كتاب عربي 21

تونس الثورة في قبضة الفساد

1300x600
لا حديث اليوم في مهد ثورات الربيع العربي تونس إلا عن حالات الفساد الضخمة والمرعبة التي انتشرت في البلاد انتشار النار في الهشيم، بشكل أصبح ينذر بانفجار كبير قد يحوّل البلاد إلى منوال حالات عربية مشابهة.

قد نعجز عن حصر جبل الفساد الضخم الذي يمثل في الحقيقة الإدارة العميقة للدولة ولمجمل مؤسساتها، لكن حالات الفساد تحولت اليوم إلى حالات هستيرية تنذر فعلا بانفجار كبير وكبير جدا. فبعد المواد الغذائية الفاسدة، وبعد اللحوم المسرطنة، واللوالب الطبية الفاسدة، والحقن الطبية القاتلة، وسطو الأمن على المواطنين في وضح النهار.. وبعد صمت الدولة المطبق عن الجرائم التي تتورط فيها قيادات أمنية وسياسية وعصابات محلية كبيرة تصل تونس اليوم إلى مرحلة اللاعودة..

الكارثة الأخرى هي تورط نقابات أمنية مشهورة في محاولات اختراق شبكة من القضاة المكلفين بملفات إرهابية حساسة عبر شبكات دعارة مكونة من قاصرات، وهو ما يضيف شكوكا جديدة حول ملف الإرهاب الذي نجح في حرف الثورة التونسية عن مسارها، وهو الملف الذي مكّن الدولة البوليسية القمعية من العودة من جديد.

الحالة التونسية حالة مستعصية من جهة تحوّل الفساد من توصيف لظاهرة تضرب الدولة إلى جزء ومكوّن أساسي من مكوّنات الدولة وهو جزء تمكّن اليوم من خلق آلياته الداخلية العاملة بسبب سيطرة نفس العصابات القديمة على دواليب الحكم والاقتصاد والرقابة في الدولة.

الجمارك التونسية مثلا بؤرة سحيقة من بؤر النهب والفساد والتهريب المنظم للمواد المحرّمة والممنوعة، بما فيها الأسلحة والمخدرات والمعادن النفيسة والعملة الصعبة، بل وصل الأمر بالجمارك التونسية إلى سرقة أمتعة المسافرين في مشهد يومي معتاد. الوزارات صارت كذلك قطاعات تختص بنهب المال العام ومكانا لتكوين الثروات المشبوهة وإبرام العقود المزورة في كل المصالح والإدارات، بشكل تحوّل معه الفساد والرشوة إلى قيم ثابتة من قيم الإدارة التونسية.

مصطلح "أفرحْ بيَّ" الذي يعرفه الليبيون جيدا ويتذكره التونسيون المقيمون بالمهجر، وفحواه طلب رشوة رسمية من قبل عون الجمارك التونسي، هو خير مترجم لما صار عليه الفساد من سلوك يومي يميّز كل قطاعات الدولة من بوابتها الخارجية إلى قلبها السيادي، والخاص بالقطاعين الصحي والأمني.

حالة الفساد خلقت ردود أفعال كثيرة تجمع كلها على أن السبب الذي أحدث الانفجار التونسي الكبير في أواخر سنة 2010 لا يزال قائما، إن لم يكن قد عرف تطورا نوعيا كبيرا. فبعد أن كان الفساد في تونس فسادا قطاعيا هرميا منظما تشرف عليه عصابات تابعة للأسرة الحاكمة بأجنحها المختلفة، صار اليوم فسادا متشضيا يخترق كل الفضاء المالي والاقتصادي والاجتماعي، ولا يتحكم فيه أحد قط، بل صارت مؤسسات الدولة المكلفة بمحاسبة الفساد ومراقبته جزءا لا ينفصل عن منظومة الفساد التونسية التي تضرب البنوك و الوزارات والسفارات، وكل المؤسسات السيادية للدولة.

هذا الوضع السريالي دفع أحد المواطنين إلى القول بأن التفجير الإرهابي في المطارات التونسية أمرٌ مستحيل؛ لأن القنبلة تُسرق قبل أن تنفجر. آخرون عبروا عن صدمتهم من الفساد الذي يضرب القطاع الصحي بأن المواطن التونسي صار يخاف من الطبيب ومن الدواء أكثر من الخوف من المرض.

الفساد في تونس صار يتحرك مع ذرات الهواء فهو في كل مكان وحيثما ذهبت، ومعه يتحرك عجز الدولة أو "شبح الدولة" عن محاربة الفساد ومقاومة الفاسدين.

كل هذا يؤشر على أمرين أساسيين بالنسبة للثورة وللثوّار:

الأمر الأول، هو أن شروط الثورة لا تزال قائمة، بل إن شعار الثورة الأبرز، وهو "التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق"، يعبّر اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، عن حالة شبيهة بالحالة التونسية التي سبقت الانفجار الكبير سنة 2010. وهو أمر يؤكد بوضوح على أن احتمال تجدد الحراك الثوري خلال الأشهر القادمة أمر غير مستبعد إطلاقا، بل هو أرجح الاحتمالات مع بلوغ الأسعار مستويات خيالية، مع الانهيار الحر للعملة التونسية واقتراب مواعيد تسديد ديون كبيرة.

أما الأمر الثاني فيتمثل في إيقان التونسيين بأن العملية السياسية بكل تفريعاتها، حتى الجدية منها، عاجزة عن الوقوف أمام جبل الفساد الشامخ، بل إن تدوير المشهد السياسي بين الحكومة السابقة والحكومة القادمة لا يشكل غير إضاعة للوقت وإعادة توزيع للمناصب بين المتسلقين وإيهام بالتغيير نحو الأفضل، في حين يزداد الوضع سوءا على كل الأصعدة.

إذا كان من الصعب التنبؤ بمخرجات الحالة التونسية فإن الثابت الأكيد هو أن بقاء قبضة الفساد متحكمة في المشهد التونسي لن تسمح بالاستقرار إطلاقا، بل إنها ستسارع بإزالة المساحيق الانقلابية وستعيد شروط الحراك الشعبي القادم الذي سيستأصل أولا وقبل أي شيء كل أورام الفساد من جذورها.