانون.

في مصر حيث أعلن النظام العسكري عن حربه "المقدسة" على الإرهاب استدرارا للاعتراف الدولي، وهو ما وفق فيه مع كثير من دول "العالم الحر"، لا صوت يعلو على صوت الناطق العسكري والبيانات الصادرة عن القوات المسلحة. مرسوم الليل والضباب المعروف بتسميته الجديدة "قانون مكافحة الإرهاب" واضح في هذا الباب، وأبواق السلطة صحافيين ومحللين استراتيجيين وخبراء أمنيين يسوقون للمشروع على أنه خلاص الأمة الوحيد. وفي مثل هذه الظروف الاستثنائية لا مكان لحديث عن قوانين دولية أو اتفاقيات أو حريات فردية كانت أو جماعية. فكيف الحال ومصر غير مصادقة أصلا على اتفاقية مناهضة الاختفاء القسري؟

لقد وثقت المنظمات الحقوقية كيف أن اللجوء لهذه الممارسة في حق معارضي حكم عبد الفتاح السيسي، التي صارت طقسا يوميا عاديا، رفع عدد المختفين إلى المئات منذ بداية السنة مع تسجيل حالات وفاة جراء التعذيب الممارس داخل أقبية المخابرات ومعتقلاتها. 

مصر ليست ولن تكون الممثل العربي الوحيد في اللائحة السوداء للأنظمة التي تلجأ للاختفاء القسري منهاجا لقمع المعارضة. 

ففي عراق البعث والمليشيات من بعده آلاف المختفين.

وفي سوريا الأسد والتنظيمات المسلحة آلاف المختفين.

وفي لبنان، مصير أكثر من سبعة عشر ألف مختف من أيام الحرب الأهلية لا يزال مجهولا، بل صار من المحرمات التي لا يسمح الاقتراب منها.

وفي ليبيا القذافي والتنظيمات المسلحة من بعده آلاف المختفين.

وفي تونس، لا يزال ذوي اليوسفيين يبحثون عن مصير ورفات الأبناء والآباء الذين اختفوا على يد البورقيبية وأقبرت ملفاتهم إلى اليوم.

وفي الجزائر، لا يجرأ أحد على الحديث عن آلاف المختفين طوال العشرية السوداء التي مرت منها البلاد خلال تسعينيات القرن الماضي.

وفي المغرب، ورغم كل العمل الذي أنجزته هيئة الإنصاف والمصالحة، لا يزال مصير عدد مهم من المختفين مجهولا، ولا يعرف مصيرهم حتى اليوم. ولا تزال ذكرى معتقلات تزمامارت وأغلبية ودرب مولاي الشريف وغيرها كثير تطارد الضحايا قبل الجلادين، وتمنع إقفال ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان أيام سنوات الرصاص.

وفي بقية الدول العربية الأخرى قصص وروايات عن "مواطنين" صاروا بلا أثر بعد اعتقال.

كان أول لقاء لإسماعيل الشيخ، الطالب الشاب المختطف لمجرد اقتراحه في حديث مع زملائه توزيع القماش الذي تكتب عليه الشعارات السياسية على الفقراء، فذاك أنفع لهم، مع خالد صفوان، مدير المخابرات، مؤشرا على أن للسلطة نظرتها للأمور تختلف كليا عن آمال المواطن بسيطا كان أو ناشطا ثوريا أو برلمانيا "منتخبا".

إسماعيل (بعد أن تنزع العصابة عن عينيه): الحمد لله! أخيرا لقيت حد مسؤول زي حضرتك أعرف أتكلم معاه.

المخبر( وهو يضربه على قفاه): متكلمش إلا لما خالد بيه يسألك

ثم تبدأ الأسئلة..

المحقق: انضميت للإخوان المسلمين إيمتا؟

إسماعيل: إخوان؟ أنا عمري ما كنت إخوان

خالد صفوان: ومال مربي ذقنك ليه

إسماعيل: ده طولت لا مؤاخذة وأنا هنا

خالد صفوان: على العموم ارتحت من حلاقتها.

المحقق: تعرف إيه عن التنظيم؟

إسماعيل: أنا معرفش أي حاجة عن التنظيم

خالد صفوان: بطل لف ودوران واتكلم عدل. متخلنيش أزعل منك

إسماعيل: أنا مؤمن بالثورة ولا يمكن أفكر في نشاط معادي للبلد

المحقق: ومال نشاطك مع الإخوان كان إيه بالضبط؟

إسماعيل: يا أفندم أنا حتى للأسف مبصليش

المحقق: إحنا ميهمناش بتصلي ولا لأ. إحنا يهمنا الأفكار المسمومة إيلي بتقولوها بين زمايلكم في الكلية.........

في فيلم الكرنك، مصير ثلاثة شباب متحمسون للثورة هم زينب وإسماعيل وحلمي، انتهى المصير بأولاهم إلى الاغتصاب والارتماء لفترة في أحضان الرذيلة ما دام جسدها قد استبيح في حضرة السلطة، وبثانيهم إلى الانكسار التام بعد كل الضغط الرهيب الذي مورس عليه واكتشافه أن كل ما قدمه من تنازلات لم يشفع له في تحقيق هدفه بحماية خطيبته من الاعتداء، وبثالثهم إلى انتهاج العمل السري سبيلا بعد معاناة القهر التي ذاقها طوال فترة الاعتقال.

وفي "مصر الجديدة" اعتقل من بين كثيرين ثلاثة شباب متحمسون للثورة هم إسراء وعمر وصهيب ولا يزال عموم الشعب متفرجا في انتظار خاتمة الحكاية أكانت اغتصابا أو انكسارا أو انتهاجا للعمل السري في مواجهة القهر والاستبداد. 

الكرنك كان اسم مقهى كان أبطال الفيلم يجتمعون فيها. يبدو أن مصر ونجوعها صارت مجرد "كرنك" يعيث فيه العسكر فسادا.

فرجة... "ممتعة".

عفوا، لم ينته الفيلم بعد. 

لقد اعتقل إسماعيل ومن معه مرة أخرى. وفي لقائه مع خالد صفوان ومحققيه كان السؤال:

المحقق: انت انضميت للشيوعيين ايمتا؟

هزلت...